فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ. (30)قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ}. هي المأساةُ الإنسانيَّةُ الأُولى في تاريخِ البشريَّةِ التي أَحْرَقَتْ كَبِدَ كلٍّ من أبينا آدمَ وأمِّنا حواءَ ـ عليهما السلامُ ـ على فِلْذَةِ كَبِدِهِما هابيلَ، ويا لها من مأساةٍ أن يَقْتُلَ المرءُ أخاه، ثمَّ توالتْ بعدها المصائبُ وتكررت المآسي حتى أصبحَ القتلُ وكأنَّه أمراً معتادًا. و"طوّعت" أَيْ سَوَّلَتْ وَسَهَّلَتْ نَفْسُهُ عَلَيْهِ الْأَمْرَ وَشَجَّعَتْهُ وزينتْ وَصَوَّرَتْ لَهُ أَنَّ قَتْلَ أَخِيهِ طَوْعٌ سَهْلٌ لَهُ، وَقِيلَ: طَاوَعَتْهُ نَفْسُهُ فِي قَتْلِ أَخِيهِ. وهذه الكلمة "طوَّعت" فيها معانٍ تَدُلُّ على أنَّ هُناكَ مُقاومةً في داخلِ قابيلَ قبلَ أنْ يُقدمَ على الجَريمةِ، فقد كانت هناك معركةٌ وصراعٌ داخلِيٌّ في نفسِه بيْن الخيرِ والشَرِّ، بيْن الإقدامِ على الجَريمَةِ، والإحْجامِ عنها،
فكلمةُ "طوَّعَتْ" أو "طاوعت" ـ كما قرأ بعضُهم ـ تَدُلُّ على تَكرارٍ في حَمْلِ الفِطْرَةِ على طاعةِ الحَسَدِ، الداعي إلى القَتْلِ، كتذليلِ الفَرَسِ الشموسِ أو البعيرِ الصَعْبِ المِراسِ، فهي تُمَثِّلُ لِمَن يَفهمُها وَلَدَ آدَمَ الذي زيَّنَ لَه قتلَ أَخيه حَسَدُهُ له، وهو بيْن إقدامٍ وإحْجامٍ، يُفَكِّرُ في كلِّ كَلِمَةٍ قالها له أخوه الحكيمُ، فيَجِدُ فيها صارفًا له عنِ الجريمةِ، ويَدعَمُ ما في الفِطْرَةِ مِنْ صَوارِفِ العَقلِ والقَرابَةِ، فَيَكِرُّ الحَسَدُ مِنْ نفسِه الأمَّارةِ بالسوءِ على كلِّ صارفٍ مِنْ صَوارِفِ نفسِهِ اللَّوّامةِ، فلا يَزالان يَتنازعان، ويَتَجاذبان حتّى يَغلِبُ الحَسَدُ ويَجْذِبُه إلى طاعتِه.
وإنَّ في النَصِّ الكريمِ إشارةٌ إلى هذِه المعاني مِنْ التردُّدِ، فقدْ عبَّرَ عن المَقتولِ بقولِه: "فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ". والمَعنى: أنَّ الأُخُوَّةَ، والاطْمِئنانَ إلى القَرابَةِ كانا يُعارضان دَواعيَ القَتْلِ، وعبَّرَ عنِ الجَريمةِ بقولِه: "فقتله"، ممّا يَدُلُّ على أنَّ التَطويعَ للحَسَدِ بعدَ المُغالَبَةِ تَرَتَّبَ عليْه أَقوى شَرٍّ في هذا الوُجودِ، وهو إزْهاقُ النَّفسِ التي حرَّمَ اللهُ قتلَها مِنْ غيرِ جَريمةٍ إلَّا أنْ يَكونَ قَبُولُ اللهِ لِقُرْبانِهِ جَريمةً عندَ الحاسدين.
ورُويَ أنَّه جَهِلَ كَيْفَ يَقْتُلُهُ فَجَاءَ إِبْلِيسُ بِطَائِرٍ ـ أَوْ حَيَوَانٍ غَيْرِهِ ـ فَجَعَلَ يَشْدَخُ رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ لِيَقْتَدي بِهِ قابيلُ ففَعَلَ، قاله ابْنُ جُرَيْجٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ: وَجَدَهُ نَائِمًا فَشَدَخَ رَأْسَهُ بِحَجَرٍ وَكَانَ ذَلِكَ فِي ثَوْرٍ ـ جَبَلٌ بِمَكَّةَ. وَقِيلَ: عِنْدَ عَقَبَةِ حِرَاءٍ، حَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ جَعْفَرُ الصَّادِقُ: بِالْبَصْرَةِ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ. وَكَانَ لِهَابِيلَ يَوْمَ قَتَلَهُ قَابِيلُ عِشْرُونَ سَنَةً. وَيُقَالُ: إِنَّ قَابِيلَ كَانَ يَعْرِفُ الْقَتْلَ بِطَبْعِهِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ لَمْ يَرَ الْقَتْلَ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ بِطَبْعِهِ أَنَّ النَّفْسَ فَانِيَةٌ وَيُمْكِنُ إِتْلَافُهَا، فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَتَلَهُ بِأَرْضِ الْهِنْدِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَلَمَّا قَتَلَهُ نَدِمَ فَقَعَدَ يَبْكِي عِنْدَ رَأْسِهِ إِذْ أَقْبَلَ غُرَابَانِ فَاقْتَتَلَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ثُمَّ حَفَرَ لَه حُفْرَةً فدَفَنَه، ففَعَلَ القاتلُ بأخيهِ كذلك. وَالسَّوْءَةُ يُرَادُ بِهَا الْعَوْرَةُ، لأنَّه كان قدْ سَلَبَ أخاه ثِيابَه. وَقِيلَ: يُرَادُ بِهَا جِيفَةُ الْمَقْتُولِ، ثُمَّ إِنَّهُ هَرَبَ إِلَى أَرْضِ عَدَنٍ مِنَ الْيَمَنِ، فَأَتَاهُ إِبْلِيسُ وَقَالَ: إِنَّمَا أَكَلَتِ النَّارُ قُرْبَانَ أَخِيكَ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْبُدُ النَّارَ، فَانْصِبْ أَنْتَ أَيْضًا نَارًا تَكُونُ لَكَ وَلِعَقِبِكَ، فَبَنَى بَيْتَ نَارٍ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَبَدَ النَّارَ فِيمَا قِيلَ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَهُ وَآدَمُ بِمَكَّةَ اشْتَاكَ الشَّجَرُ، وَتَغَيَّرَتِ الْأَطْعِمَةُ، وَحَمُضَتِ الْفَوَاكِهُ، وَمَلُحَتِ الْمِيَاهُ، وَاغْبَرَّتِ الْأَرْضُ، فَقَالَ آدَمُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قَدْ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ حَدَثٌ، فَأَتَى الْهِنْدَ فَإِذَا قَابِيلُ قَدْ قَتَلَ هَابِيلَ. وَقِيلَ: إِنَّ قَابِيلَ هُوَ الَّذِي انْصَرَفَ إِلَى آدَمَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ قَالَ لَهُ: أَيْنَ هَابِيلُ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي كَأَنَّكَ وَكَّلْتَنِي بِحِفْظِهِ. فَقَالَ لَهُ آدَمُ: أَفَعَلْتَهَا؟! وَاللهِ إِنَّ دَمَهُ لَيُنَادِي، اللَّهُمَّ الْعَنْ أَرْضًا شَرِبَتْ دَمَ هَابِيلَ. فَرُوِيَ أَنَّهُ مِنْ حِينِئِذٍ مَا شَرِبَتْ أَرْضٌ دَمًا. ثُمَّ إِنَّ آدَمَ بَقِيَ مِئَةَ سَنَةٍ لَمْ يَضْحَكْ، حَتَّى جَاءَهُ مَلَكٌ فَقَالَ لَهُ: حَيَّاكَ اللهُ يَا آدَمُ وَبَيَّاكَ. فَقَالَ: مَا بَيَّاكَ؟ قال: أَضْحَكَكَ، قالَهُ مُجَاهِدٌ وَسَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ. وَلَمَّا مَضَى مِنْ عُمْرِ آدَمَ مِئَةٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً ـ وَذَلِكَ بَعْدَ قَتْلِ هَابِيلِ بِخَمْسِ سِنِينَ وَلَدَتْ لَهُ شيثًا، وَتَفْسِيرُهُ هِبَةُ اللهِ، أَيْ خَلَفًا مِنْ هَابِيلَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ قَبْلَ قَتْلِ قَابِيلَ هَابِيلَ السِّبَاعُ وَالطُّيُورُ تَسْتَأْنِسُ بِآدَمَ، فَلَمَّا قَتَلَ قَابِيلُ هَابِيلَ هَرَبُوا، فَلَحِقَتِ الطُّيُورُ بِالْهَوَاءِ، وَالْوُحُوشُ بالبَرِيَّةِ، ولَحِقَتِ السِّبَاعُ بِالْغِيَاضِ. وَرُوِيَ أَنَّ آدَمَ لَمَّا تَغَيَّرَتِ الحالُ قال:
تَغَيَّرَتِ الْبِلَادُ وَمَنْ عَلَيْهَا ...................... فَوَجْهُ الْأَرْضِ مُغْبَرٌّ قَبِيحُ
تَغَيَّرَ كُلُ ذِي طَعْمٍ وَلَوْنٍ ...................... وَقَلَّ بَشَاشَةً الْوَجْهُ الْمَلِيحُ
فِي أَبْيَاتٍ كَثِيرَةٍ ذَكَرَهَا الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَكَذَا هُوَ الشِّعْرُ بِنَصْبِ "بَشَاشَةً" وَكَفِّ التَّنْوِينِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ وَغَيْرُهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا قَالَ آدَمُ الشِّعْرَ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا وَالْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ فِي النَّهْيِ عَنِ الشِّعْرِ سَوَاءٌ، لَكِنْ لَمَّا قُتِلَ هَابِيلُ رَثَاهُ آدَمُ وَهُوَ سُرْيَانِيُّ، فَهِيَ مَرْثِيَّةٌ بِلِسَانِ السُّرْيَانِيَّةِ أَوْصَى بِهَا إِلَى ابْنِهِ شِيثَ وَقَالَ: إِنَّكَ وَصِيِّي فَاحْفَظْ مِنِّي هَذَا الْكَلَامَ لِيُتَوَارَثَ، فَحُفِظَتْ مِنْهُ إِلَى زَمَانِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ، فَتَرْجَمَ عَنْهُ يَعْرُبُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَجَعَلَهُ شِعْرًا.
رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ فَقَالَ: ((يَوْمُ الدَّمِ، فِيهِ حَاضَتْ حَوَّاءُ وَفِيهِ قَتَلَ ابْنُ آدَمَ أَخَاهُ)). وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ))، وقد تقدَّمَ. وَهَذَا نَصٌّ عَلَى التَّعْلِيلِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَكُونُ عَلَى إِبْلِيسَ كِفْلٌ مِنْ مَعْصِيَةِ كُلِّ مَنْ عَصَى بِالسُّجُودِ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ عَصَى بِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ أَحْدَثَ فِي دِينِ اللهِ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)). أخرجه مسلمٌ مِنْ حديثِ جَريرٍ، فتح الباري ـ ابن حجر (12/ 193). وَهَذَا نَصٌّ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةُ الْمُضِلُّونَ)). وهو حديث صحيح. أخرجه أحمدُ، والطَبَراني، وابنُ عَساكِرَ عن أبي الدرْداءِ ـ رضي اللهُ عنه ـ كما أخرجه الطَيالسيُّ، وَهَذَا كُلُّهُ صَرِيحٌ، وَنَصٌّ صَحِيحٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَهَذَا مَا لَمْ يَتُبِ الْفَاعِلُ مِنْ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّ آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ كَانَ أَوَّلَ مَنْ خَالَفَ فِي أَكْلِ ما نُهي عنه، ولا يكون عليْه شيءٌ مِنْ أَوْزَارِ مَنْ عَصَى بِأَكْلِ مَا نُهِيَ عنْه ولا شُرْبِهِ مِنْ بَعْدِهِ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ آدَمَ تَابَ مِنْ ذَلِكَ وتابَ اللهُ عليْه، فَصَارَ كَمَنْ لَمْ يَجْنِ. وَوَجْهٌ آخَرُ: فَإِنَّهُ أَكَلَ نَاسِيًا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْأَقْوَالِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي "الْبَقَرَةِ" وَالنَّاسِي غَيْرُ آثِمٍ وَلَا مُؤَاخَذٍ. ولقد تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْبَيَانَ عَنْ حَالِ الْحَاسِدِ، حَتَّى إِنَّهُ قَدْ يَحْمِلُهُ حَسَدُهُ عَلَى إِهْلَاكِ نَفْسِهِ بِقَتْلِ أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ قَرَابَةً، وَأَمَسُّهُ بِهِ رَحِمًا، وَأَوْلَاهُمْ بِالْحُنُوِّ عَلَيْهِ وَدَفْعِ الْأَذِيَّةِ عَنْهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ} أَيْ مِمَّنْ خَسِرَ حَسَنَاتِهِ، وخَسِرَ نفسَه فأوْرَدَها مَواردَ الهلاكِ، وخَسِرَ أَخاهُ ففقدَ الناصِرَ والرَفيقَ، خَسِرَ دُنياه فلم تعُدْ تَهنَأْ له حياةٌ، وخَسِرَ آخرتَه بدُخولِهِ النّارَ. كذلك أَصبحَ حائرًا لا يَدْري ماذا يَصْنَعُ، بعد أنْ رأى جُثَّةَ أَخيه وقدْ بَدَأَ يَسري فيها العَفَنُ. وقالَ ابْنُ عبّاسٍ ـ رَضيَ اللهُ عنهُما خَسِرَ دُنياه وآخرتَه، أمَّا الدُنيا فإنَّه أسْخَطَ والديْه وبقي مَذمومًا إلى يومِ القيامةِ وأمَّا الآخرةَ فهو العقابُ العظيمُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عُلِّقَتْ إِحْدَى رِجْلَيِ الْقَاتِلِ بِسَاقِهَا إِلَى فَخِذِهَا مِنْ يَوْمِئِذٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَوَجْهُهُ إِلَى الشَّمْسِ حَيْثُمَا دَارَتْ، عَلَيْهِ فِي الصَّيْفِ حَظِيرَةٌ مِنْ نَارٍ، وَعَلَيْهِ فِي الشِّتَاءِ حَظِيرَةٌ مِنْ ثَلْجٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَهُوَ مِنْ خُسْرَانِهِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ" وَإِلَّا فَالْخُسْرَانُ يَعُمُّ خُسْرَانَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَلَعَلَّ هَذَا يَكُونُ عُقُوبَتَهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ عَاصٍ لَا كَافِرٍ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى "فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ" أَيْ فِي الدنيا. والله أعلم.
قولُه تعالى: {فَطَوَّعَتْ} هي قراءةُ الجُمهورُ مُشَدَّدَ الواوِ مِنْ غيرِ ألفٍ بمعنى "سَهَّلَتْ وبعثت" وسَّعَتْه وَيسَّرَتْه مِنْ "طاعَ لَه المَرْتَعُ" إذا اتَّسَعَ. والتضعيفُ فيه للتَعديَةِ لأنَّ الأَصلَ: طاعَ لَهُ قتلُ أَخيهِ، أيْ: انْقادَ، مِنْ الطَوَاعِيَةِ فَعُدِّيَ بالتَضْعيفِ، فصارَ الفاعلُ مفعولاً كحالِه مَعَ الهَمْزَةِ.
وقَرأَ الحَسَنُ وزَيْد بنُ عليٍّ وجَماعةٌ كَثيرةٌ: "فَطاوَعَتْ"، وفيها احتِمالان، أحدُهُما: أنْ يَكونَ مِمَّا جاءَ فيهِ "فاعَلَ" لِغيرِ مُشاركةٍ بيْنَ شَيْئيْن، بَلْ بمَعنى فَعَّلَ نحوَ: ضاعَفْتُه وضَعَّفْتُه وناعَمْتُه ونَعَمْتُه، وهذان المِثالان مِنَ أَمثلةِ سَيبَويْهِ، قالَ: "فجاؤوا به على مثالِ عاقَبْتُه" قال: "وقدْ تَجيءُ فاعَلْتُ لا تَريدُ بِها عملَ اثْنَيْنِ، ولكنَّهم بَنَوْا عليْه الفِعْلَ كما بَنَوْهُ على "أَفْعَلْتُ" وذكر أمثلةً منها "عافاهُ اللهُ" وقَلَّ مَنْ ذَكَرَ أنَّ فاعَلَ يَجيءُ بمَعْنى فَعَّلْتُ. والاحتمالُ الثاني: أَنْ تكونَ على بابِها مِنَ المُشاركَةَ وهُوَ أنَّ قَتْلَ أَخيهِ كأنَّه دَعا نَفسَه إلى الإِقدامِ عليْه فطاوَعَتْه. وإيضاحُ العِبارَةِ في ذلك أَنْ يُقالَ: جَعَلَ القتلُ يَدْعو إلى نَفْسِهِ لأَجْلِ الحَسَدِ الذي لَحِقَ قابيلَ، وجَعَلَتِ النفسُ تَأْبى ذلك وتَشْمَئِزُّ منْه، فَكُلٌّ منهُما ـ أَعْني القتْلَ والنفسَ ـ كأنَّه يُريدُ مِن صاحِبِه أَنْ يُطيعَه إلى أنْ غَلَبَ القتْلُ النَفْسَ فَطَاوَعَتْهُ.
وقولُهُ: "لَهُ" متعلقٌ بـ "طَوَّعت" على القراءتيْن. و"لَهُ" لِزيادةِ الرَّبْطِ،
كقولِكَ: حَفِظْتُ لِزَيْدٍ مالَهُ، يَعني أنَّ الكلامَ تامٌّ بِنَفْسِهِ لو قِيلَ: فَطَوَّعَتْ نفسُهُ قَتْلَ أَخيهِ، كما كانَ كذلك في قولِكَ "حَفِظْتُ مالَ زَيْدٍ" فأَتى بِهذِه اللَّامِ لِقُوَّةِ رَبْطِ الكَلامِ. وقالَ قومٌ: طاوَعَتْ تتعدَّى بغيرِ لامٍ، وهذا خَطَأٌ، لأنَّ التي تَتَعَدَّى بغيرِ اللَّامِ تَتَعَدَّى لِمَفعولٍ واحدٍ، وقدْ عَدَّاهُ هُنا إلى قَتْلِ أَخيهِ، وقيلَ: التقديرُ: طاوَعَتْهُ نَفْسُهُ على قَتْلِ أَخيهِ، فزَادَ اللَّامَ وحَذَفَ "على" أيْ: زَادَ اللَّامَ في المَفعولِ بِهِ وهو الهاءُ، وحَذَفَ "على" الجارَّةِ لـ "قتل أَخيهِ".