قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
(76)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} المعنى: قل يا مُحَمَّدُ لِهؤلاءِ الضالِّينَ مِنَ النَّصارى وأَشباهِهِمْ في الكُفْرِ والإشراكِ: أَتَعْبُدونَ غيرَ اللهِ مَعبوداتٍ لا تَمْلِك أنْ تُصيبَكم بِشَيْءٍ مِنَ الضَرَرِ كالمَرَضِ والفَقرِ، ولا تَمْلِك أنْ تَنْفَعَكم بشيءٍ مِنَ النَفْعِ كَبَسْطِ الرِزْقِ وغيره ممَّا أَنتم في حاجةٍ إليْه. فالمُرادُ بـ "ما لا يَمْلِكُ" كلُّ ما عُبِدَ مِنْ دونِ اللهِ مِنْ حَجَرٍ أوْ وَثَنٍ أوْ غيرِهِما فتَكونُ "ما" للعُمومِ وليستْ كِنايةً عن عيسى وأُمِّهِ فحَسْبُ. وفي هذه الآيةِ الكريمةِ زِيَادَةُ بَيَانٍ وَإِقَامَةُ حُجَّةٍ عَلَيْهِمْ، أَيْ أَنْتُمْ مُقِرُّونَ أَنَّ عِيسَى كَانَ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ، لَا يَمْلِكُ لِأَحَدٍ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَإِذْ أَقْرَرْتُمْ أَنَّ عِيسَى كَانَ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَعْلَمُ وَلَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، فَكَيْفَ اتَّخَذْتُمُوهُ إِلَهًا؟.
قولُهُ: {وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أَيْ لَمْ يَزَلْ سَمِيعًا عَلِيمًا يَمْلِكُ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ. وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ فَهُوَ الإلهُ على الحقيقةِ. وهو المختَصُّ بالإحاطةِ التامَّةِ بِجميعِ المَسموعاتِ والمَعلوماتِ التي مِنْ جُملَتِها ما أنتمْ عليْه مِنَ الأَقوالِ الباطلةِ والعقائدِ الزّائِغَةِ، فكيف تعبدون العاجزَ واللهُ هو الذي يَسمعُ كلَّ مَسموعٍ ويَعلَمُ كلَّ مَعلومٍ، ولنْ يَكونَ كذلك إلَّا وهو حَيٌّ قادرٌ على كلِّ شيءٍ، ومنه الضَرُّ والنَفْعُ والمُجازاةُ على الأَقوالِ والعقائدِ إنْ خيرًا فخَيْرٌ وإنْ شَرًّا فشَرٌّ، وفرْقٌ بيْنَ الوَجهيْن بأنَّ "مَا" على هذا الوجهِ للتَحقيرِ، والوَصْفِيَّةُ على هذا الوَجْهِ على مَعنى أَنَّ العُدولَ إلى المُبهَمِ اسْتِحْقارٌ إلَّا أنْ "مَا" للوصفِ والحالُ مقَرِّرةٌ لِذلك، وعلى الأوَّلِ للتَحقيرِ المُجَرَّدِ، والحالُ كما عَلِمْتَ.
قولُهُ تعالى: {أتعبدون مَا لاَ يَمْلِكُ} أَتعبُدون: استفهامٌ إنكاريٌ، لإِنكارِ واقِعِهم والتَعجيبِ مِمَّا وَقَعَ مِنْهم، وتوبيخِهم على جَهْلِهِمْ وغَفْلَتِهم. و"ما" نكرةٌ موصوفةٌ مفعولًا بِهِ لِـ "تعبدون" والجملةُ بعدَها صفةٌ لها فمَحلُّها النَّصبُ، أو هي اسمٌ موصولٌ بمعنى الذي، والجملةُ بعدَها صلةٌ فلا مَحلَّ لَها، وفي وُقوعِ "ما" على العاقلِ هنا لأنَّه أُريدَ بِهِ عيسى وأمُّه وُجوهٌ، أَحَدُها: أَنَّه أُتِي بـ "ما" مُرادًا بِهِ العاقلُ لأنَّها مُبْهَمَةٌ تَقَعُ على كُلِّ شيءٍ، أو أُريدَ بِهِ النَوعُ كقولِه: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النساءِ} النِساءِ: 3. أيْ: النوعَ الطيِّبَ، أوْ أُريدَ بِهِ العاقلُ مَعَ غيرِهِ لأنَّ أَكْثَرَ ما عُبِد مِنْ دونَ اللهِ غيرُ عاقِلٍ كالأَصنامِ والأَوْثانِ والكواكبِ والشَجَرِ، أو شبهُهُ على أَوَّلِ أَحوالِه، لأنَّه في أَوَّلِ حالِهِ لا يُوصَفُ بِعَقلٍ فيكفَ يُتَّخَذُ إلَهًا مَعْبودًا؟
وفي تكريرِ الأمْرِ بقولِه: "انظُرْ" و"ثم انظر" دَلالةٌ على الاهْتِمامِ بالنظر، وأيضًا فقد اختَلَفَ مُتَعَلَّقُ النَّظريْن، فإنَّ الأَوَّلَ أَمْرٌ بالنَظَرِ في كَيْفِيَّةِ إيضاحِ اللهِ ـ تعالى ـ لهمُ الآياتِ وبَيانِها بِحَيْثُ إنَّه لا شَكَّ فيها ولا رَيْبَ، والأمْرُ الثاني بالنَظَرِ في كونِهم صُرِفوا عنْ تَدَبُّرِها والإِيمانِ بِها، أو بِكونِهم قُلِبوا عمَّا أُريدَ بِهم. ومعنى التراخي في قولِه: "ثمَّ انْظُرْ" يَعني أنَّه بَيَّن لهم الآياتِ بيانًا عَجَبًا، وأَنَّ إعراضَهم عنْها أَعْجَبُ منْه. فهو من بابِ التَراخي في الرُّتَبِ لا في الأزمِنَةِ، ونحوُه: {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} الأنعام: 1.
قولُه: {والله هُوَ السميع العليم} والله: الواوُ للحال، أيْ والحالُ أنَّ اللهَ هو السميعُ العليمُ، و"هو" مبتدَأٌ ثانٍ، و"السَميعُ" خَبَرُهُ، و"العليمُ" صفتُه أوْ خَبَرٌ ثانٍ، والجُمْلَةُ خَبَرُ الأوَّلِ. ويَجوزُ أَنْ يَكونَ فَصْلًا، وقد عُرِفَ ما فيه، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ بَدَلًا. وهذِهِ الجُمْلَةُ الظاهرُ فيها أَنَّها لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإِعْرابِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكونَ في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحالِ مِنْ فاعلِ "تَعْبُدون" ـ كما تقدَّمَ ـ أيْ: أَتَعْبُدونَ غيرَ اللهِ، والحالُ أَنَّ اللهَ هو المُسْتَحِقُّ للعِبادَةِ لأنَّه يَسْمَعُ كلَّ شيءٍ ويَعلَمُه. فقولُه: "واللهُ هُوَ السميعُ العليمُ" مُتَعَلِّقٌ بـ "أتعبدون" أي: أَتُشْرِكونَ باللهِ ولا تَخْشَوْنَه، وهو الذي يَسمَعُ ما تقولون ويَعلَمُ ما تَعْتَقِدون، يعني أَتَعْبُدونَ العاجزَ واللهُ هو السميعُ العليم؟. والرابطُ بيْن الحالِ وصاحبِها الواوُ، ومَجيءُ هاتيْن الصِفَتَيْنِ بعدَ هذا الكَلامِ في غايةِ المُناسَبَةِ، فإنَّ السَميعَ يَسْمَعُ ما يُشْكَى إليْه مِنَ الضُّرِّ وطَلَبِ النَّفعِ ويَعلَمُ مَواقِعَهُما كيفَ يَكونان؟.