أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
(74)
قولُه ـ سبحانه وتعالى:{أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} بعد أنْ حذَّرَ ـ سبحانه ـ النصارى مِنَ اسْتِمْرارِهم بالافتراءِ عليه وعلى رسولِه عيسى ـ عليه السلامُ ـ وقَوْلِهِمُ الإفْكَ، وادِّعائِهِمْ على نبيهِ المسيحِ ـ عليه السلامُ ـ ما لا يَليقُ رغَّبهم في الإيمان، بعدَ الترهيبِ مِنْ العذابِ الأَليم، فإنَّ كتابَ اللهِ يجمعُ بيْن الترغيبِ والترهيبِ، ليُؤْمِنوا خوفًا مِنْ عذابِ اللهِ ـ تعالى ـ أو طَمَعًا في ثوابِهِ، أوْ هُما معًا، فسيقَ الكلامُ لِهذا، ولِيُبَيِّنَ أنَّ بابَ المَغفرةِ مَفتوحٌ لِمَنْ اسْتَغْفَرَ اللهَ، وطلبَ عفوَه. ويدلُّ قولُه: "أَفَلا يَتُوبُونَ" على أمورٍ ثلاثةٍ: أَوَّلُها: توبيخُهم على ما كان منهم وأنَّه يَستحِقُّ التوبةَ والاسْتِغفارَ، وثانيها: فيه تَعَجُّبٌ مِنْ بقائهم على حالِهم مِنَ الإفْكِ والإصْرارِ عليْه مِنْ أنَّه لَا يَقبَلُه عقلٌ، ولا يُذْعِنُ لَه مُصَدِّقٌ، بَلْ لَا يَتَصَوَّرُهُ مُتَصَوِّرْ. وثالثُها: تحريضُهم على التوبةِ، والرجوعِ إلى الله، وما تُقَرُّ به العُقولُ السليمةُ، ولا تَنْبُو عنْه الأفْهامُ القَويمَةُ، كما تحضُّهم على طَلَبِ الغُفرانِ والعفوِ عمَّا سَلَفَ مِنْهم مِنْ قَوْلٍ، وإنَّ بابَ الغُفرانِ مَفتوحٌ، ولِذلكَ ذَيَّلَ اللهُ ـ سبحانَه وتَعالى ـ الآيةَ بقولِه: "وَاللهُ غَفُورٌ رحِيم". واللهُ جَلَّ جَلالُه المَعبودُ، ولا معبودَ بحقٍّ سِواهُ يَغفِرُ الذُنوبَ لِمَنْ تابَ ورَجَعَ إليْه وهو رحيمٌ بعبادِهِ لا يُرضيهِ أنْ يَشْقَوا، وأنَّ رَحْمَتَه سَبَقَتْ عَذابَهُ وأَنَّه لَيَفْرَحُ بتوبةِ عبدِهِ أَكثر مِنْ فرحِ العبدِ بقبولِها، لأنَّ اللهَ ـ تعالى ـ يُريدُ بِعبدِهِ الصلاحَ والإصْلاحَ، ولا يُريدُ لَهُ الفَسادَ والإفْسادَ، وإذا تابَ العبدُ انْقَلَبَ مِنَ الفَسادِ إلى الصَلاحِ.
قولُه تعالى: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ} تقدَّمَ نظيرُهُ مِرارًا وأَنَّ فيه رَأيَيْنِ: رأيُ يقولُ بتقديمُ حرفِ العطفِ على الهمزةِ تقديرًا، وهو رَأيُ الجمهور، ورأَيٌ يقولُ ببقائه على حالِه وحَذْفِ جُملةٍ معطوفٍ عليها، والتقديرُ: أَيَثْبُتون على كفرِهم فلا يَتُوبون، والاستفهامُ إمّا للتعجيبِ مِنْ حالِهم: كيف لا يتوبون ويَسْتَغفرون مِنْ هذه المَقالةِ الشنيعة، وهو الأظهر. وإمّا: أنَّه بِمَعنى الأمْرِ وهو رأيُ ابْنِ زيادٍ الفرَّاءِ، كأنَّه قال: تُوبوا واستغفروا من هاتين المقالتين، كقولِهِ : {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} المائدةُ: 91. وقال ابْنُ عَطيَّةَ ما يُفْهِم أنَّه للتَحضيضِ، قال: رَفَقَ ـ جَلَّ وعَلا ـ بهم بِتَحضيضِهِ إيَّاهم على التوبةِ وطلَبِ المَغفرةِ. يَعني بذلك مِنْ حيثُ المَعنى، وإلاَّ فَفَهْمُ التحضيضِ مِنْ هذا اللفظِ غيرُ مُسَلَّمٍ، وكيف يُعْقَلُ أنَّ حَرْفَ العَطْفِ فَصَلَ بيْنَ الهَمزةِ و"لا" المُفْهِمَةِ للتَحضيضِ؟ فإنْ قلتَ: هذا إنَّما يُشْكِلُ على قولِنا: إنَّ "ألا" التَحضيضيَّةَ بَسيطةٌ غيرُ مُرَكَّبةٍ، فلا يُدَّعى فيها الفَصْلُ بِحَرْفِ العَطْفِ، أمَّا إذا قُلْنا إنَّها همزةُ الاسْتِفهامِ دَخَلَتْ على "لا" النافيةِ وصارَ معناهُما التَحضيضَ فلا يَضُرُّ الفصلُ بحرفِ العَطْفِ، لأنَّه عُهِدَ في "لا" النافيةِ الداخلِ عليها همزةُ الاسْتِفْهامِ، فالجواب: أنَّه لا يَجوزُ مُطلَقاً؛ لأنَّ ذلك المعنى قد انْسَلَخَ وحَدَثَ معنًى آخَرُ وهو التحضيضُ، فلا يَلزُمُ مِنَ الجَوازِ في الأصلِ الجَوازُ بعدَ حُدوثِ مَعنًى جديدٍ.