يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21)قولُه تبارك وتعالى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} كرَّرَ النِداءَ معَ الإضافةِ التَشريفيَّةِ اهتمامًا بشأنِ الأمرِ، ومبالغةً في حثِّهم على الامْتِثالِ به، و"الأرض المُقدَّسة" هي ما رُوِيَ عنِ ابْنِ عبّاسٍ والسُدِّيِّ. وابْنِ زيدٍ ـ رضي اللهُ تعالى عنهم ـ بيتُ المَقْدِسِ، وقال الزَجَّاجُ: دمشقُ وفِلسطينَ والأُرْدُنُّ، وقالَ مجاهدٌ هي أرضُ الطُورِ وما حولَه، وعن مُعاذَ بْنِ جَبَلٍ هي ما بيْنَ الفُراتِ وعريشِ مِصْرَ، والتقديسُ: التَطهيرُ، ووُصفتْ تلكَ الأرضُ بذلكَ إمَّا لأنَّها مُطهَّرةٌ مِنَ الشِرْكِ، حيثُ جُعِلتْ مَسْكَنَ الأنبياءِ ـ عليهِمُ الصلاةُ والسَّلامُ ـ أو لأنَّها مُطهَّرةٌ مِنَ الآفاتِ، وغَلَبَةُ الجَبَّارين عليْها لا يُخرِجُها عنْ أنْ تكونَ مقدَّسَةً، أوْ لأنَّها طَهُرَتْ مِنَ القَحطِ والجُوعِ، وقيل: سُمِّيَتْ مُقدَّسَةً لأنَّ فيها المَكانَ الذي يُتَقَدَّسُ فيه مِنَ الذُنوبِ. وقال مُجَاهِدٌ: "المقدَّسة" الْمُبَارَكَةُ، وَالْبَرَكَةُ التَّطْهِيرُ مِنَ الْقُحُوطِ وَالْجُوعِ وَنَحْوِهِ. وَقَوْلُ قَتَادَةَ يَجْمَعُ هَذَا كُلَّهُ."الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ" أَيْ فَرَضَ دُخُولَهَا عَلَيْكُمْ وَوَعَدَكُمْ دُخُولَهَا وَسُكْنَاهَا لَكُمْ. وَلَمَّا خَرَجَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ أَمَرَهُمْ بِجِهَادِ أَهْلِ أَرِيحَاءَ مِنْ بِلَادِ فِلَسْطِينَ فَقَالُوا: لَا عِلْمَ لَنَا بِتِلْكَ الدِّيَارِ، فَبَعَثَ بِأَمْرِ اللهِ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا، مِنْ كُلِّ سِبْطٍ رَجُلٌ يَتَجَسَّسُونَ الْأَخْبَارَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَرَأَوْا سُكَّانَهَا الْجَبَّارِينَ مِنَ الْعَمَالِقَةِ، وَهُمْ ذَوُو أَجْسَامٍ هَائِلَةٍ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّ بَعْضَهُمْ رَأَى هَؤُلَاءِ النُّقَبَاءَ فَأَخَذَهُمْ فِي كُمِّهِ مَعَ فَاكِهَةٍ كَانَ قَدْ حَمَلَهَا مِنْ بُسْتَانِهِ وَجَاءَ بِهِمْ إِلَى الْمَلِكِ فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدِهِ وَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ قِتَالَنَا، فَقَالَ لَهُمُ الْمَلِكُ: ارْجِعُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ فَأَخْبِرُوهُ خَبَرَنَا، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَمَّا رَجَعُوا أَخَذُوا مِنْ عِنَبِ تِلْكَ الْأَرْضَ عُنْقُودًا فَقِيلَ: حَمَلَهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَقِيلَ: حَمَلَهُ النُّقَبَاءُ الِاثْنَا عَشَرَ. قالَ الأَلوسِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ: هذه الأخبارُ عِندي كأخبارِ (عُوجَ بْنِ عُنَاقٍ) وهي حديثُ خُرافةٍ..، وَكَانَ طولُ سائرِ العَمالِقَةِ سِتَةُ أَذْرُعٍ ونِصفُ الذراعِ فِي قَوْلِ مُقَاتِلٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ طُولُ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ ثَمَانِينَ ذِرَاعًا، وَاللهُ أَعْلَمُ. فَلَمَّا أَذَاعُوا الْخَبَرَ مَا عَدَا يُوشَعَ وَكَالِبَ ابنِ يُوقِنَا، وَامْتَنَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ الْجِهَادِ عُوقِبُوا بِالتِّيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً إِلَى أَنْ مَاتَ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ وَنَشَأَ أَوْلَادُهُمْ، فَقَاتَلُوا الْجَبَّارِينَ وَغَلَبُوهُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ} أَيْ لَا تَرْجِعُوا عَنْ طَاعَتِي وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنْ قِتَالِ الْجَبَّارِينَ. وَقِيلَ: لَا تَرْجِعُوا عَنْ طَاعَةِ اللهِ إِلَى مَعْصِيَتِهِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.
وقولُه: {فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ} فتنقلبوا: ترجعوا، "خاسرين" المراد بالخسران خسران الدارين، فإنَّ ترتيبَ الخيبةِ والخُسرانِ على الارْتدادِ يَدُلُّ على اشْتِراطِ الكَتْبِ بالمُجاهدةِ المُترتِّبَةِ على الإيمانِ قطعًا.
قوله تعالى: {على أَدْبَارِكُمْ} حالٌ من فاعل "ترتدَّوا" أي: لا ترتدَّوا منقلبين، ويَجوزُ أنْ يَتعلَّقَ بنفسِ الفِعلِ قبلَه، والأدبارُ جمعُ دُبُرٍ وهو ما خلفَهم مِنَ الأماكِنِ مِنْ مصرَ وغيرِها.
وقولُه: {فَتَنْقَلِبُوا خاسرين } فَتَنْقَلِبُوا: مجزومٌ عطفًا على فِعْلِ النَّهيِ. أو منصوبٌ بإضمارِ "أنْ" بعدَ الفاء في جواب النهي . و"خاسرين" حال.