إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ
(91)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} أَعْلَمَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ أَنَّ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُوقِعَ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ بَيْنَهم بِسَبَبِ الْخَمْرِ والميسِرِ، أي بسببِ تعاطيهما لأنَّ السكران يُقْدِمُ على كثيرٍ مِنَ القبائحِ التي تُوجِبُ ذلك ولا يُبالي، وإذا صَحا نَدِمَ على ما كان منه، والرجل قد يُقامِرُ حتَّى لا يَبْقى لَه شيءٌ وربَّما تَنْتهي بِهِ المُقامَرَةُ إلى أَنْ يُقامِرَ بِوَلَدِهِ وأَهلِه فيؤدِّي بِه ذلك إلى أنْ يَصيرَ أعدى الأَعْداءِ لِمَنْ قَمَرَهُ وغَلَبَهُ وبما بادر بقتلِه، حتَّى يَشفي غيظَه منه، لأنَّه قد جَعَلَه فقيرًا بائسًا مُجَرَّدًا مِنْ أموالِه بعدَ أَنْ كان مالِكَها، والمال شقيق الروحِ ـ كما يقال ـ وفي ذلك ما فيه من تولُّدِ العداوةِ والبَغضاءِ وإيقادِ نارِ الفِتَنِ والشُرورِ بين النَّاسِ. وهذه إشارة إلى مفاسِدِهِما الدُنْيَوِيَّةِ. فَحَذَّرَنَا مِنْهَا، وَنَهَانَا عَنْهَا.
رُوِيَ أَنَّ قَبِيلَتَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَانْتَشَوْا، فَعَبَثَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَلَمَّا صَحَوْا رَأَى بَعْضُهُمْ فِي وَجْهِ بَعْضٍ آثَارَ مَا فَعَلُوا، وَكَانُوا إِخْوَةً لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ضَغَائِنُ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَوْ كَانَ أَخِي بِي رَحِيمًا مَا فَعَلَ بِي هَذَا، فَحَدَثَتْ بَيْنَهُمُ الضَّغَائِنُ، فَأَنْزَلَ اللهُ: "إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ" الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} يَقُولُ: إِذَا سَكِرْتُمْ لَمْ تَذْكُرُوا اللهَ وَلَمْ تُصَلُّوا، وَإِنْ صَلَّيْتُمْ خُلِطَ عَلَيْكُمْ كَمَا فُعِلَ بِعَلِيٍّ، وَرُوِيَ: بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي" النِّسَاءِ". وهو إشارة إلى ما يورثاه من المفاسدِ في الدين وخسارة ثواب الله ورضوانه في الآخرو، وَقَالَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: سُئِلَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ الشِّطْرَنْجِ أَهِيَ مَيْسِرٌ؟ وَعَنِ النَّرْدِ أَهُوَ مَيْسِرٌ؟ فَقَالَ: كُلُّ مَا صَدَّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهُوَ مَيْسِرٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: تَأَوَّلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: "وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ".
ووجهُ صَدِّ الشيطانِ لَهم عنْ ذِكرِ اللهِ وعنِ الصلاةِ بسببِ تَعاطيهم للخمرِ لِغَلَبَةِ السُرورِ بها والطرب على النفوس. والاستغراقُ في المَلاذِّ الجِسْمانِيَّةِ، يُلهي عن ذِكرِ اللهِ وعن الصلاة.
وأنَّ الميسِرَ إنْ كان اللاعبُ بِه غالبًا، انشرحتْ نفسُهُ، وصدَّهُ حبُّ الغَلَبِ والكَسْبِ عمَّا ذُكِرَ، وإنْ كان مَغلوبًا حَصَلَ لَه مِنَ الانْقِباضِ والقَهْرِ ما يَحُثُّه على الاحْتِيالِ لأنْ يثأرَ لنفسِه ممن قهره فيَغلِبَه ولا يخطُرُ بقلبِه غيرُ ذلك.
وجمع ـ سبحانَه ـ الخَمْرَ والمَيْسِرَ معَ الأنْصابِ والأزْلامِ في الآيةِ الأولى ثمَّ أفردَهُما بالذكر في هذه الآية، لأنَّ الخِطابَ للمؤمنين، والمقصودُ نهيُم عن الخمرِ والمَيسِرِ، وإظهارُ أنَّ هذه الأَربَعَةَ مُتَقاربةٌ في القُبْحِ والمَفْسَدَةِ، أي أنَّ مَجيءَ الأنْصابِ والأَزلامِ مَعَ الخَمْرِ والمَيْسرِ إنَّما هو لِتَقبيحِ تعاطيهِما، وتأكيدِ حُرمتِهِما، حتى لكأَنَّ مُتعاطي الخمرِ والميسِرِ يفعلُ أفعالَ أهلِ الجاهليَّةِ، وأهلِ الشِرْكِ بالله ـ تعالى ـ وكأنَّه ـ لا مُبايَنَةَ بيْنَ مَنْ عَبَدَ صَنَمًا وأَشْرَكَ باللهِ في عِلمِ الغَيْبِ، وبيْن مَن شَرِبَ خَمْرًا أو قامَرَ.
وخَصَّ الصَلاةَ بالذِكْرِ مَعَ أنَّها لونٌ مِنْ أَلوانِ ذكره ـ سبحانه ـ تعظيمًا لشأنِها، كما هو الحالُ في ذِكرِ الخاصِّ بَعدَ العامِّ، وإشعارًا بأنَّ الصَّادَّ عنها كالصَّادِّ عن الإِيمان، لِمَا أنَّها عِمادُ الدين والفارقُ بين المسلمِ وبيْن الكافر.
قَوْلُهُ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} جاء الاستفهام هُنا استنكارًا لاستمرارِهم على الخَمْرِ والمَيْسِرِ بعدَ أنْ بيَّنَ لهم مَضارَّهُما الدُنيويَّةَ والدينيَّةَ ولِحَضِّهم على تَرْكِ تَعاطيهِما فورًا، أيْ: انتَهوا سريعًا عنهما فقد بيَّنتُ لكم ما يَدْعو إلى ذلك. ولقد لَبَّى الصحابةُ ـ رضيَ اللهُ عنهم ـ هذا الأمرَ فقالوا: "انتهينا يا رب؛ انتهينا يا رب" فقد روي أنَّه لَمَّا عَلِمَ عُمَرُ بنُ الخطابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّ هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ زَائِدٌ عَلَى مَعْنَى انْتَهُوا قَالَ: انْتَهَيْنَا. وَأَمَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُنَادِيَهُ أَنْ يُنَادِيَ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ، أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَكُسِرَتِ الدِّنَانُ، وَأُرِيقَتِ الْخَمْرُ حَتَّى جَرَتْ في سِكَكِ المَدينة.
وقوله تعالى: {فِي الخمر} مُتعلِّقٌ بـ "يوقع" أي: يُوقع بينَكم هذين الشيئين في الخَمْر أي: بسببِ شُربِها، و"في" تُفيدُ السَبَبيَّةَ كقولِهِ عليه الصلاةُ والسلامُ: ((إنَّ امرأةً دَخَلَتِ النارَ في هِرَّةٍ)). أو هو متعلِّقٌ بـ "البَغضاء" لأنَّه مصدرٌ معرَّفٌ بـ "أل". أو هو متعلِّقٌ بـ "العَداوة" أو هو متعلِّقٌ بهما أي: أَنْ تتعادَوْا وأَنْ تتباغضوا بسبب شربِ الخمر، وعلى هذا تكونُ المسألةُ من باب التازعِ، إلاَّ أنَّ في ذلك إشكالاً وهو أَنَّ مِنْ حَقِّ المُتنازعَيْنِ أنْ يَصلُحَ كلٌّ منهما للعمل، وهذا العاملُ الأولُ وهو العداوة لو سُلِّط على المُتنازَعِ فيه لَزِمَ الفَصْلُ بيْن المَصْدَرِ ومعمولِه بأَجْنَبِيٍّ وهو المعطوف، وقد يقال: إنَّه في بعضِ صُورِ التَنازُعِ يُلْتَزَمُ إعمالُ الثاني، وذلك في فِعْلَي التعجُّبِ إذا تَنازَعا مَعمولًا فيه، وقد تقدَّ هذا مشبَعًا.
قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} في هذا الاستفهامِ معنى الأمرِ ويدُلُّ على ذلك عطفُ الأمرِ الصَريحِ عليه في قوله "وأطيعوا" كأنَّه قيل: انتهو عن شُربِ الخمرِ وعن كذا وأطيعوا، فمجيءُ هذه الجملةِ الاستفهاميَّةِ المُصدَّرِةِ باسْمٍ مُخْبَرٍ عنه باسمِ فاعلٍ دالٍّ على ثبوتِ النَّهْي واستقراره أبلغُ من صريحِ الأمر. وجُمِعَ الخمرُ والميسرُ مع الأنصابِ والأزلام أوَّلًا ثمَّ أُفردِا لأنَّ الخطابَ مع المؤمنين، وإنَّما نهاهم عَمَّا كانوا يتعاطَوْنه من شربِ الخمرِ واللعبِ بالمَيسِرِ وذِكْرِ الأنصابِ والأزلام لتأكيدِ تحريمِ الخمرِ والميِسِرِ وإظهارِ أنَّ ذلك جميعًا مِنْ أَعمالِ أهلِ الجاهليَّةِ وأهلِ الشرك.
ويظهرُ شيءٌ آخرُ وهو أنه لم يُفْرِدِ الخمرَ والميسرَ بالذكر آخراً، بل ذَكَر معهما شيئًا يلزُم منه عدمُ الأَنصابِ والأزلامِ فكأنَّه ذَكَرَ الجميعَ آخرًا، بيانُه أنَّه قال: "في الخمر والميسر ويَصُدُّكم عن ذكر الله" بعبادةِ الأنْصابِ أو بالذَّبْحِ عليها للأصنامِ على حَسَبِ ما تقدم.