وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. (10)
قولُه: {والذينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا} بعدَ أنْ ذَكرَ ـ سبحانَه ـ جزاءَ الذين آمنوا وعمِلوا الصالحاتِ ذَكر الذين كفروا وكذَّبوا بآياتِ اللهِ تعالى، وهذا النَصُّ الكريمُ يَشتَمِلُ على وَصْفِ الذين لمْ يُؤمِنوا، وجَزائهم. فهم يتَّصفون بوصفيْن: أَوَّلُهُما: الكُفْرُ، وثانيهما: تَكذيبُ آياتِ اللهِ تعالى القائمةِ حجةً على رِسالةِ الرَّسولِ الذي أُرْسلَ إليهم، وقد ذَكَرَ الكُفْرَ سابقًا على تَكذيبِ الآياتِ مَعَ أنَّ الظاهرَ أنَّ الكُفْرَ نتيجةٌ لهذا التكذيبِ؛ وذلك لأنَّ الكُفرَ هُنا مَعناه: جُحودُ القَلْبِ، وطَمْسُ مَعالِمِ الإدْراكِ فقلوبُهم غُلْفٌ، قدْ غُطِّيتْ عنها الحَقائقُ، وغابَ عنها الفَهمُ الصَحيحُ، والإنْكارُ يَكونُ مُرتكِزًا في النَفسِ، فلا تُذْعِنُ ولا تُصَدِّقُ، وإذا كانت النفوس على هذا النحو، فإنَّه يَكونُ التَكذيبُ لِكُلِّ ما تَدُلُّ عليْه الآياتُ الحِسِّيَّةُ، والمُعجزاتُ القَطْعِيَّةُ؛ لأنَّ القلبَ قد فَسَدَ، فلا يَرى الحَقائقَ فيكذِّبُ بها، وإنَّ التكذيبَ بالمعجزات إنّما يَكونُ عن فسادٍ في الإدراكِ، إذْ لهم قلوبٌ لَا يفقهون بها، ولهم أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرون بها، ولهم آذانٌ لَا يسمعون بها.
قولُه: {أُوْلَئكَ أَصْحَاب الْجَحِيم}. أي أُولئِكَ الذين كانَ منهمُ الكُفرُ والجُحودُ ثمَّ التَكذيبُ للآياتِ، وقد جاءت واضحةً لذلك مصاحبين للجحيمِ مُلازمين لها ملازمةَ الصاحبِ لِصاحِبِه الذي لَا يفارقه. وقد نَزَلَتْ فِي بني النَّضيرِ. وقيلَ: في جميعِ الكُفَّارِ.
قوله تعالى: {والذين كَفَرُواْ} مُبتَدَأٌ، و"أولئك" مبتدأٌ ثانٍ، و خبرُه "أصحابُ"، والجُملةُ خبرُ الأوَّلِ، وهذه الجُملَةُ مُستأنَفَةٌ أُتيَ بها اسْمِيَّةً دَلالةً على الثُبوتِ والاسْتِقرارِ، ولم يُؤْتَ بها في سِياقِ الوَعيدِ كما أُتيَ بالجُملةِ قبلَها في سِياقِ الوَعْدِ حَسْمًا لِرَجائهم، وأَجازَ بعضُهم أنْ تَكونَ هذه الجُملةُ داخلةً في حَيِّزِ الوَعْدِ، على ما تقدَّمَ تقريرُه في الجُملةِ قبلَها، فإنَّ الاستئنافَ وافٍ بهذا المعنى؛ فإنَّ الإِنْسانَ إذا سَمِعَ خبَرًا يَسوءُ عَدُوَّهُ سُرَّ بذلك، وإنْ لم يُوعَدْ به، وقد يَتَقَوَّى صاحبُ هذا القولِ المُتقدِّمِ بما نَحا إليه الزمخشريُّ في سورة الإسراء، قال: فإنْ قلتَ: عَلامَ عَطَفَ {وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} الإِسراء: 10؟ قلت: على {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} الإِسراءِ: 9، على أنَّه بَشَّر المؤمنين ببشارتيْن اثنتين: بثوابِهم وبعقابِ أعدائهم، فجعلَ عقابَ أعدائِهم داخلًا في حَيِّزِ البِشارةِ، فالبِشارةُ هناك كالوعدِ هنا.
وقَوْلُه: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّهُ وَقَعَ مَوْقِعَ الْمَوْعُودِ بِهِ، عَلَى مَعْنَى وَعَدَهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَغْفِرَةً أَوْ وَعَدَهُمْ مَغْفِرَةً إِلَّا أَنَّ الْجُمْلَةَ وَقَعَتْ مَوْقِعَ الْمُفْرَدِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ عبد العزيز الكِلابي:
وَجَدْنَا الصَّالِحِينَ لَهُمْ جَزَاءٌ ..................... وجنَّاتٍ وعيْنًا سَلْسَبيلًا
وَمَوْضِعُ الْجُمْلَةِ نَصْبٌ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهَا بِالنَّصْبِ. وَقِيلَ: هُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَوْعُودُ بِهِ مَحْذُوفًا، عَلَى تَقْدِيرِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ فِيمَا وَعَدَهُمْ بِهِ.