قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ. (60)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} خطابٌ للرسولِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ قُلْ يا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُسْتَهْزِئِينَ بِالدِّينِ وَالعِبَادَةِ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ: هَلْ تُرِيدُونَ أَنْ أُخْبِرَكُمْ بِمَنْ هُوَ ينالُ شَرَّ ثوابٍ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، ومَنْ يَنَالُهُ أَسْوَأُ الجَزَاءِ عِنْدَهُ غدًا: أولَئِكَ هُمُ الذِينَ طردهُمُ اللهُ من رحمتِه، وَغَضِبَ عَلَيْهِمْ غَضَبًا شَدِيدًا لاَ يَرْضَى عَنْهُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا، وهم الذين مَسَخَهُم إلى قِرَدَةٍ وخَنَازِيرَ لأنَّهم عَبَدَوا الطَّاغُوتِ، بمخالفتِهم اللهَ مولاهم وطاعتِهم لأهوائهم، فَهم الأَكْثَرُ ضَلاَلاً عَنِ الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ، وهَؤُلاَءِ هُمْ الأَحَطُّ مَكَانةً، والأَسوأُ مَصيرًا وَهم شَىرٌّ الناسِ مَثُوبَةً وجَزَاءً عِنْدَ اللهِ. وفي هذا تبكيتٌ لأولئكَ الفَجَرَةِ وبيانٌ بأنَّ الحقيقَ بالعيبِ والجديرَ بالنِقَمِ ما همْ عليْه مِن الدِّينِ المُحَرَّفِ، وفيه نَعْيٌ عليهم وتعريضٌ بجِناياتِهم وما حاقَ بِهم من غضبِ اللهِ تعالى. ولم يُصَرِّحْ ـ سُبحانَه ـ بتسميتِهم لِئَلَّا يَحْمِلَهمْ ذلك على العِنادِ والمُكابَرَةِ، وخاطَبَهم قبلَ البَيانِ بما يُنبئُ عنْ عِظَمِ شأنِ المُبينِ، ويَسْتَدْعي إقْبالَهم على تَلَقِّيهِ مِنَ الجُملةِ الاسْتِفْهامِيَّةِ المُشَوِّقَةِ إلى المُخَبَّرِ بِه، والتَنْبِئةِ المُشْعِرَةِ بكونِه أَمْرًا خطيرًا لِما أَنَّ النَبَأَ هو الخَبَرُ الذي له شأنٌ وخَطَرٌ. والإشارةُ إلى الدِّينِ المَنقومِ لهم، واعْتُبِرَتْ الشَرِّيَّةُ بالنِسْبَةِ إليْه مَعَ أَنَّه خَيْرٌ مَحْضٌ مُنَزَّهُ عن شائبةِ الشَرِّيَّةِ بالكُلِّيَّةِ مُجاراةً مَعَهم على زَعْمِهمُ الباطلِ المُنْعَقِدِ على كَمالِ شَرِّيَّتِهِ، وحاشاهُ، لِيثْبِتَ أنَّ دينَهُمْ شَرٌّ مِنْ كُلِّ شَرٍّ، ولم يَقُلْ ـ سبحانَه ـ بأنْقَمَ تَنْصيصًا على مَناطِ الشَرِّيَّةِ لأنَّ مُجرَّدَ النَّقْمِ لا يُفيدُها البَتَّةَ لِجوازِ كونِ العيبِ مِنْ جِهَةِ العائبِ:
فكم مِنْ عائبٍ قوْلًا صحيحًا ................... وآفَتُه مِنَ الفَهْمِ السقيمِ
وفي ذلك تحقيقٌ لشرعيَّة ما سَيُذكَرُ وزيادةُ تقريرٍ لها، وقيلَ: إنَّما قال: "بِشَرٍّ" لِوُقوعِهِ في عبارةِ المُخاطَبين.
فقدْ أَخرَجَ ابْنُ إِسحاقٍ وابْنُ جَريرٍ وغيرُهُما عنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ تَعالى عنهُما ـ قال: أَتى النَبِيُّ ـ صلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ ـ نَفَرٌ مِنْ يَهودَ فيهم أَبو ياسِرٍ بْنُ أَخْطَبٍ، ونافعٌ بْنُ أَبي نافعٍ، وغازي بْنُ عَمْرٍو، وزَيْدٌ وخالدٌ وإزارٌ بْنُ أَبي إِزارٍ فسألوهُ عمَّنْ يُؤمِنُ بِهِ مِنَ الرُسُلِ، قال: ((أُومِنُ باللهِ تعالى وما أَنزَلَ إلى إبْراهيمَ وإسمعيلَ وإسحقَ ويَعقوبَ والأسباطِ، وما أُوتيَ موسى وعيسى، وما أُوتِيَ النَبِيّون مِنْ رَبِّهم لا نُفَرِّقُ بيْنَ أَحَدٍ منهم ونَحنُ لَهُ مُسلِمون)). فلمَّا ذَكر عيسى ـ عليه الصلاةُ والسَلامُ ـ جَحَدوا نُبُوَّتَه، وقالوا: لا نُؤمِنُ بِعيسى ولا نُؤمِنُ بمَنْ آمَنَ بِهِ، ثمَّ قالوا كما في روايةِ الطَبَرانِيِّ لا نَعلَمُ دِينًا شَرًّا مِنْ دينِكم، فأَنزَلَ اللهُ تَعالى الآيةَ، وبِهذا الخبرِ انْتَصَرَ مَنْ ذَهَبَ إلى أنَّ المُخاطَبينَ بـ "أنبئكم" هُمْ أَهْلُ الكِتابِ. وقال بعضُهم: المُخاطَبُ هُمُ الكُفَّارُ مُطْلَقًا، وقيلَ: هُمُ المُؤمنون، وكما اخْتُلِفَ في الخِطابِ اخْتُلِفَ في المُشارِ إليْهِ بذلِك، فالجُمهورُ على ما قدَّمناه، وقيلَ الإشارةُ إلى الأَكْثَرِ الفاسقين، ووَحَّدَ الاسْمَ إمَّا لأنَّه يُشارُ بِهِ إلى الواحِدِ وغيرِهِ، وليس كالضمير، أوْ لِتَأْويلِهِ بالمَذكورِ ونحوِه. وقيل: الإشارةُ إلى الأَشخاصِ المُتَقدِّمين الذينَ هُمْ أَهلُ الكِتابِ، والمُرادُ أَنَّ السَلَفَ شَرٌّ مِنَ الخَلَفِ.
قولُه: {مَثُوبَةً عِندَ الله} أيْ جزاءً ثابتًا عندَه تعالى، وهو مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بمَعنى الثَوابِ، ويُقالُ في الخَيْرِ والشَرِّ لأنَّه ما رَجَعَ إلى الإنْسانِ مِنْ جَزاءِ أَعمالِه سُمِّيَ بِه بِتَصَوُّرِ أَنَّ ما عَمِلَهُ يَرْجِعُ إليْه كما يُشيرُ إليْه قولُه تَعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} الزلزلة: 7. حيث لم يَقُلْ ـ سبحانَه ـ يَرَ جَزَاءَه. إلَّا أَنَّ الأَكثَرَ المُتَعارَفَ استِعمالُه في الخيرِ، ومِثْلُهُ في ذلك المَثوبَةُ. واسْتِعْمالُها هُنا في الشَرِّ على طريقةِ التِهَكُّمِ كقولِ عَمْرٍو بْنِ مَعْدِيَكْرِبَ:
وخيللٍ قد دَلَفْتُ لها بخيلٍ .................... تحيةُ بينهم ضرب وَجِيع
المثوبةُ في المُتعارَفِ مِنِ اسْتِعْمالِها، وهو وإنْ كان لَهُ وَجْهٌ لكنَّه خلافُ الظاهِرِ.
وقولُهُ: {مَن لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} أيْ دينِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ الخ، أو بِشَرٍّ مِنْ أَهْلِ ذلك، ووضعُ الاسْمِ الجَليلِ مَوْضِعَ الضَميرِ لِتَربيةِ المَهابةِ وإدخالِ الرَّوعةِ وتهويلِ أَمْرِ اللَّعْنِ وما تَبِعَه، والمَوصولُ عبارةً عنْ أَهْلِ الكتابِ حيثُ أَبعدَهُمُ اللهُ ـ تعالى ـ عن رَحْمَتِه وسَخِطَ عليهم بكُفْرِهم وانْهِماكِهم في المَعاصي بعدَ وُضوحِ الآياتِ وسُطوعِ البَيِّناتِ.
وقولُه: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازيرَ} أيْ مَسَخَ بعضَهم قِرَدَةً وهم أصحابُ السَبْتِ وبعضُهم خَنازيرَ وهُم كُفَّارُ مائدةِ عيسى ـ عليه الصلاةُ والسَّلامُ ـ وعنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالى عنهُما ـ أنَّ المَسْخَيْنِ كانا في أَصْحابِ السَبْتِ، مُسِخَتْ شُبَّانُهم قِرَدَةً وشُيوخُهُم خَنازيرَ.
قولُهُ: {وَعَبَدَ الطاغوتَ} المُرادُ بالطاغوتِ العِجْلُ الذي عبدَهُ اليَهودُ، وعنِ ابْنِ عبَّاسٍ والحَسَنِ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنهُم ـ أنَّهُ الشيطانُ، وقيل: الكَهَنَةُ وكُلُّ مَنْ أَطاعوه في مَعصيةِ اللهِ تعالى.
وتقديمُ أَوْصافِهمُ المَذكورةِ بِصَدَدِ إثباتِ شَرِّيَّةِ دِينِهم على وَصْفِهم هذا ـ مع أنَّه الأَصْلُ المُسْتَتْبِعُ لها في الوُجودِ وأَنَّ دَلالَتَهُ على شَرِّيَّتِهِ بالذاتِ لأنَّ عِبادةَ الطاغوتِ عَيْنُ دينِهم البَيِّنِ البُطْلان، ودَلالَتُها عليْها بِطريقِ الاسْتِدْلالِ بِشَرِّيَّةِ الآثارِ على شَرِيَّةِ ما يُوجِبُها مِنَ الاعْتِقادِ، والعَمَلِ إمَّا للقَصْدِ إلى تَبْكيتِهمْ مِنْ أَوَّلِ الأمرِ بِوَصْفِهم بِما لا سَبيلَ لَهم إلى الجُحودِ ـ لا بِشَرِّيَّتِهِ وفَظاعَتِه، ولا باتِّصافِهم بِهِ ـ وإمَّا للإيذانِ باسْتِقْلالِ كُلٍّ مِنَ المُقَدَّمِ والمُؤَخَّرِ بالدَّلالَةِ على ما ذَكَرَ مِنَ الشَرِّيَّةِ. ولو رُوعِيَ تَرتيبُ الوُجودِ، وقيل: مَنْ عَبَدَ الطاغوتَ ولَعَنَ اللهُ وغَضِبَ عليْه..الخ، لَرُبَّما فُهِمَ أنَّ عليْه الشَرِّيَّةُ هو المَجْموعُ.
وهذا الوَصْفُ أَصْلًا غيرُ ظاهرٍ، وكونُ الاتِّصافَ باللَّعْنِ والغَضَبِ ممَّا لا سبيلَ لهم إلى الجُحودِ به في حَيِّزِ المَنْعِ، كيف وهم يقولون: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} المائدة: 18. إلَّا أَنْ يُقالَ: إنَّ الآثارَ المُتَرَتِّبَةَ على ذلك الدالَّةَ عليْه في غايةِ الظُهورِ بحيثُ يَكونُ إنكارُ مَدْلولِها مُكابرةً.
وقيلَ: قَدَّمَ وَصْفَيِ اللَّعنِ والغَضَبِ لأنَّهما صَريحان في أَنَّ القومَ مَنْقومون، ومُشيرانِ إلى أَنَّ ذلك الأمرَ عظيمٌ؛ وعَقَّبَهُما بالجَعْلِ المَذكورِ لِيَكونَ كالاسْتِدْلالِ على ذلك. وأَرْدَفَه بِعبادَةِ الطاغوتِ الدالَّةِ على شَرِّيَّةِ دِينِهم أَتَمَّ دَلالةٍ، لِيَتَمَكَّنَ في الذِّهنِ أَتَمَّ تَمَكُّنٍ لِتَقَدُّمِ ما يُشيرُ إليْها إجْمالًا، ولعلَّ رِعايتَه غيرُ لازمةٍ لانْحِطاطِ درجتِه في هذا المَقام، والمُرادُ مِنَ الطاغوتِ العِجْلُ، وقيلَ: الكَهَنَةُ وكُلُّ مَنْ أَطاعوه في مَعْصِيَةِ اللهِ تعالى، فيَعُمُّ الحُكْمُ دينَ النَصارى أَيْضًا، ويَتَّضِحُ وجْهُ تأخيرِ عِبادَتِه عنِ العُقوباتِ المَذكورةِ إذْ لو قُدِّمَتْ عليها لَزِمَ اشْتِراطُ الفريقين في تلك العقوباتِ.
قولُهُ: {أُولئكَ شَرُّ مَكَانًا} أُولئكَ: الموصوفونَ بتلكَ القبائحِ والفَضائحِ "شَرُّ مَكَانًا" إثْبَاتُ الشَرِّيَّةَ لِمَكانِهم أَبْلَغُ في الدَّلالَةِ على شَرِّيَّتِهم، كقولِهمْ: سَلامٌ على المَجْلِسِ العالي والمَجْدِ بيْن بُرْدَيْهِ، فكأنَّ شرَّهم أَثَّرَ في مَكانِهم، أو عَظُمَ حتَّى صارَ مُجَسَّمًا. وجُوِّزَ أنْ يَكونَ الإسنادُ مَجازيًّا كَجَرْيِ النَّهْرِ، وقيلَ: يَجوزُ أنْ يَكونَ المَكانُ بمَعنى مَحَلِّ الكَوْنِ والقَرارِ الذي يَكونُ أَمْرُهم إلى التَمَكُّنِ فيه، أيْ شَرٌّ مُنْصَرَفًا، والمُرادُ بِه جَهَنَّمُ وبئسَ المَصيرُ.
قولُه: {وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السبيلِ} أيْ أَكْثَرُ ضَلالًا عن طريقِ الحَقِّ المُعتدِلِ، وهو دينُ الإسلامِ والحَنيفِيَّةِ، وفيه دَلالةٌ على كونِ دينِهم شَرًّا مَحْضًا بعيدًا عنِ الحَقِّ لأنَّ ما يَسْلُكونَه مِنَ الطريقِ دينُهم، فإذا كانوا أَضَلَّ كان دينُهم ضَلالًا مُبينًا لا غايةَ وراءَهُ، والمَقصودُ مِنْ صِيغَتَيِ التَفضيلِ الزيادةُ مُطلَقًا مِنْ غيرِ نَظَرٍ إلى مُشارَكَةِ غيرٍ في ذلك، وقيلَ: للتَفضيلِ على زَعمِهم، وقيل: إنَّه بالنسبةِ إلى غيرِهم مِنَ الكُفَّارِ. وقال بعضُهم: لا مانِعَ أنْ يُقالَ: إنَّ مكانَهم في الآخرةِ شَرٌّ مِنْ مَكانِ المؤمنين في الدنيا لِما لَحِقَهم فيها مِنْ مَكارِهِ وسماعِ أذًى.
قولُه تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} الضميرُ للمُؤمنين، وتكونُ أَفْعَلُ التفضيل "بِشَرٍّ" على بابِها، والتقديرُ: قلْ هل أُنَبِّئُكم يا مُؤمنون بِشَرٍّ مِنْ حالِ هؤلاءِ الفاسقين؟ أُولئكَ أَسْلافُهم الذين لَعَنَهُمُ اللهُ، وتكونُ الإِشارةُ بـ "ذلك" إلى حالِهم، كذا قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وإنَّما قَدَّرَ مُضافًا، وهو حالٌ لِيَصِحَّ المعنى، فإنَّ "ذلك" إشارةٌ للواحِدِ، ولو جاءَ مِنْ غيرِ حَذْفِ مُضافٍ لَقيلَ: بِشَرٍّ مِنْ أُولئكمْ بالجَمْعِ. وقال الزَمَخْشَرِيُّ: "ذلك" إشارةٌ إلى المَنقومِ، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مُضافٍ قبلَه أو قبلَ "من" تقديرُه: بِشَرٍّ مِنْ أهلِ ذلك، أوْ دِينِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ. ويَجوزُ أَلاَّ يُقدَّرَ مُضافٌ مَحذوفٌ لا قَبْلُ ولا بعدُ، وذلك على لُغَةِ مَنْ يُشيرُ للمُفرَدِ وللمُثنّى والمَجموعِ تَذكيرًا وتانيثًا بإشارةِ الواحدِ المُذَكَّرِ، ويَكونُ "ذلك" إشارةً إلى الأشخاصِ المُتَقدِّمين الذين هُمْ أَهْلُ الكتابِ، كأنَّه قيلَ: بِشَرٍّ مِنْ أُولئكَ، يَعني أَنَّ السَلَفَ الذي لهم شَرٌّ مِنَ الخَلَفِ، وعلى هذا يجيء قولُهُ "مَن لَّعَنَهُ اللهُ" مُفَسِّرًا لِنَفْسِ "ذلك"، وإنْ كان ضميرَ أَهْلِ الكِتابِ وهو قولُ عامَّةِ المُفَسِّرين فيُشْكِلُ ويَحتاجُ إلى جَوابَ.
ووجْهُ الإِشكالِ أَنَّه يَصيرُ التقديرُ: "هل أنبِّئكم يا أهلَ الكتاب بشرٍّ من ذلك. و"ذلك" يُرادُ بِهِ المَنْقومُ وهو الإِيمانُ، وقدْ عُلِمَ أَنَّهُ لا شَرَّ في دِينِ الإِسلامِ البَتَّةَ، وقد أَجابَ الناسُ عنه، فقالَ الزَمَخْشَرِيُّ عبارةً قَرَّرَ بِها الإِشكالَ المُتقدمَ، وأَجابَ عنْه بعدَ أَنْ قال: فإنْ قلتَ: المَثوبةُ مُختصَّةٌ بالإِحسانِ فكيفَ وَقَعَتْ في الإِساءَةِ؟ قلتُ: وُضِعَتْ مَوْضِعَ عُقوبةٍ فهو كقولِ عَمْرٍو بْنِ مَعْدِيَكْرِبَ:
وخيللٍ قد دَلَفْتُ لها بخيلٍ .................... تحيةُ بينهم ضرب وَجِيع
وقد تقدَّم، ومِنْهُ {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} آل عمران: 21، وتلك العبارةُ التي ذكرتُها لك هي أنْ قال: فإنْ قلتَ: المعاقَبُ من الفريقين هم اليهودُ، فلِمَ شُورِكَ بينَهم في العُقوبةِ؟ قلت: كان اليهودُ ـ لُعِنوا ـ يَزْعمون أنَّ المُسلمين ضَالُّون مُسْتَوجِبونَ للعُقوبةِ، فقيلَ لهم: مَنْ لَعَنَهُ اللهُ شَرٌّ عُقوبَةً في الحقيقةِ واليَقينِ مِنْ أَهْلِ الإِسلامِ في زَعْمِكم ودَعْواكم، وفي عبارتِه بعضُ علاقةٍ وهي قولُه: "فلِمَ شُورِكَ بينَهم" أي: بيْنَ اليهودَ وبيْنَ المؤمنين، وقولُه: "من الفريقين" يَعني بِهِما أَهْلَ الكِتابِ المُخاطَبين بـ "أنبِّئكم" ومَنْ لَعَنَهُ اللهُ وغَضِبَ عليْهِ، وقولُه "في العقوبة" أي: التي وَقَعَت المثوبةُ مَوْقِعَها، ففسَّرها بالأصْلِ، وفَسَّرَ غيرُه المَثوبَةَ هُنا بالرُّجوعِ إلى اللهِ تعالى يومَ القيامةِ، ويَتَرَتَّبُ على التَفسيريْنِ فائدةٌ سَتَظْهَرُ لَكَ قريبًا.
وقولُهُ: {مثوبةً} نَصْبٌ على التَمييزِ، ومُمَيِّزُها "شَرٌّ" وقد تَقَدَّمَ في البَقَرَةِ الكلامُ على اشْتِقاقِها وَوَزْنِها.
وقولُه: {عِندَ اللهِ} متعلِّقٌ بـ "مَثُوبة" إنْ قُلْنا إنَّها بمَعنى الرُّجوعِ، لأنَّك تقولُ: "رَجَعْتُ عندَه" والعِنْدِيَّةُ هُنا مَجازيَّةٌ. أو هو مُتَعَلِّقٌ بمَحذوفٍ لأنَّه صِفَةٌ لـ "مثوبة"، وهو في محلِّ نَصْبٍ إنْ قلْنا: إنَّها اسْمٌ مَحْضٌ، وليستْ بِمَعْنى الرُّجوعِ بَلْ بمَعْنى عُقوبة.
وقرأ الجمهورُ: "أُنَبِّئكم" بتشديدِ الباءِ مِنْ "نَبَّأَ" وقرأَ إبراهيمُ النُخَعِيُّ ويَحيى بْنُ وَثابٍ: "أُنْبِئُكم" بتخفيفِها مِنْ "أَنْبَأَ" وهُما لُغتانِ فَصيحتان. والجمهورُ أَيْضًا على "مَثُوبة" بضمِّ الثاءِ وسكونِ الواوِ، وقَرَأَ الأعرجُ وابْنُ بُرَيْدَةَ ونُبَيْحٍ وابْنُ عُمران: "مَثْوبة" بسكونِ الثاءِ وفتحِ الواوِ، وجَعَلَها ابْنُ جِنِّيٍّ في الشُذوذِ كقولِهم "فاكهةٌ مَقْوَدَةٌ للأَذى" بِسكونِ القافِ وفتحِ الواوِ، يَعني أنَّه كان مِنْ حَقِّها أَنْ تُنْقَلَ حَرَكةُ الواوِ إلى الساكِنِ قَبْلَها، وتُقْلَبَ الواوُ أَلِفًا، فيُقالُ: مثابة ومَقادَة كما يُقالُ: "مَقام" والأصلُ: "مَقْوَم".
قولُه: {مَن لَّعَنَهُ} مَنْ: في محلِّ رفعٍ على خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ تقديرُه: هو مَنْ لَعَنَهُ اللهُ، وقَدَّرَ مَكِّيٌّ قبلَه مضافًا مَحذوفًا، تقديرُه: لَعْنُ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ. ثمَّ قال: وقيل: "مَنْ" في مَوْضِعِ خَفْضٍ على البَدَلِ مِنْ "بِشَرِّ" بَدَلِ الشيْءِ مِنَ الشَيْءِ وهُوَ هُو، وكان يَنْبَغي لَه أَنْ يُقدِّرَ في هذا الوجَهِ مُضافًا محذوفًا كما قَدَّرَه في حالةِ الرَّفْعِ، لأنَّه إنْ جَعَلَ "شَرًّا" مُرادًا بِه مَعنًى لَزِمَه التَقديرُ في المَوْضِعيْنِ، وإنْ جَعَلَه مُرادًا بِهِ الأَشخاصُ لَزِمَهُ أَلَّا يُقَدِّرَ في المَوضعين. أو هو في مَحَلِّ جَرٍّ كما تَقَدَّمَ بيانُه عَنْ مَكِّيٍّ. أو أنَّه في مَحَلِّ نَصْبٍ على البَدَلِ مِنْ مَحَلِّ "بِشَرٍّ". أو في محلِّ نَصْبٍ على مَنصوبٍ بفعلٍ مقدَّرٍ يَدُلُّ عليْه "أُنَبِّئكم" تَقديرُه: أُعَرِّفكم مَنْ لَعَنَهُ اللهُ، ذَكَرَهُ أبوالبَقاءِ، و يُحْتَمَلُ أنْ تَكونَ "مَنْ" مَوصولَةً وهو الظاهرُ، ونَكِرةً مَوصوفةً. فعلى الأوَّلِ لا مَحَلَّ للجُمْلَةِ التي بعدَها، وعلى الثاني لَها مَحَلٌّ بِحَسْبِ ما يُحْكَمُ على "مَنْ" بأحدِ الأَوْجُهِ السابقةِ، وقدْ حَمَلَ على لَفْظِها أوَّلًا في قولِه "لَعنه" و"عليه" ثمَّ على معناها في قولِه: "مِنْهُمُ القردة"، ثمَّ على لفظِها في قولِه: "وَعَبَدَ الطاغوتَ" ثمَّ على لَفْظِها في قولِه: "أولئك" فجَمَع في الحَمْلِ عليها أَرْبَعَ مَرَّاتٍ.
وقولُه: {جَعَل} هُنا بمَعنى "صَيَّرَ" فيكونُ "منهم" في محلِّ نَصْبٍ مَفعولًا ثانيًا، قُدِّمَ على الأَوَّلِ فيَتعلَّقُ بمَحذوفٍ أيْ صَيَّرَ القِرَدَةَ والخَنازيرَ كائنين منهم، وجعلَها الفارسِيُّ في كتابِ "الحُجَّةِ" لهُ بِمَعنى خَلَقَ. قال ابْنُ عَطيَّةَ: وهذه منه ـ رحمَهُ اللهُ ـ نزعةٌ اعْتِزالِيَّةٌ لأنَّ قولَه: "وَعَبَدَ الطاغوت" تقديرُه: ومَنْ عَبَدَ الطاغوتَ. والمُعْتَزِلَةُ لا تَرى أَنَّ اللهَ ـ تعالى ـ يُصَيِّرُ أَحَدًا عابدَ طاغوتٍ. والذي يُفَرُّ منْه في التَصييرِ هو بِعيْنِه مَوجودٌ في الخلقِ. وجَعَلَ الشيخُ قولَه تعالى "مَنْ لعنَه الله" إلى آخرِهِ مِنْ وَضْعِ الظاهِرِ مَوْضعَ المُضْمَرِ تَنبيهًا على الوَصفِ الذي بِهِ حَصَلَ كونُهم شَرًّا مَثوبَةً، كأنَّه قِيلَ: قُلْ هلْ أُنَبِّئُكم بِشَرٍّ مِنْ ذلكَ عندَ اللهِ مَثوبةً؟ أَنْتُمْ، أيْ: هُمْ أَنْتُمْ، ويَدُلُّ على هذا المَعنى قولُهُ بعد: {وَإِذَا جَاؤوكُمْ قالوا آمَنَّا} فيَكونُ الضَميرُ واحِدًا، وجَعَلَ هذا هو الذي تقتضيهِ فَصاحةُ الكَلامِ.
وقرأ أُبَيّ بنُ كعبٍ وعَبدُ اللهِ بْنُ مسعودٍ: "مَنْ غَضِب الله عليهم وجعلَهم قردةً" وهي واضحةٌ.
قولُه: {وَعَبَدَ الطاغوت} في هذه الآيةِ أربعٌ وعِشرونَ قراءةً اثنتانِ في السَبْعِ، وهُما "وعَبَد الطاغوتَ" على أنَّ "عَبَد" فعلٌ ماضٍ مَبنيٌّ للفاعِلِ، وفيه ضميرٌ يَعودُ على "مَنْ" كما تقدَّمَ، وهي قراءةُ جُمهورِ السَبْعةِ غيرَ حمزةٍ. والثانية: و"عَبُدَ الطاغوتِ" بضمِّ الباءِ وفتحِ الدالِ وخَفْضِ الطاغوتِ، وهي قراءةُ حمزة ـ رحمَهُ اللهُ ـ والأعمشُ ويَحيى بْنِ وثاب. وتوجيهُها كما قال الفارسي أنَّ "عَبُداً" واحدٌ يُرادُ بِه الكَثرةُ مِثلَ قولِه تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا} إبراهيم: 34. وليس بجمعِ "عَبْدٍ" لأنَّه ليس في أبنيةِ الجَمعِ مثلُه. وحكى الأخْفَشُ: "عُبُدٌ" مثلَ سَقْفٍ وسُقُفٍ، وقد جاءَ على فَعُلَ لأنَّه بِناءٌ يُرادُ بِه الكَثْرَةُ والمُبالَغَةُ في نَحو يَقُظَ ونَدُسَ كأنَّه قد ذَهبَ في عِبادةِ الطاغوتِ كُلَّ مَذْهبٍ، وبهذا المعنى أَجابَ الزَمَخْشَرِيُّ أَيْضًا، قال ـ رحِمَهُ الله تعالى: معناهُ الغُلُوُّ في العُبوديَّةِ كقولِهم: رجلٌ حَذُرٌ وفَطُنٌ للبَليغِ في الحَذَرِ والفِطْنَةِ، وأنشَدَ لِطَرَفَةَ:
أَبَنِي لُبَيْنَى إنَّ أُمَّكُمُ ............................... أَمَةٌ، وإنَّ أَباكُمُ عَبُدُوقد سَبَقَهُما إلى هذا التوجيهِ أَبو إِسْحاقَ، وأَبو بَكْرٍ بْنِ الأَنْباريِّ، قالَ أبو بكر: وضُمَّتِ الباءُ للمُبالَغَةِ كقولِهم للفَطِنِ: "فَطُن" ولِلحَذِرِ: "حَذُر"، يَضُمُّون العَيْنَ للمُبالَغَةِ، وقالَ أَبو إسحاق: ووجْهُ قراءِة حمزةَ أنَّ الاسمَ بُنِي على فَعُل كما تقول: "رجلٌ حَذُر" وتأويلُه أنَّه مُبالِغٌ في الحَذَرِ فتأويلُ "عَبُد" أنَّه بَلَغَ الغايةَ في طاعَةِ الشَيْطانِ، وكأنَّ هذا اللفظَ لَفْظٌ واحدٌ يَدُلُّ على الجَمْعِ كما تَقولُ للقومِ "عَبُدُ العَصا" تريدُ عَبيد العصا، فأخذ أبو عليٍّ هذا وبَسَطه بما نقلناه عنه، ثمَّ قال: وجازَ هذا البناءُ في "عَبْد" لأنَّه في الأَصْلِ صِفَةٌ، وإنْ كان قدِ اسْتُعْمِلَ اسْتِعمالَ الأَسْماءِ، لا يُزيلُ ذلك عنْه حُكمَ الوَصْفِ كالأَبْطَحِ والأَبْرَقِ استُعْمِلا استعمالَ الأَسْماءِ حتَّى جُمِعا جَمْعَها في قولهم: أَبارِقُ وأَباطِحُ كأَجادِل جَمعُ الأجْدَلِ ثمَّ لم يُزِلْ ذَلك عنهما حُكمَ الصِفَةِ، يَدُلُّك على ذلك مَنْعُهم لَهُ الصَرْفَ كأَحْمَرَ، وإذا لم يَخْرجِ العبدُ عَنِ الصِفَةِ لم يَمتَنِعْ أَنْ يُبْنى بِناءَ الصِّفاتِ على فَعُلَ نحو: "يَقُظ"، وإنَّما أَشْبَعْتُ العِبارةَ هُنا لأنَّ بعضَ النّاسِ طَعَنَ على هذِه القراءةِ ونَسَبَ قارئها إلى الوَهْمِ كالفَرَّاءِ والزَّجَّاجِ وأَبي عُبَيْدٍ ونَصيرٍ الرازيِّ النَحْوِيِّ صاحِبِ الكسائيِّ. قال الفرّاءُ: إنَّما يَجوزُ ذلك في ضَرورةِ الشِعْرِ (يَعني ضَمَّ باءَ "عَبُد") فأمَّا في القِراءةِ فلا. وقالَ أَيْضًا: إنْ تَكُنْ لُغَةً مِثلَ حَذُرَ وعَجُلَ جازَ ذلك، وهو وجهٌ، وإلاَّ فلا تَجوزُ في القراءة. وقال الزَّجَّاجُ: هذه القراءةُ ليستْ بالوَجْهِ لأنَّ عَبُداً على فَعُل، وهذا ليس من أمثلةِ الجمعِ. وقال أبو عُبيدٍ: إنَّما معنى العَبُدِ عندَهُمُ الأَعْبُدُ، يُريدون خدَمَ الطاغوتِ، ولم نَجِدْ هذا يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ مِن فُصَحاءِ العَرَبِ أَنَّ العَبْدَ يُقالُ فيه عَبُدُ وإنَّما هو عَبْدٌ وأَعْبُدٌ. وقال نَصيرٌ الرازيُّ: هذا وَهْمٌ مِمَّن قَرَأَ بِه فَلْيَتَّقِ اللهَ مَنْ قَرَأَ بِه، ولْيُسألْ عنْه العلماءُ حتَّى يُوقَفَ على أنَّهُ غيرُ جائز. وقد سألوا عن ذلك العلماءَ ووجدوهُ صحيحًا في المَعنى بحمدِ اللهِ تعالى، وإذا تَواتَرَ الشيءُ قرآنًا فلا الْتِفاتَ إلى مُنْكِرِه لأنَّه خَفِيَ عنْه ما وَضَحَ لِغَيْرِه. وأَمَّا القراءاتُ الشاذَّةُ فَقَرأَ أُبَيٌّ: و"عَبَدُوا" بواوِ الجَمْعِ مُراعاةً لمعنى "مَنْ" وهي واضحةٌ. وقرأ الحسنُ البَصْرِيُّ في رِوايةِ عَبَّادٍ و"عَبْدَ الطاغوتَ" بفتحِ العينِ والدالِ وسُكون الباءِ ونَصْبِ التاءِ مِنَ "الطاغوت" وخَرَّجها ابْنُ عَطِيَّةَ على وجهيْنِ أحدُهُما: أنَّه أرادَ: "وعَبْداً الطاغوت" فحذفَ التنوينَ مِنْ "عبداً" لالْتِقاءِ الساكنيْن كقولِ أبي الأسود الدؤلي:
فأَلْفَيْتُه غيرَ مُسْتَعْتِبٍ. . . . ................. ... ولا ذاكرَ اللهَ إلَّا قليلا
والثاني: أنَّه أَرادَ "وعَبَدَ" بفتح الباء على أنَّه فعلٌ ماضٍ كقراءةَ الجَماعةِ إلَّا أنَّه سَكَّن العينَ على نحوِ ما سَكَّنَها في قولِ الأخطل:
وما كلُّ مغبونٍ ولو سَلْفَ صَفْقُهُ . . . . . . . . . برَاجعِ ما قَدْ فَاتَهُ برِدَاد
بسكونِ اللامِ، ومِثلُه قراءةُ أَبي السَمَّالِ: {ولُعْنوا بما قالوا} بسكون العيْن، قلتُ: ليس ذلكَ مثلَ "لُعْنوا" لأنَّ تخفيف الكَسْرِ مَقيسٌ بخِلافِ الفتحِ ومثلُ "سَلْفَ" قولُ وضّاحِ اليماني:
إنما شِعْريَ مِلْحٌ ................................... قد خُلْطَ بجُلْجُلانْ
يُقالُ لِما في جوفِ التينِ مِنَ الحَبِّ: الجُلْجُلانِ، وقبله قولُه:
ضَحِكَ النَّاسُ وقالوا ............................... شِعْرُ وضَّاحِ اليَمَانِي
وقَرَأَ الحَسَنُ أيْضًا في روايةٍ أُخرى كهذه القراءةِ، إلَّا أنَّه جَرَّ "الطاغوت" وهي واضحةٌ فإنَّه مُفرَدٌ يُرادُ بِه الجِنْسُ أُضيفَ إلى ما بعدَه.
وقرَأَ الأعمشُ والنُخَعِيُّ وأبو جعفر: "وعُبِد" مَبْنِيًّا للمفعول، "الطاغوتُ" رفعًا. وقرَأَ عبدُ اللهِ كذلك إلَّا أَنَّه زادَ في الفِعْلِ تاءَ التأنيثِ.
وقرأ: "وعُبِدَتِ الطاغوتُ" والطاغوتُ يُذَكَّرُ ويُؤنَّثُ، قال تعالى: {والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا} الزمر: 17، وقد تَقدَّمَ في البَقَرَةِ قال ابْنُ عَطِيَّةَ: وضَعَّفَ الطَبَرِيُّ هذه القِراءةَ، يَعني قراءةَ البِنَاءِ للمَعفولِ، ولم يُبيِّنْ وجْهَ الضَعفِ ولا توجيهَ القراءة، ووجهُ الضعفِ أنَّه تَخْلُو الجُمْلَةُ المَعطوفةُ على الصِلَةِ مِنْ رابطٍ يَرْبُطُها بالمَوصولِ، إذْ ليس في "عُبِد الطاغوتُ" ضميرٌ يعودُ على "مَن لَّعَنَهُ الله" لو قلتَ: أَكرمتُ الذينَ أهنتُم وضُرِب زيدٌ، على أنْ يَكونَ "وضُرِب" عطفًا على "أكرمتُ" لم يَجُزْ، فكذلك هذا. وأمَّا توجيهُها فهو إنَّ العائدَ محذوفٌ تقديرُه: وعُبِدَ الطاغوتُ فيهم أوْ بَيْنَهم.
وقرأ ابْنُ مَسعودٍ في روايةِ عبدِ الغَفَّارِ عنْ عَلْقَمَةَ عنْه: {وعَبُدَ الطاغوتُ} بفتحِ العينِ وضَمِّ الباءِ وفَتْحِ الدَّالِ ورَفْعِ الطَاغوتِ، وفيها تَخريجان، أَحَدُهُما: أنْ يَصيرَ لَهُ أَنْ عُبِدَ كالخُلُقِ والأمْرِ المُعتادِ المَعروفِ، فهو في مَعْنى فَقُهَ وشَرُفَ وظَرُفَ، أي: صارَ لَه الفِقُهُ والظَرْفُ خُلُقًا مُعتادًا معروفًا، وإلَّا فمَعناهُ مُغايِرٌ لِمَعاني هذِهِ الأَفْعالِ، والثاني: أَنْ صارَ معبودًا مِنْ دونِ اللهِ ك "أَمُرَ" أي: صار أَميرًا، وهو قريبٌ مِنَ الأَوَّلِ وإنْ كان بينَهُما فرقٌ لَطيفٌ.
وقرَأَ ابْنُ عبَّاسٍ في روايةِ عِكْرِمَةَ عنْه ومجاهدٍ ويَحيى بْنِ وَثّابٍ: و{وعُبُدَ الطاغوتِ} بضمِ العينِ والباءِ وفَتْحِ الدَّالِ وجَرِّ "الطاغوتِ" وفيها أقوالٌ، أَحَدُها: أنَّ عُبُدًا جمعُ عَبيدٍ، وعَبيدٌ جمعُ عَبْدٍ فهو جَمْعُ الجمْعِ، حكاهُ الأخفشُ وتابعه الزمخشري على ذلك، يَعني أنَّ عَبيدًا جمعًا بمَنْزِلَةِ رَغيفٍ مُفرَدًا فيُجْمعُ جمعَه كما يُقال: رَغيفٌ ورُغُفٌ. الثاني أنَّه جمعُ عابدٍ كَشارِفٍ وشُرُفٍ والثالثُ: أنَّه جَمْعُ عَبْدٍ كسَقْفٍ وسُقُفٍ ورَهْنٍ ورُهُن. والرابع: أنَّه جمع عِبادٍ، وعِبادٌ جمعُ "عَبْدٍ" فيَكونُ أيْضًا جمعَ الجَمْعِ مثل ك "ثِمارٍ" جمعُ "ثَمَرة" ثمَّ يُجْمَعُ على "ثُمُر" وهذا لأنَّ عِبادًا وثِمارًا جمعيْن بمَنْزِلَةِ كتابٍ مُفردًا، وكتابٌ يُجمَعُ على كُتُبٍ فكذلك ما وازَنَه.
وقرأ الأعمش: "وعُبَّدَ" بضمِّ العينِ وتشديدِ الباءِ مفتوحةً وفتحِ الدال، "الطاغوتِ" بالجرِّ، وهي جمعُ عابِدٍ كَضُرَّبٍ في جمعِ ضارِب وخُلَّصٍ في جمعِ خالِصٍ.
وقرَأَ ابْنُ مَسعودٍ أيْضًا في روايةِ عَلْقَمَة: {وعُبَدَ الطاغوت} بضمِّ العين وفتح الباءِ والدالِ. و"الطاغوتِ" جَرَّا، وتوجيهُها أنَّه بناءُ مبالغةٍ كحُطَم ولُبَد وهو اسمُ جِنْسٍ مُفرَدٍ يُرادُ بِهِ الجَمْعُ، والقولُ فيهِ كالقولِ في قراءةِ حمزةَ وقدْ تقدَّمَتْ.
وقرأَ ابنُ مسعودٍ في روايةِ عَلْقَمَةَ أيضًا: و{وعُبَّدَ الطاغوتَ} بضمِّ
العين وبشدِّ الباءِ مفتوحةً وفتحِ الدَّالِ ونَصْبِ "الطاغوت" على أنَّها جمعُ عابدٍ كضُرِّب في جمع ضارب، وحَذَف التنوينَ مِنْ "عبدًا" لالْتقاءِ الساكنين.
وقرأَ بُريدةُ الأَسْلَمِيُّ فيما نَقَلَهُ عنْه ابْنُ جَريرٍ: "وعابِد الشيطانِ" بِنَصْبِ "عابد" وجَرِّ "الشيطان" بدلَ الطاغوتِ وهو تفسيرٌ لا قِراءةٌ. وقَرَأَ أَبو واقدٍ الأَعْرابي: {وعُبَّاد} بضمِّ العينِ وتشديدِ الباءِ بعدَها أَلِفٌ ونَصَبِ الدالَ، والطاغوتِ بالجرِّ، وهي جمعُ عابِدٍ كَضُرَّابٍ في ضاربٍ.
وقَرَأَ بعضُ البَصْريِّين: "وعِبادَ الطاغوتِ" بكسرِ العينِ، وبعدَ الباءِ المخفَّفةِ أَلِفٌ، ونَصْبِ الدَّالِ وجَرِّ "الطاغوت" وفيها قولان: أحدُهُما: أنَّه جمعُ عابِدٍ كقائِمٍ وقِيامٍ، وصائِم وصِيام. والثاني: أنَّها جمعُ عَبْد.
وقَرَأَ عونٌ العَقِيلِيُّ في روايةِ العَبَّاسِ بْنِ الفَضْلِ عنْه: "وعابِدُ الطاغوتِ" بضمِّ الدالِ وجَرِّ الطاغوتِ كضاربِ زيدٍ. قال أبو عمرو: تقديرُه: "وهم عابدُ الطاغوت" قال ابنُ عطيَّة: "فهو اسمُ جنسٍ" قلت: يعني إنَّه أرادَ بـ "عابِد" جماعةً، قتل: وهذه القراءةُ يَجوزُ أنْ يَكونَ أصلُها: "وعابدو الطاغوت" جَمْعَ عابدٍ جمعَ سلامةٍ، فلمَّا لَقِيتِ الواوُ لامَ التعريفِ حُذِفَتْ لالْتِقاءِ الساكنيْن، فصارَ اللَّفظُ بِدالٍ مَضمومَةٍ، ويُؤيِّدُ فَهْمَ هذا أنَّ أبا عمْرٍو قَدَّرَ المُبْتَدَأَ جَمْعًا فقال: "تقديرُه: هم عابدو" اللَّهُمَّ إلّا أَنْ يَنْقُلُوا عن العَقيلي أَنَّه نَصَّ على قراءتِه أَنَّها بالإِفرادِ، أو سَمِعوهُ يَقِفُ على "عابد" أو رَأَوْا مُصْحَفَهُ بِدالٍ دُونَ واوٍ، وحينئذٍ تَكونُ قراءتُه كَقراءَةِ ابْنِ عبَّاسٍ: "وعابدو" بالواوِ، وعلى الجملة فقراءتُهما متَّحدةٌ لَفظًا، وإنَّما يَظْهَرُ الفرقُ بينَهُما على ما قالُوه في الوقْفِ أوِ الخَطِّ.
وقَرَأَ ابْنُ عبَّاسٍ في رِوايةٍ أُخرى لِعِكْرِمَةَ: "وعابِدُوا" بالجمعِ، وقد تقدَّم ذلك. وقرَأَ ابْنُ بُرَيْدةَ: "وعابدَ" بنصبِ الدالِ كضارب زيدٍ، وهو أيضًا مُفرَدٌ يُرادُ بِه الجِنْسُ.
وقرأ ابْنُ عَبَّاسٍ وابْنُ أَبي عَبْلَةَ: "وعَبَد الطاغوتِ" بفتحِ العينِ والباءِ والدالِ وجَرِّ الطاغوت، وتخريجُها أنَّ الأصلَ: "وعَبَدَةَ الطاغوتِ" وفاعِلٌ يُجْمَعُ على فَعَلَةٍ كفاجِر وفَجَرة، وكافِر وكَفَرة، فحُذِفَتْ تاءُ التأنيثِ للإِضافة كقولِ الراجز:
قام وُلاها فسقَوْه صَرْخَدا
أي: وُلاتُها، وكقولِ زهيرٍ:
إنَّ الخليطَ أَجَدُّوا البَّيْنَ فانجردوا ....... وأَخْلَفُوك عِدَ الأمرِ الذي وَعَدُوا
أي: عدةَ الأمر، ومنه: {وَإِقَامَ الصلاوة} الأنبياء: 73. أي: إقامةِ الصلاة، ويَجوزُ أَنْ يكونَ "عَبَدَ" اسمَ جنسٍ لِعابِد كخادِم وخَدَم وحينئذٍ فلا حَذْفَ تاءِ تأنيثٍ لإِضافة. وقُرِئ: "وعَبَدَة الطاغوت" بثبوتِ التاء وهي دالَّةٌ على حَذْفِ التاء للإِضافة في القراءةِ قبلَها، وقد تقدَّم توجيهُها أنَّ فاعِلاً يُجْمَعُ على "فَعَلَة" كبارٍّ وبَرَرَةٍ وفاجِرٍ وفَجَرَةٍ.
وقرَأَ عُبيدٌ بْنُ عُميْرٍ: "وأعْبُدُ الطاغوت" جَمْعُ عبدٍ كفَلْسٍ وأَفْلُسٍ وكَلْبٍ وأَكْلُبٍ. وقرأ ابْنُ عبَّاسٍ: "وعَبَيد الطاغوت" جمع عبدٍ أيضًا وهو
نحو: "كلب وكَليب" قال طَرَفَةُ:
تَعَفَّق بالأَرْطَى لها وأرادَها ................... رجالٌ فَبَذَّتْ نبلَهُمْ وكَلِيبُ
وقُرئ أيضًا: "وعابدي الطاغوت" وقرأَ عبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ: "ومَنْ عَبَدوا" فهذِه أَرْبَعٌ وعِشرون قِراءةً، وكان يَنبغي أَلاَّ يُعَدَّ فيها: "وعابد الشيطان" لأنَّها تفسيرٌ لا قراءة.
وقد قال بعضُ الرواةِ في هذه الآيةِ: إنَها تجويزٌ لا قراءةٌ "يَعني لَمَّا كَثُرتِ الرِواياتُ في هذِهِ الآيةِ ظَنَّ بعضُهم أَنَّه قِيلَ على سَبيلِ الجَوازِ لا أنَّها منقولةٌ عن أحدٍ، وهذا لا يَنبغي أَنْ يُقال ولا يُعْتقدَ فإنَّ أهلَها إنَّما رَوَوْها قراءةً تَلَوْها على مَنْ أَخذوا عنْه، وهذا بخلاف و"عابد الشيطان" فإنَّه مُخالِفٌ للسَوادِ الكريم.
وطريقُ ضبطِ القراءةِ في هذا الحرفِ بعدَما عُرِفَ القُرَّاءُ أنْ يُقالَ: سَبْعُ قراءات مَعَ كونِ "عَبَد" فعلًا ماضيًا وهي: وعَبَد وعَبَدُوا ومَنْ عَبَدوا وعُبِد وعُبِدَت وعَبُدَ وعَبْدَ في قولِنا: إنَّ الباءَ سَكَنَتْ تخفيفًا كسَلْفَ في سَلَف، وتِسعُ قراءاتٍ مَعَ كونِه جمعَ تكسيرٍ وهي: وعُبُدَ وعُبَّد مع جَرِّ الطاغوتِ وعُبَّد مَعَ نصبِه وعُبَّاد وعِباد وعَبَدَ على حَذْفِ التاءِ للإِضافةِ وعَبَدَة وأَعْبُد وعبيد، وسِتٌّ مَعَ المُفرَدِ: وعَبُدَ وعُبَدَ وعابدَ الطاغوت وعابدُ الطاغوت بضمِّ الدال، وعابد الشيطان وعَبْدَ الطاغوت، وثنِتان مع كونِهِ جمعَ سَلامةٍ: وعابِدوا بالواو وعابدي بالياء. فعلى قراءةِ الفعلِ يَجوزُ في الجُملةِ وجْهان، أَحَدُهُما: أنْ تَكونَ مَعْطوفةً على الصِلَةِ قبلَها والتَقديرُ: مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وعَبَدَ الطاغوتَ. والثاني: أنَّه ليس داخِلًا في حَيِّز الصِلَةِ، وإنَّما هو على تقديرِ مَنْ، أيْ: ومَنْ عَبَد، ويَدُلُّ لَهُ قراءةُ عبدِ اللهِ بإظهارِ "مَنْ" إلاَّ أنَّ هذا ـ كما قال الواحِدي ـ يؤدِّي إلى حَذْفِ الموصولِ وإبقاءِ صِلَتِه، وهو ممنوعٌ عندَ البَصْريين، جائزٌ عندَ الكوفيين. وعلى قراءةِ جمعِ التَكسيرِ فيكونُ منصوبًا عَطْفًا على القِرَدَةِ والخَنازيرِ، أيْ: جَعَلَ مِنهمُ القِرَدَةَ وعِباد وعُبَّاد وعبيد، وعلى قراءةِ الإِفْرادِ كذلك أيضًا، ويَجوزُ النَّصْبُ فيها أَيْضًا مِنْ وجْهٍ آخرَ وهو العطفُ على "مَنْ" في "مَنْ لَّعَنَهُ الله" إذا قلنا بأنَّه مَنْصوبٌ على ما تقدَّمَ تحريرُه قبلُ، وهو مُرادٌ بِهِ الجِنْسُ، وفي بعضِها قُرئ برفعِه، نحو: وعابدُ الطاغوت، وتقدَّمَ أنَّ أبا عَمْرٍو يُقَدِّرُ لَه مُبتَدَأً، أي: هُمْ عابدُ، وتقدَّمَ ما في ذلك، وعندي أنَّه يَجوزُ أنْ يَرتفِعَ على أنَّه مَعطوفٌ على "مَنْ" في قولِه تعالى "مَن لَّعَنَهُ الله" ويَدُلُّ لذلك أنَّهم أَجازوا في قراءِةِ عبدِ الله: "وعابدُو" بالواوِ هذين الوجهين فهذا مثله.
وأمّا قراءةُ جمعِ السلامةِ فَمَنْ قَرَأَ بالياءِ فهو مَنْصوبٌ عَطْفًا على القِرَدَةِ، ويَجوزُ فيه وجهان آخران، أحدُهُما: أنَّه مَنْصوبٌ عَطْفًا على "مَنْ" في "مَن لَّعَنَهُ الله" إذا قلنا إنَّ محلَّها نصبٌ كما مَرَّ. والثاني: أنَّه مجرورٌ عطفًا على "مَن لَّعَنَهُ الله[font:0