وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ
فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ. (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ} شروعٌ في بيانِ قبائحِ النَّصارى وجِناياتِهم إثْرَ بيانِ قبائحِ وجِناياتِ إخْوانِهمُ اليَهودِ، و"قالُوا إِنَّا نَصارى" أيْ ادَّعوا أنَّهم أنْصارُ اللهِ، وسَمُّوا أَنفُسَهم بذلك، ثمَّ كَفَروا باللهِ ووَصَفوه بما لا يَليقُ به، ولم يَقُلْ ـ جَلَّ وعَلا ـ ومِنَ النَصارى كما هو الظاهرُ بدونِ إطنابٍ للإيماءِ كما قال بعضهم: إلى أنَّهم على دِينِ النَّصرانيَّةِ بِزَعْمِهم، وليسوا عليْها في الحقيقةِ، لِعَدَمِ عَمَلِهم بمُوجِبِها ومُخالَفَتِهم لِما في الإنْجيلِ مِنَ التَبْشيرِ بِنَبِيِّنا محمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم، وقيل: للإشارة إلى أنَّهم لَقبوا أنفُسَهم بذلك على معنى أنَّهم أَنصارُ اللهِ تعالى، وأَفعالُهم تقتَضي نُصْرَةَ الشَيْطان، فيَكونُ العُدولُ عنِ الظاهِرِ لِيُتَصَوَّرَ تلكَ الحالُ في ذِهنِ السامعِ ويَتَقَرَّرَ أنَّهم ادَّعوا نُصْرَةَ اللهِ تعالى وهم منها بمعزِلٍ، ونُكْتَةُ تَخصيصِ هذا المَوضِعِ بإسْنادِ النَّصرانيَّة إلى دَعواهم، أنَّه لمَّا كان المَقصودُ في هذه الآيةِ ذَمَّهم بِنَقضِ المِيثاقِ المَأْخوذِ عليْهم في نُصرَةِ اللهِ، ناسَبَ ذلك أَنْ يَصْدُرَ الكَلامُ بما يَدُلُ على أنَّهم لم يَنصُروا اللهَ تعالى ولَم يَفُوا بِما واثَقوا عليْه مِنَ النُّصْرَةِ وما كانَ حاصلُ أَمرِهم إلَّا التَفَوُّهُ بالدَّعوى وقولِها دونَ فِعلِها، ولا يَخفى أنَّ هذا مَبْنِيٌّ على أنَّ وَجْهَ تَسمِيَتِهم نَصارى كونَهم أَنْصارُ اللهِ، وهو وجهٌ مَشهورٌ، ولهذا يُقالُ لهم أيْضًا: أنْصار، وفي غيرِ ما مَوْضِعٍ أنَّ عيسى ـ عليْه السلامُ ـ وُلِدَ في سَنَةِ أَرْبَعٍ وثلثمِئةٍ لِغَلَبَةِ الإسكندرِ في بيتٍ لهم مِنَ المقدِسِ، ثمَّ سارتْ بِه أمُّهُ ـ عليْها السلامُ ـ إلى مصرَ، ولمَّا بَلَغَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً عادت بِه إلى الشامِ فأقامَ بِبَلْدَةٍ تُسمّى النّاصِرَة، أو "نَصورية" وبِها سُمِّيَتْ النَصارى ونُسِبُوا إليها، وقيل: إنَّ نَصارى جَمْعُ نَصران كنَدامى ونُدمان، أو جَمْعُ نُصْرِي كمُهريِّ ومَهارى. والنَّصرانيَّةُ والنَصرانَةُ واحدةُ النَّصارى، والنَّصرانيَّةُ أيْضًا دِينُهم، ويُقالُ لهم: نَصارى وأنْصارٌ، وتَنَصَّرَ دَخَلَ في النصرانيَّة. و"أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ" أَيْ فِي التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الْإِنْجِيلِ.
قولُه: {فَنَسُوا حَظًّا} وَهُوَ الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ـ أَيْ لَمْ يَعْمَلُوا بِمَا أُمِرُوا بِهِ وَجَعَلُوا ذَلِكَ الْهَوَى وَالتَّحْرِيفَ سَبَبًا لِلْكُفْرِ بِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَبَدَّلُوا دِينَهُمْ، وَنَقَضُوا المِيثَاقَ الذِي أَخَذَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَنَسُوا حَظًّا كَبيرًا مِنْ كِتابِهِمْ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أنَّ المَسِيحَ ـ عَلَيهِ السَّلاَمُ ـ لَمْ يَكْتُبْ مَا ذَكَّرَهُمْ بِهِ مِنَ المَواعِظِ، وَتَوحِيدِ اللهِ وَتَنْزِيهِهِ، وَلاَ طُرُقَ الإِرْشَادِ إلَى عِبَادَةِ اللهِ، وَكَانَ الذِينَ اتَّبَعُوهُ مِنَ العَامَّةِ فالحَوَارِيُّونَ كَانُوا مِنَ الصَّيَّادِينَ، وَاشْتَدَّ اليَهُودُ فِي مُطَارَدَتِهِمْ فَتَفَرَّقُوا، وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَاتٌ ذَاتِ قُوَّةٍ وَنُفُوذٍ وَعِلْمٍ تُدَوِّنُ مَا حَفِظُوهُ مِنَ الإِنْجِيلِ. وَلَمْ يُكْتَبْ الإِنْجِيلُ إلاَّ بَعْدَ ثَلاَثَةِ قُرُونٍ عِنْدَمَا دَخَلَ قُسْطَنْطِينُ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي تَفَرُّقِهِمْ وَتَعَادِيهِمْ، وَاخْتِلاَفِهِمْ شِيَعًا وَطَوَائِفَ، كُلُّ فِئَةٍ تُكَفِّرُ الأخْرَى وَتُعَادِيها. وَمَعْنَى "أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ" هُوَ كَقَوْلِكَ: أَخَذْتُ مِنْ زَيْدٍ ثَوْبَهُ وَدِرْهَمَهُ. وَرُتْبَةُ "الَّذِينَ" أَنْ تَكُونَ بَعْدَ "أَخَذْنا" وَقَبْلَ الْمِيثَاقِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: أَخَذْنَا مِنَ الذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى مِيثَاقَهُمْ، لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأَخَذْنَا. وَتَقْدِيرُهُ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ: وَمِنَ الذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى مَنْ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُ، فَالْهَاءُ وَالْمِيمُ تَعُودَانِ عَلَى "مَنْ" الْمَحْذُوفَةِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ تَعُودَانِ عَلَى "الَّذِينَ". وَلَا يُجِيزُ النَّحْوِيُّونَ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ مِنَ الذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى، وَلَا أَلْيَنَهَا لَبِسْتُ مِنَ الثِّيَابِ، لِئَلَّا يَتَقَدَّمَ مُضْمَرٌ عَلَى ظَاهِرٍ. وَفِي قَوْلِهِمْ: "إِنَّا نَصارى" وَلَمْ يَقُلْ مِنَ النَّصَارَى دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ ابْتَدَعُوا النَّصْرَانِيَّةَ وَتَسَمَّوْا بِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ} أَيْ هَيَّجْنَا. أي أَلْقَى بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ حَتَّى قِيامِ السَّاعَةِ. والْإِغْرَاءُ تَسْلِيطُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. وَقِيلَ: أَلْصَقْنَا بِهِمْ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْغِرَاءِ وَهُوَ مَا يُلْصِقُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ كَالصَّمْغِ وَشِبْهِهِ. يُقَالُ: غَرِيَ بِالشَّيْءِ يَغْرَى غَرًا "بِفَتْحِ الْغَيْنِ" مَقْصُورًا وَغِرَاءً "بِكَسْرِ الْغَيْنِ" مَمْدُودًا إِذَا أُولِعَ بِهِ كَأَنَّهُ الْتَصَقَ بِهِ. وَقِيلَ: الْإِغْرَاءُ التَّحْرِيشُ، وَأَصْلُهُ اللُّصُوقُ، يُقَالُ: غَرِيتُ بِالرَّجُلِ غَرًا ـ مَقْصُورٌ وَمَمْدُودٌ مَفْتُوحُ الأول ـ إذ لَصِقْتَ بِهِ. قَالَ كُثَيْرٌ:
إِذَا قِيلَ مَهْلًا قَالَتِ الْعَيْنُ بِالْبُكَا ............... غِرَاءً وَمَدَّتْهَا حَوَافِلُ نُهَّلُ
فَالْإِغْرَاءُ بِالشَّيْءِ الْإِلْصَاقُ بِهِ مِنْ جِهَةِ التَّسْلِيطِ عَلَيْهِ. وَأَغْرَيْتُ الْكَلْبَ أَيْ أَوْلَعْتُهُ بِالصَّيْدِ. "بَيْنَهُمُ" ظَرْفٌ لِلْعَدَاوَةِ. "وَالْبَغْضاءَ" الْبُغْضُ. أَشَارَ بِهَذَا إِلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِمَا. فعَنِ السُّدِّيِّ وَقَتَادَةَ: بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ. وَقِيلَ: أَشَارَ إِلَى افْتِرَاقِ النَّصَارَى خَاصَّةً، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمُ افْتَرَقُوا إِلَى الْيَعَاقِبَةِ وَالنُّسْطُورِيَّةِ وَالْمَلِكَانِيَّةِ، أَيْ كَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي مَعْنَى "فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ" أَنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ أَمَرَ بِعَدَاوَةِ الْكُفَّارِ وَإِبْغَاضِهِمْ، فَكُلُّ فِرْقَةٍ مَأْمُورَةٍ بِعَدَاوَةِ صَاحِبَتِهَا وَإِبْغَاضِهَا لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ.
وَقَوْلُهُ: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ} تَهْدِيدٌ لَهُمْ، أَيْ سَيَلْقَوْنَ جَزَاءَ نَقْضِ الْمِيثَاقِ. وَيَوْمِ القِيَامَةِ يُنْبِئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا، وَبِمَا اقْتَرَفُوهُ مِنَ الكَذِبِ عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَبِمَا نَسَبُوا إِلَيهِ مِنْ أنَّ لَهُ صَاحِبَةً وَوَلَدًا ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
قوله تعالى: {وَمِنَ الذين قَالُواْ}: فيه خمسةُ أَوْجُهٍ، أظهرُها: أنَّ "مِنْ" مُتَعَلِّقَةٌ بقولِه "أَخَذْنا"، والتقديرُ الصحيحُ فيْه أنْ يُقالَ: وأَخَذْنا مِنَ الذين قالوا: إنَّا نَصارى مِيثاقَهم، فتُوقَعَ الذين بعدَ "أَخَذْنا" وتؤخِّر عنْه "ميثاقهم" ولا يَجوزُ أنْ تُقدِّرَ وأَخَذْنا ميثاقَهم مِنَ الذين، فتُقدَّمَ "مِيثاقَهم" على "الذين قالوا" وإنْ كان ذلك جائزًا مِنْ حيثُ كونِهِما مَفعولَيْنِ، كُلٌّ منهُما جائزُ التقديمِ والتَأْخيرِ، لأنَّه يَلزَمُ عَوْدُ الضَميرِ على مُتَأَخِّرٍ لَفْظًا ورُتْبَةً، وهو لا يَجوزُ إلَّا في مواضعَ مَحصورةٍ. نَصَّ على ذلك جماعةٌ منهم مكي وأبو البقاء.
والوجهُ الثاني: أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحذوفٍ على أنَّه خَبَرُ مُبْتَدَأٌ محذوفٌ قامَتْ صِفتُه مَقامَه، والتقديرُ: ومِنَ الذين قالوا إنَّا نَصارى قومٌ أَخَذْنا مِيثاقَهم، فالضَميرُ في "مِيثاقهم" يَعودُ على ذلك المَحذوفِ.
والوجهُ الثالثُ: أنَّه خبرٌ مُقدَّمٌ أيْضًا، ولكنْ قَدَّروا المبتدأَ مَوْصولًا حُذِفَ وبَقِيَتْ صِلَتُه، والتقديرُ: ومِنَ الذين قالوا: إنَّا نَصارى مَنْ أَخَذْنا ميثاقَهم، فالضَّميرُ في "مِيثاقِهم" عائدٌ على "مَنْ" والكُوفِيُّون يُجيزون حَذْفَ المَوصولِ. وتقَديرُه عندَهم: ومِنَ الذين قالوا: إنَّ نَصارى مَنْ أَخَذْنا، وهذا التَقديرُ لا يُؤخَذُ منْه أَنَّ المَحذوفَ مَوْصولٌ فَقَط، بلْ يَجوزُ أنْ تَكونَ "مَنْ" المُقدَّرَةُ نَكِرَةً مَوصوفَةً حُذِفتْ وبَقيَتْ صِفَتُها، فيَكون كالمَذهَبِ الأوَّلِ.
الوجهُ الرابِعُ: أنْ تتعلَّقَ "مِنْ" بِـ "أَخَذْنا" كالوَجْهِ الأوَّلِ، إلَّا أنَّه لا يَلزَمُ فيه ذلكَ التَّقديرُ، وهو أنْ تُوقَع َ"مِنَ الذين" بعدَ "أَخَذْنا" وقبلَ "مِيثاقِهم"، بلْ يَجوزُ أنْ يَكونَ التقديرُ على العَكْسِ، بمَعنى أَنَّ الضَّميرَ في "مِيثاقِهم" يَعودُ على بَني إسرائيلَ، ويَكونَ المَصدرُ مِنْ قولِه "مِيثاقَهم" مَصْدَرًا تَشْبيهيًّا، والتَقديرُ: وأَخَذْنا مِنَ النَّصارى مِيثاقًا مِثْلَ مِيثاقِ بَني إسرائِيلَ كقولِكَ: أَخَذْتُ مِنْ زَيْدٍ مِيثاقَ عَمْرٍو، أيْ: ميثاقًا مثلَ ميثاقِ عَمْرٍو. والوجهُ الخامِسُ: أنَّ "مِنَ الذين" مَعطوفٌ على "مِنْهم" مِنْ قولِه ـ تعالى: "ولا تَزالُ تَطَّلِعُ على خائنةٍ منْهُم" أيْ: مِنَ اليَهودِ، والمَعْنَى: ولا تَزالُ تَطَّلِعُ على خائنةٍ مِنَ اليَهودِ ومِنَ الذين قالوا إنَّا نَصارى، ويكونُ قولُهُ: "أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} على هذا مُسْتَأْنَفًا. وهذا يَنبَغي أَلَّا يَجوزَ لِوَجْهَيْن، أَحَدُهُما: الفَصْلُ غيرُ المُغْتَفَرِ. والثاني: أَنَّه تَهْيِئَةٌ للعامِلِ في شيءٍ وقَطْعُهُ عنْه، وهو لا يَجوزُ.
قولُه: {بَيْنَهُمُ} فيْه وجْهان، أَحَدُهُما: أَنَّه ظَرْفٌ لـ "أَغْريْنا". والثاني: أنَّه حالٌ مِنْ العَداوةِ فيَتَعلَّقَ بمَحْذوفٍ، ولا يَجوزُ أَنْ يَكونَ ظَرْفًا للعَداوةِ،
لأنَّ المَصدرَ لا يَتَقدَّمُ مَعمولُه عليْه.
قولُه: "إلى يَومِ القِيامَةِ" يجوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِأَغْرَيْنا، أوْ بِالعَداوةِ، أوْ بالبَغضاءِ، أيْ: أَغْرَيْنا إلى يَومِ القِيامةِ بيْنهم العداوةَ والبَغْضاءَ، أوْ أنَّهم يَتعادَون إلى يَومِ القِيامَةِ، أو يَتَباغَضونَ إلى يَومِ القِيامَةِ. وعلى ما أَجازَهُ أَبو البَقاء تَكونُ المَسْألَةُ مِنْ بابِ الإعمالِ، ويَكونُ قد وُجِدَ التَنَازُعُ بيْن ثلاثةِ عواملَ، ويَكونُ مِنْ إعمالِ الثالثِ للحَذْفِ مِنَ الأوَّلِ والثاني. و"أغرينا" مِنْ أغراه بكذا أي: ألزمه إياه، ولامُه واوٌ، فالأَصلُ: أَغْرَوْنا، وإنَّما قُلِبتِ الواوُ ياءً لِوُقوعِها رابعةً كأَغْوَيْنا، ومنْه قولُهم: "سَهْمٌ مَغْرُوُّ" أي معمولٌ بالغِراء، يقال غَرِيَ بكذا يَغْرى غَرَاء وغِراء، فإذا أريد تعديتُه عُدِّي بالهمزة، فقيل: أَغْريْتُه بِكذا. والضميرُ في "بينهم" يُحتمَلُ أنْ يَعودَ على "الذين قالوا إنَّا نَصارى" وأنْ يَعودَ على اليَهودِ مُتقدِّمي الذِكْرِ، وبِكُلٍ قال جماعةٌ، وهذا الكلامُ معطوفٌ على الكلامِ قبلَه مِنْ قولِه: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ} أي: ولقدْ أَخَذَ اللهُ ميثاقَ بني إسرائيلَ، وأخذنا مِنَ الذين قالوا.
يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ. (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى جَدُّهُ: {يَا أَهْلَ الْكِتابِ} يَا أَهْلَ الكِتَابِ إنَّا أرْسَلْنَا مُحَمَّداً رَسُولَ اللهِ، وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ كَثِيرًا مِنَ الأَحْكَامِ التي أنْزَلَهَا اللهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ، وَكُنْتُمْ تُخْفُونَهَا (كَالرَّجْمِ لِلزَّانِي المُحْصَنِ، وَكَصِفَاتِ مُحَمَّدِ، وَالبشَارَةِ بِهِ التِي حَرَّفْتُمُوهَا وَحَمَلْتُمُوهَا عَلَى مَعَانٍ أخْرَى، وَمِثْلِ الأحْكَامِ التِي أخْفَيْتُمُوهَا وَنَسِيتُمُوهَا كَنِسْيَانِ اليَهُودِ مَا جَاءَ فِي التَّورَاةِ مِنْ أخْبَارِ الحِسَابِ وَالجَزَاءِ فِي الآخِرَةِ، وَقَدْ أظْهَرَ الرَّسُولُ لَهُمْ كَلَّ ذّلِكَ، وَمَعَ هَذا فَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ الكَرِيمُ يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا كَانُوا يُحْفُونَهُ، وَلا يُظْهِرُ الكَثِيرَ مِمَّا كَانُوا يِكْتُمُونَهُ. وقد انتقلَ البيانُ القُرآنيُّ مِنَ الكلامِ عنْ ماضيهم إلى مُخاطَبَةِ الحاضرين الذين يَجري في أَوساطِهِمْ ما كان يَجْري في أَوساطِ الذين تَقَدَّموهم، فالالْتِفاتُ مِنَ الكَلامِ عنِ الغائبِ إلى مُخاطَبَةِ الحاضِرِ، لأنَّ البيانَ للحاضرين والتكليفَ القائمَ للقائمين، فَجَمِيعُهُمْ مُخَاطَبُونَ والْكِتَابُ اسْمُ جِنْسٍ بِمَعْنَى الْكُتُبِ.
وفي نِدائهم بهذا الوَصْفِ حملٌ لهم على الدُّخولِ في الإِسلام؛ فإنَّ عِلمَهم بما في كتبهم من بشارات بالرسول ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ ولم يدعوهم إلى الإِيمان به. فإذا لم يؤمنوا به مع علمهم بأنه رسول صادق في رسالته كانت مَذَمَّتُهم أَشَدَّ وأَقبحَ، وكان عقابُهم على كِتمانِهمُ الحَقَّ أَعْظمَ وأقسى. وكان التعبير بقوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ} للإِشارة إلى أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد وصل إليهم، ويعيش بينهم، فهم يرونه ويراهم ويخاطبهم ويخاطبونه، لِيَسمعوا مِنْه ما يَشْهَدُ بصِدْقِهِ بِدون حِجابٍ أو وِساطَةٍ.
وقولُه: {قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ} رسولُنا: المقصود به هو خاتمُ المرسلين سيِّدُنا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَلامُ. "يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ" أَيْ يُبَيِّنُ لَكمْ كثيرًا مِما كنْتمْ تُخْفونَه وتَكتمونَه على الناسِ مِنْ كُتُبِكُمْ، كالإِيمَانِ بِهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ، وكآيَةِ الرَّجْمِ، وكَقِصَّةِ أَصْحَابِ السَّبْتِ الذين مُسِخُوا قِرَدَةً، فإنَّهم كانوا يُخفونَها.
فقد أَخرَجَ ابْنُ جَريرٍ عنْ عِكْرِمَةَ أنَّه قال: إنَّ نَبِيَ اللهِ تعالى ـ صلى اللهُ عليْه وَسَلَّمَ ـ أتاه اليهودُ يَسأَلونَه عَنِ الرَّجْمِ، فقال ـ عليه الصلاةُ والسلامُ: ((أَيُّكم أَعْلَمُ؟)) فأَشاروا إلى ابْنِ صُورِيا فنَاشَدَهُ بالذي أَنَزَلَ التَوراةَ على موسى ـ عليه السَّلامُ ـ والذي رَفَعَ الطُّورَ، وبالمواثيقِ التي أُخِذَتْ عليهم حتَّى أَخَذَها الكُلُّ فقال: إنَّه لَمّا كَثُرَ فينا (أي الزنا) جَلَدْنا مئةً وحَلَقْنا الرُّؤوسَ، فحَكَمْ عليهم بالرَّجمِ، فأنزلَ اللهُ تعالى هذه الآيةَ.
قولُه: {وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} أَيْ يَتْرُكُهُ وَلَا يُبَيِّنُهُ، ويُعرِضُ ولا يُظهِرُ
كثيرًا ممَّا كنتم تُخفونَه، لأنَّه لا ضرورة تدْعو إلى بيانِه، ولا فائدة تعودُ على الناسِ مِنْ وراءِ إظهارِه، ففي السكوتِ عنْه رحمةٌ بكم، وصيانةٌ لكم عن الافتِضاحِ والمُؤاخَذَةِ. يقال: عَفا عنِ المُذنِبِ، أي: سَتَرَ ذَنْبَه فلم يُعاقِبْه عليه. وَإِنَّمَا بَيَّنَ مَا فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَدَلَالَةٌ عَلَى صِدْقِهِ وَشَهَادَةٌ بِرِسَالَتِهِ، وَيَتْرُكُ مَا لَمْ يكن بِهِ حاجةٌ إلى تَبْيينِه. وقيل: "وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ" يَعْنِي يَتَجَاوَزُ عَنْ كَثِيرٍ فَلَا يُخْبِرُكُمْ بِهِ. وَذُكِرَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَحْبَارِهِمْ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: يَا هَذَا عَفَوْتَ عَنَّا؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ وَالسَلامَ ـ وَلَمْ يُبَيِّنْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْيَهُودِيُّ أَنْ يُظْهِرَ مُنَاقَضَةَ كَلَامِهِ، فَلَمَّا لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَامَ مِنْ عِنْدِهِ فَذَهَبَ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَرَى أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا يَقُولُ: لِأَنَّهُ كَانَ وَجَدَ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ لَا يُبَيِّنُ لَهُ مَا سَأَلَهُ عَنْهُ.
قولُهُ: {قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ} نورٌ: أَيْ ضِيَاءٌ، عظيمٌ وهو نُورُ الأَنْوارِ والنبيُّ المُختارُ ـ صلى اللهُ عليْه وعلى آله وصحبه وسلَّمَ، وإلى هذا ذَهَبَ قتادةُ واختارَهُ الزَّجَّاجُ، ووردَ في تفسيرِ ابنِ عبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما. وقِيلَ: هو الْإِسْلَامُ والمُرادُ بالنُّورِ والكتابِ هو القرآنُ لِما فيه مِنْ كَشْفِ ظُلُماتِ الشِرْكِ والشَكِّ وإبانةِ ما خَفِيَ على النَّاسِ مِنَ الحَقِّ أو الإعجازِ الواضِحِ، والعَطفُ المُنْبِئُ على تَغَايُرِ الطَرَفيْنِ لِتَنْزيلِ المُغايَرَةِ بالعُنْوانِ مَنْزِلَةَ المُغايَرَةِ بالذَّاتِ. فمجيءُ الرَّسولِ فيه بيانُ المُخْتَفي، وكشفُ المَستورِ، فهو نُورٌ، وبَعْثُه نورٌ، وقد سُجِّلَ ذلك النُّورُ في كتابٍ مُبينٍ، أيْ واضِحٍ في ذاتِه مُبينٍ للشَرْعِ الشَريفِ، ولِما أَخْفاهُ أهلُ الكِتابِ، وطَمَسوهُ مِنْ مَعاني الوَحدانيَّةِ الخالِصَةِ، ومِنَ الشَرائعِ المُحْكَمَةِ، وفي هذا النص تأكيدٌ لِمَعنى الرِّسالةِ عَنِ اللهِ التي ثَبَتَتْ بقولِه ـ تعالى: "رَسُولُنَا" وفي هذا النصِّ تصريحٌ بأنَّ ما يَجيءُ بِه الرَّسولُ مِنْ نورٍ كاشِفٍ هادٍ، وكتابٍ مُسَجِّلٍ للشَريعةِ هو مِنَ اللهِ، وقد صرَّح بذلك في قولِه ـ تعالى: "قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّه نُورٌ وَكتَابٌ مُّبِينٌ".
قولُه تعالى: {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ} جملةٌ "يُبَيِّنُ" في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِنْ "رسولُنا" أي: جاءكم رَسولُنا في هذه الحالة. و"ممَّا" يَتَعلَّقُ بمحذوفٍ لأنَّه صفةٌ لـ "كثيرًا" و"ما" مَوصولةٌ اسْميَّةٌ، و"تُخْفون" صِلَتُها والعائدُ محذوفٌ أي: مِنَ الذين كنتم تُخفونَه. و"من الكتاب" متعلِّقٌ بمَحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنَ العائدِ المَحذوفِ.
وقولُه: {قَدْ جَاءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ} جملةٌ اسْتِئنافيَّةٌ لا مَحَلَّ لها من الإعراب، والضميرُ في "يبيِّن" و"يَعْفُو" يَعودُ على الرَّسولِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم، وقد جَوِّزَ قومٌ أَنْ يَعودَ على الله ـ تعالى، وعلى هذا فلا مَحَلَّ من الإِعراب لِقولِهِ: "يُبَيِّنُ". ويَمتَنِعُ أنْ يَكونَ حالًا مِنْ "رسولنا" لِعَدَمِ الرابِطِ، وصفةُ "كثيرٍ" محذوفةٌ للعِلْمِ بها والتقديرُ: عَنْ كثيرٍ مِنْ ذُنوبِكم، وحَذْفُ الصفة قليل. و"من الله" يَجوزُ أَنْ يَتَعلَّقَ بـ "جاء" ويجوزُ أنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنَ "نور" قُدِّمَتْ صفةُ النَكِرَةِ عليها فنُصِبَتْ حالًا.