وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ.
(86)
قولُهُ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ} وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا: مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ، فذكر ـ سبحانَه وتعالى ـ جزاء الذين استمروا على كفرِهم في مقابِلِ جزاءِ الذينَ آمنوا وطمِعوا في رحمةِ اللهِ، وأدركوا الحقَّ فأذْعَنوا لَه، فأمّا الذين صدَّقوا رسول الله ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ وفاضت أعينهم بالدمع لما عرفوا من الحقِّ فقد كان جزاؤهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وأمّا الذين كفروا وكذَّبوا فجزاؤهم أنَّهم أصحابُ الجَحيم الملازمين لها الذين لَا يُفارقونها، و"الْجَحِيم" النَّارُ الشَّدِيدَةُ الِاتِّقَادُ المُتَأَجِّجَةُ التي لَا تنطفئُ،. يُقَالُ: جَحَمَ فُلَانٌ النَّارَ إِذَا شَدَّدَ إِيقَادَهَا. وَيُقَالُ أَيْضًا لِعَيْنِ الْأَسَدِ:
جَحْمَةٌ، لِشِدَّةِ اتِّقَادِهَا. وَيُقَالُ ذَلِكَ لِلْحَرْبِ قَالَ الشَّاعِرُ سعدٌ بْنُ مالِكٍ:
وَالْحَرْبُ لَا يَبْقَى لِجَا ............................ حِمِهَا التَّخَيُّلُ وَالْمِرَاحُ
إِلَّا الْفَتَى الصَّبَّارُ فِي .......................... النَّجَدَاتِ وَالْفَرَسُ الوقاح
وقد استحقُّوا هذا العقابَ بسببين، أوَّلُهما: كفرُهم وجحودُهم بالحقائقِ الثابتةِ التي جاءتْهم والتي تُدرِكُها العقولُ السَليمةُ، فهم قدْ اسْتَحَقّوهُ بِكُفْرِهم بِها مَعَ أنَّ النفسَ السليمةَ تُذْعِنُ لَها مِنْ غيرِ تَردُّدٍ، لأنَّها هي التي تَتَّفِقُ مَعَ العقلِ والفِطْرَةِ المُستقيمةِ. والثاني: أنَّهم كَذَّبوا بآياتِ اللهِ تعالى أيْ الأَدِلَّةِ والمُعْجِزاتِ التي ساقها رَبُّ العالمين لِتَأييدِ النَّبِيِّ المُرْسَلِ الذي أُرْسِلَ إليْهم، فهم لَم يُؤمِنوا بهذِه المُعجزات، ولم يُصَدِّقوها. فكانوا حائرين بائرين، إذ لم يُدرِكوا الحَقَّ في ذاتِه وهو مُتَّفِقٌ مَعَ العَقلِ المُستقيمِ، ولم يَتَقَبَّلوا الأَدِلَّةَ القاطعةَ التي سِيقَتْ إليهم للدَلالةِ على الحَقِّ الذي لَم يُدْرِكوه.
وهذان السببانِ هُما اللَّذان مِنْ أجلِهما كان العقابُ، ولذلك عَبَّرَ بالمَوصولِ (الذين) الذي يَدُلُّ على أنَّ الصِلَةَ هي سببُ الحُكمِ، وعَبَّرَ بالإشارةِ (أولئك)، وهي تَدُلُّ على أنَّ المُشارَ إليْه هو سببُ الحُكمِ.
وكلمةُ الذين كَفَروا تَشْمَلُ مَنْ كانوا مِنْ أَهْلِ الكِتابِ ومَنْ كانوا مِنْ غيرِهم لأنَّ السببَ في ذلك الجزاء والعذابِ الأليمِ يتحقَّقُ في النوعيْن: إذْ كِلاهُما كَفَرَ بالحَقِّ لَمَّا جاءَهُ، وكِلاهُما كذَّبَ آياتِ اللهِ تعالى التي ساقَها للدَلالَةِ على رسالةِ الرَّسولِ، وحيثُ تَحقَّقَ السببُ تحقَّقَ المُسَبَّبُ لَا مَحالَةَ، وهو العَذابُ الأَليمُ الدائمُ. وقد عَطَفَ التَكذيبَ بآياتِ اللهِ تعالى على الكفرِ مَعَ أنَّه ضَرْبٌ منْه لِمَا أَنَّ القَصدَ إلى بيانِ حالِ المكذِّبين وذَكَرهم بمُقابلةِ المُصدِّقين بها لِيَقترنَ الوعيدُ بالوعدِ وبِضِدِّها تتبيَّنُ الأشياءُ.
تمَّ بحمدِ الله ومَنِّهِ وكرمِه الجزءُ السادسُ ويليه الجزء السابعُ نرجو الله التوفيق.