يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ.
(67)
قولُهُ تعالى شأنُه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ} ناداه بأَشْرَفِ صِفةً يمكنُ أن يوصف بَشَرٌ بها، أن يكون رسولَ اللهِ العظيمِ ـ تبارك وتعالى ـ إلى عباده. و"بَلِّغْ" أيْ أَظْهِرِ التَّبْلِيغَ واجْهَرْ بِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يُخْفِيهِ كما أُمِرَ في حينِه مِنْ ربِّه لحكمةٍ يُريدُها ـ سبحانَه وتعالى ـ ثُمَّ أُمِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِإِظْهَارِ ما أُنزِلَ إليه من ربِّهِ. وقولُهُ: "بَلِّغْ" وهو قد بَلَّغَ، معناهُ بَلِّغْ جميعَ ما أُنْزل إليك، أَيْ: أَيَّ شيءٍ أُنْزلَ، غيرَ مُراقِبٍ في تبليغِه أَحَدًا، ولا خائفٍ أَنْ يَنالَكَ مَكروهٌ، فقد أُمِرَ الرسول ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ بالتبليغِ على الاستيفاءِ والكَمالِ، لأنَّه كان قدْ بلَّغَ، والمَعنى على الديمومةِ كقولِه ـ تعالى: {يا أَيُّهَا النبيُّ اتَّقِ اللهَ} الأحزابُ: 1. وقولِه: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ} النساء: 136.
قال مجاهدٌ: لَمَّا نَزَلَتْ: "بَلِّغْ ما أُنزِلَ إليكَ مِنْ رَبِّكَ"، قالَ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّما أَنَا واحدٌ، كيف أَصْنَعُ؟ تجَمَّعَ عَليَّ النّاسُ! فنزلتْ: "وإن لم تفعل فما بلغت رسالته"، الآية. ويَدُلُّ الْإِفْرَادُ في"رسالتَه" عَلَى الْكَثْرَةِ، فَهِيَ كَالْمَصْدَرِ وَالْمَصْدَرُ فِي أَكْثَرِ الْكَلَامِ لَا يُجْمَعُ وَلَا يُثَنَّى لِدَلَالَتِهِ عَلَى نَوْعِهِ بِلَفْظِهِ كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها}
إبراهيم: 34.
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الخطابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ وَقَالَ: لَا نَعْبُدُ اللهَ سِرًّا، وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قولُهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الأنفال: 64.
وفي الْآيَةُ رَدٌّ لقَوْلِ الرافضةِ الذين قالوا: إِنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ تَقِيَّةً، وَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى بَلِّغْ جَمِيعَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، فَإِنْ كَتَمْتَ شَيْئًا مِنْهُ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ، وَهَذَا تَأْدِيبٌ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَأْدِيبٌ لِحَمَلَةِ الْعِلْمِ مِنْ أُمَّتِهِ أَلَّا يَكْتُمُوا شَيْئًا مِنْ أَمْرِ شَرِيعَتِهِ، وَقَدْ عَلِمَ اللهُ تَعَالَى مِنْ أَمْرِ نَبِيِّهِ أَنَّهُ لَا يَكْتُمُ شَيْئًا مِنْ وَحْيِهِ، وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ النَبِيَّ الكريمَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يُسِرَّ إِلَى أَحَدٍ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، لِأَنَّ مَعْنَاها ومقتضاها أنْ بَلِّغْ جَمِيعَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ظَاهِرًا، وَلَوْلَا هَذَا مَا كَانَ فِي قَوْلِهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ: "وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ" فَائِدَةٌ، فالعمومُ الكائن في: "ما أَنْزَلَ" يُفيدُ أنَّه يَجبُ عليه ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ أنْ يُبَلِّغَ جميعَ ما أَنْزَلَهُ اللهُ عليْه لا يَكْتُمُ منه شيئًا، ولقد ثَبَتَ في الصَّحيحيْن عن السيدةِ عائشةَ أُمِّ المؤمنين ـ رضيَ اللهُ عنها أنَّها قالت: (مَنْ زَعَمَ أنَّ مُحمَّدًا ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ كَتَمَ شيئًا مِنَ الوَحْيِ فقد كَذَبَ).
وأخرجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِه عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ ـ رضي اللهُ عنها ـ أَنَّهَا قالتْ له: مَنْ حدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ فَقَدْ كَذَبَ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ".
وفي صحيحِ البُخاريِّ مِنْ حديثِ أَبي جُحَيْفَةَ وَهْبٍ بْنِ عبدِ اللهِ السّوائيِّ قال: قلتُ لِعَلِيٍّ بْنِ أَبي طالبٍ هَلْ عِنْدَكمْ شيءٌ مِنَ الوَحْيِ مِمَّا ليسَ في القُرآنِ؟ فقال: (لا والذي فَلَقَ الحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسْمَةَ إلَّا فَهْمًا يُعْطيهِ اللهُ رَجلًا في القرآنِ وما في هذِه الصَحيفَةِ)، قلتُ: وما في هذِهِ الصَحيفةِ؟ قال: (العَقْلُ وفِكاكُ الأَسيرِ، وأنْ لا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بكافِرٍ). العقلُ: أي الدِيةُ. يَعني بيانُ مَقاديرِ الدِياتِ.
وقال ابْنُ أَبي حاتِمٍ إنَّ هارونَ بْنَ عَنْتَرَةَ الشَيْبانيِّ أَخْبَرَهُ أنَّ أَباهُ قالَ: كنتُ عندَ ابْنِ عبَّاسٍ، فجاءَ رجلٌ فقالَ لَه: إنَّ ناسًا يأتونَنا فيُخبرونَنا أنَّ عِندَكم شيئًا لَمْ يُبْدِهِ رَسولُ اللهِ للناسِ. فقال ابْنُ عبَّاسٍ: (أَلَمْ تَعلمْ أنَّ اللهَ تعالى قال: "يا أيُّها الرسولُ بَلِّغْ ما أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} واللهِ ما وَرَّثَنا رسولُ اللهِ سَوْداءَ في بَيْضاءَ).
كما ثَبَتَ في صحيحِ مُسْلِمٍ عن جابرٍ بْنِ عبدِ اللهِ أنَّ رسولَ اللهِ قال في خُطْبَةِ الوَداعِ ((أَيُّها الناسُ، إنَّكم مَسؤولون عَنِّي، لِما أنتم قائلون))؟ قالوا نَشهدُ أنَّكَ قد بَلَّغْتَ وأَدَّيْتَ ونَصَحْتَ. فجَعَلَ يَرْفع إصبِعَهُ إلى السماءِ ويُنْكِسُها إليهم ويَقولُ: ((اللَّهُمَّ هلْ بَلَّغْتُ)). وللحديث روايات كثيرةٌ. فقَبَّحَ اللهُ الرَّوَافِضَ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّهُ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ وَالسَلامُ ـ كَتَمَ شَيْئًا ممَّا أَوْحى إِلَيْهِ كَانَ بِالنَّاسِ حَاجَةٌ إِلَيْهِ.
قولُه: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} أَعْلَمَهُ اللهُ ـ سبحانَه وتعال ـ بأَنَّهُ عاصِمُهُ مِنَ النَّاسِ وحافظُه مِنْ كيدِ المُشركين وشُرورِهم. وفي هذه الآيةِ الكريمة دَلِيلٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ لِأَنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ، وَمَنْ ضَمِنَ ـ سُبْحَانَهُ ـ لَهُ الْعِصْمَةُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ شَيْئًا مِمَّا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ.
وَجاء في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الكثير من الخبار والأحاديث
الصحيحة منها: أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَانَ نَازِلًا تَحْتَ شَجَرَةٍ فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَاخْتَرَطَ سَيْفَهُ وَقَالَ لِلنَّبِيِّ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقَالَ: "اللهُ"، فَذُعِرَتْ يَدُ الْأَعْرَابِيِّ وَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، وَضَرَبَ بِرَأْسِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى انْتَثَرَ دِمَاغُهُ، ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِ الشِّفَاءِ قَالَ: وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي الصَّحِيحِ، وَأَنَّ غُورُثَ بْنَ الْحَارِثِ صَاحِبُ الْقِصَّةِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَفَا عَنْهُ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ وَقَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مُسْتَوْفًى.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله قال: غزَوْنا معَ رسولِ اللهِ غَزْوَةً قِبَلَ نَجْدٍ فَأَدْرَكَنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ،(شجرٌ عظيمٌ) فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَعَلَّقَ سَيْفَهُ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، قَالَ: وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْوَادِي يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إن رَجُلًا أَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ فَأَخَذَ السَّيْفَ فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي فَلَمْ أَشْعُرْ إِلَّا والسيفُ مُصْلَتًا فِي يَدِهِ فَقَالَ لِي مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ، قُلْتُ: اللهُ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّانِيَةِ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ، قُلْتُ: اللهُ. قَالَ فَشَامَ السَّيْفَ (رَدَّهُ في غِمْدِهِ أو سلَّه فهي من الأضداد) فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ" ثُمَّ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَمَّا بَعَثَنِي اللهُ بِرِسَالَتِهِ ضِقْتُ بِهَا ذَرْعًا وَعَرَفْتُ أَنَّ مِنَ الناسَ مَنْ يُكَذِّبُني، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ)). وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ يُرْسِلُ كُلَّ يَوْمٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رِجَالًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يَحْرُسُونَهُ حَتَّى نَزَلَ قولُه ـ سبحانه: "وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ" فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا عَمَّاهُ إِنَّ اللهَ قَدْ عَصَمَنِي مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فَلَا أَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَحْرُسُنِي)). وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِمَكَّةَ، وَأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ نَزَلَتْ في مَكَّةَ، ولكنَّها وُضِعَتْ في هذه السورةِ المَدنيَّةِ لِحِكْمَةِ دوامِ التبليغِ. وَقيلَ لَيْسَ الأمرُ كَذَلِكَ، وفقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَهِرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَقْدَمَهُ الْمَدِينَةَ لَيْلَةً فَقَالَ: ((لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ)). قَالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ سَمِعْنَا خَشْخَشَةَ سِلَاحٍ، فَقَالَ: ((مَنْ هَذَا))؟ قَالَ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا جَاءَ بِكَ))؟ فَقَالَ: وَقَعَ فِي نَفْسِي خَوْفٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَجِئْتُ أَحْرُسُهُ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ثُمَّ نَامَ. وَفِي غَيْرِ الصَّحِيحِ قَالَتْ: فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ سَمِعْتُ صَوْتَ السِّلَاحِ، فَقَالَ: ((مَنْ هَذَا))؟ فَقَالُوا: سَعْدٌ وَحُذَيْفَةُ جِئْنَا نَحْرُسُكَ، فَنَامَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رَأْسَهُ مِنْ قُبَّةِ أَدَمٍ وَقَالَ: ((انْصَرِفُوا أَيُّهَا النَّاسُ فَقَدْ عَصَمَنِي اللهُ)).
ومن هذه الروايات ما أَخرجَه ابْنُ أبي حاتِمٍ عن جابرٍ بْنِ عبدِ اللهِ الأَنصارِيِّ ـ رضي اللهُ عنه ـ قال: لَمَّا غَزا رَسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بَني أَنْمارَ، نَزَلَ ذاتَ الرِّقاعِ بأعْلى نَخْلٍ. فبينَما هو جالِسٌ على رأسِ بِئْرٍ قد دَلَّى رِجليْه، فقالَ الحارثُ مِنْ بَني النَجَّارِ: لَأَقْتُلَنَّ مُحَمَّدًا، فقال لَه أَصحابُه: كيفَ تَقتُلُه؟ قال: أَقولُ لَه أَعْطِني سَيْفَكَ، فإذا أَعْطانيهُ قَتَلْتُهُ بِهِ. قال: فأتاهُ فقال: يا محمَّدُ. أَعْطِنِي سَيْفَكَ أَشِيمَه ـ أيْ أراه ـ فأعطاهُ إياه ـ فرَعَدَتْ يَدُهُ حتَّى سَقَطَ السيفُ مِنْ يَدِهِ: فقال رسول اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ ـ ((حالَ اللهُ بَيْنَكَ وبَيْنَ ما تُريدُ)). فأنزَلَ اللهُ: {يا أيُّها الرسولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ" .. الآية.
والأَوْلى حملُ هذه الآية على أنَّ اللهَ ـ تعالى ـ آمَنَه مِن مَكْرِ أعدائه من اليهودِ والنَّصارى والمشركين، وأَمَرَهُ بإظهارِ التبليغِ منْ غيرِ مُبالاةٍ بِهم.
قولُه: {إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ} أَيْ لَا يُرْشِدُهُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: أَبْلِغْ أَنْتَ فَأَمَّا الْهِدَايَةُ فَإِلَيْنَا. نَظِيرُهُ {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} المائدة: 99. والله أعلم.
قولُه تعالى: {يا أيُّها الرسولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} نداءٌ من الله ـ تعالى ـ وأمرٌ منْهُ لِرسولِه ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ بأنْ يُبَلِّغَ جَميعَ ما أَنْزَلَ إليْه على وَجْهِ الكَمالِ، و"ما" يُحتَمَلُ فيها أنْ تَكونَ اسْمِيَّةً بمَعنى الذي، ولا يَجوزُ أنْ تَكونَ مَوْصوفةً لأنَّه مأمورٌ بِتَبليغِ الجَميعِ كَما تقَدَّم، والنَكرةُ لا تَفِي بذلك فإنَّ تقديرَها: بَلِّغْ شيئًا أُنْزِلَ إليْك، وفي "أُنزلَ" ضميرٌ مَرفوعٌ يَعودُ على "ما" قامَ مَقامَ الفاعِلِ، وتَحتَمِلُ أنْ تَكونَ "ما" مصدريَّةً، وفيهِ بُعْدٌ. وعلى هذا فلا ضميرَ في "أُنْزلَ" لأنَّ "ما" المَصدريَّةَ حرفٌ ـ على الصحيح ـ فلا بُدَّ مِنْ شيءٍ يَقومُ مُقامَ الفاعلِ وهو الجارُّ بعدَهُ، وعلى هذا فيكونُ التقديرُ: بَلِّغِ الإِنزالَ، ولكنَّ الإِنزالَ لا يُبَلَّغُ فإنَّه مَعنى، إلَّا أَنْ يُرادَ بالمَصدرِ أنَّهُ واقعٌ مَوْقِعَ المَفعولِ بِهِ. ويَجوزُ أنْ يَكونَ المعنى: "اعلَمْ بَتبليغِ الإِنزالِ" فيكونُ مَصدرًا على بابه. و"ما" في ذلكِ كُلِّهِ نَصْبٌ على المفعوليَّةِ بـ "بلِّغْ" وفاعلُها ضميرُ رسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم.
قولهُ: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} أي : وإن لَّمْ تَفْعَلِ التَبْليغَ، فحَذَفَ المَفعولَ بِه، ولَم يَقُلْ: "وإن لَّمْ تُبَلِّغْ فَما بَلَّغت" كما تقدَّم في قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} الآية: 24. في البقرة، لأنَّه لا بُدَّ أنْ يَكونَ مغايرًا للشَرْطِ لِتَحصُلَ الفائدةُ، ومتى اتَّحَدَا اخْتَلَّ الكلامُ، فلو قلتَ: "إنْ أَتَى زيدٌ فقدَ جاءَ" لمْ يَجُزْ، وظاهرُ قولِه تعالى: "وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ" اتِّحادُ الشَرْطِ والجَزاءِ، فإنَّ المَعنى يَؤُوَّلُ ظاهرًا إلى: وإن لَّمْ تَفْعَلْ لَم تفعلْ. قالوا: ونظيرُ هذه الآيةِ الحديثُ الصحيحُ عن عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ: ((فَمَنْ كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله)) فإنَّ نفسَ الجَوابِ هو نفسُ الشرطِ، وأُجبَ بأنَّه لا بُدَّ من تقديرٍ تَحصُل بِه المُغايرةُ أيْ: فَمَنْ كانتْ هِجرتُه إلى الله ورسولِه نِيَّةً وقَصْدًا فهِجْرَتُه إلى اللهِ ورسولِه حُكْمًا وشَرْعًا.
وقرأَ نافعٌ وابنُ عامرٍ وعاصمٌ في روايةِ أَبي بَكْرٍ: "رِسالاتِه" جَمْعًا، والباقون: "رسالتَه" بالتوحيد، ووجهُ الجمعِ أنَّه ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ بُعِثَ بأنواعٍ شتَّى مِنَ الرِّسالةِ كأُصولِ التَوحيدِ والأَحْكامِ على اخْتِلافِ أَنواعِها، والإِفرادُ واضحٌ لأنَّ اسْمَ الجِنْسِ المُضافَ يَعُمُّ جَميعَ ذلك، وقد قال بعضُ الرسل: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي} الأعراف: 62، وبعضُهم قال: {رِسَالَةَ رَبِّي} الأعراف: 79. اعتبارًا للمَعْنَيَيْن.