وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. (62).
تبارك وتعالى: {وترى كثيرًا منهم يُسارِعونَ في الإثْمِ وأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} أيْ مِنْ أُولئكَ اليَهودِ كما رُويَ عنِ ابْنِ زَيْدٍ، والخِطابُ لِسَيِّدِ المُخاطَبين ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ ـ أوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ للخِطابِ، والرُّؤيةُ بَصَرِيَّةٌ، وقيلَ: قَلْبِيَّةٌ، والضميرُ في "مِنْهم" عائدٌ إلى المُنافقين أوِ اليَهودِ أوْ إلى الطائفتيْن معًا، و"يسارعون" المُسارعةُ في الشيءِ المُبادرةُ إليْه، و"الإثمُ" الكَذِبُ أوِ الشِرْكُ أوِ الحَرامُ. وقيل: الكذبُ مُطْلَقًا، وقيلَ: الكَذِبُ بقولِهم: {مِنَ} المائدة: 61. لأنَّه إمَّا إخبارٌ أوْ إنْشاءٌ مُتَضَمِّنٌ الإخبارَ بِحُصولِ صِفَةِ الإيمانِ لهم، واسْتُدِلَّ على التَخصيصِ بقولِهِ تعالى: {عَن قَوْلِهِمُ الإثم} المائدة: 63، وأنتَ تعلمُ أنَّه لا يَقتَضيهِ، وقيل: المُرادُ بِهِ الكُفْرُ، ورُويَ ذلك عن السدِّيِّ، ولَعَلَّ الداعي لِتَخصيصِهِ بِهِ كونُه الفَرْدُ الكاملُ. والمُرادُ مِنَ العُدْوانِ: الظُلْمُ أوْ مُجاوَزَةُ الحَدِّ في المَعاصي، وقيلَ: الإثمُ ما يَخْتَصُّ بهم، والعُدوان ما يَتَعَدَّى إلى غيرِهم، والكلامُ مَسوقٌ لِوَصْفِهم بِسوءِ الأَعْمالِ بعدَ وصفِهم بسوءِ الاعْتِقادِ. و"العدوان" هو الظُلمُ المُتَعدِّي إلى الغَيْرِ أوْ مُجاوَزَةُ الحَدِّ في الذُنوبِ. و"أَكْلِهِمُ السُّحْتَ" هو الحَرامُ مُطْلَقًا، فعَلى قولِ مَنْ فَسَّرَ الإثْمَ بالحَرامِ يَكونُ تَكريرُه للمُبالَغَةِ، وقال الحسنُ: الرِّشْوةُ في الحُكْمِ، والتَنْصيصُ على ذلك بالذِّكرِ مَعَ انْدِراجِهِ في المُتَقَدِّمِ للمُبالَغَةِ في التَقبيحِ.
قولُه: {لَبِئْسَ ما كانوا يَعمَلون} مِنَ المُسارَعَةِ إلى الإثْمِ والعُدْوانِ وأَكْلِ السُّحْتِ كالرِّشا وما كانوا يَأْكُلونَه مِنْ غيرِ وجْهِ حَقٍّ.
قوله تعالى: {وترى وترى كثيرًا منهم يُسارِعونَ في الإثْمِ} ترى: يَجوزُ أنْ تَكونَ الرؤيةُ بَصَرِيَّةً فيكونَ "يُسارعون" حالاً، وأنْ تَكونَ الرؤيةُ عِلْمِيَّةً أو ظَنِيَّةَ فيَنْتَصِب "يُسارعون" مفعولًا ثانيًا. و"مِنهم" في مَحَلِّ نَصْبٍ على أنَّه صفةٌ لـ "كثيرًا" فيَتَعَلَّقُ بِمَحذوفٍ أيْ: كائنًا منهم أوِ اسْتَقَرَّ منهم. وإيثارُ "فِي" على "إلى" للإشارةِ إلى تَمَكُّنِهم فيما يُسارِعون إليْه تَمَكُّنَ المَظروفِ
في ظَرْفِهِ وإحاطَتُه بأعمالِهم، وقد تقدَّمتِ الإشارةُ إلى ذلك.
وقَرَأَ أَبُو حَيَوَةَ: "العِدوان" بالكسر. "وأَكْلِهِمُ" هذا مصدرٌ مُضافٌ لِفاعِلِهِ. و"السُّحتَ" مفعولُه.
قولُه: "لَبِئْسَما" أيْ لَبِئْسَ شيئًا يَعملونَه هذه الأمورُ فـ "مَا" نَكِرَةٌ مَوصوفَةٌ وَقَعَتْ تَمْييزًا لِضميرِ الفاعِلِ المُسْتَتِرِ في بئسَ والمَخصوصِ بالذَمِّ مَحذوفٌ، وجُوِّزَ جَعْلُ "مَا" موصولةً فاعلَ "بئسَ" والجمعُ بيْنَ صِيغَتَيِ الماضي والمستقبلِ للدَّلالِةِ على الاسْتِمْرارِ.