وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ.
(71)
قَوْلُهُ ـ تبارك وتَعَالَى: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} الْمَعْنَى، أنَّ هَؤُلَاءِ اليهودَ الَّذِينَ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ ظَنُّوا أَنَّهُ لَا يَقَعُ عليهم ابْتِلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ بِالشَّدَائِدِ مِنَ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ اغْتِرَارًا وقد عَبَّروا عن اغترارهم هذا بِقَوْلِهِمْ: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} وَإِنَّمَا اغْتَرُّوا بِطُولِ الْإِمْهَالِ. وبما أَنْعَمَ اللهُ عليهم به إذْ أَخرجَهم مِنْ قسوةِ فِرعونَ، ونَجَّاهم بِفَلْقِ البَحْرِ، حتَّى مَرُّوا، وأغلَقَه على فِرعونَ وقومِه، حتَّى غَرِقوا، وهُم يَنْظرون إليهم، وأَنزل عليهم بعد ذلك المَنَّ والسلوى وغيرَ ذلك مما أَجزَل عليهم من خير، ولذلك حسبوا ألَّا تنزل بهم فتنةٌ، لانغماسهم بالشهوات، فإنَها تُعمي وتُصِمُّ.
والفتنةُ في لُغَةِ القُرآنِ الكريم تُطلَقُ على الشدائدِ التي تَنزِل لِيُخْتَبَرَ قلبُ المؤمنِ، فإنْ صَبرَ ظَهرَ إيمانُه قويًّا شديدًا، وإنْ خارَ وَوَهَنَ كان منَ ضعفاءِ الإيمانِ. قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنونَ}. والفتنةُ في الأصلِ إدخالُ الذَهَبِ النارَ لِتَظْهَرَ جَوْدَتُه.
قولُه: {فَعَمُواْ وَصَمُّواْ} عن استماعِ الحَقِّ، وهذا إشارة إلى المَرَّةِ الأولى مِنْ فسادِ بَني إسرائيلَ ومخالفتهم أحكامَ التوراةِ وارتكابهم المُوبقات، وقتلهم شَعْيا، وقيلَ: حَبَسُوا أَرَميا ـ عليهما السلام.
قولُه: {ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ} حين تابوا ورَجَعوا عمَّا كانوا عليْه مِنَ الفَسادِ بعدَما كانوا أَسرى ببابلَ دَهْرًا طويلًا تحتَ قَهْرِ بُخْتَنَصَّرَ في غايةِ الذُلِّ والمَهانَةِ، فوجَّهَ اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ مَلِكًا عظيمًا مِنْ مُلوكِ فارسَ إلى بيتِ المَقْدِسِ فعَمَرَهُ ورَدَّ مَنْ بَقِيَ مِنْ بَني إسرائيلَ في أَسْرِ بُخْتَنَصَّرَ إلى وطنِهم ورَجَعَ مَنْ تَفَرَّق في الأكنافِ فاستقرُّوا وكَثُروا وكانوا كأَحْسَنِ ما كانوا عليْه، وقيلَ: لمَّا وَرِثَ "بِهْمَن" بْنُ "أَسْفَنديار" المُلكَ مِنْ جَدِّهِ "كُستاسِف" أَلْقى الله تعالى في قلبِهِ شَفَقَةً عليهم فرَدَّهم إلى الشامِ، ومَلَّكَ عليهم دانيالَ ـ عليه السلام ـ فاسْتَولَوْا على مَنْ كان فيها مِنْ أَتْباعِ "بُخْتَنَصَّرَ فقامت فيهم الأنبياءُ عليهم الصلاةُ والسلامُ فرَجَعوا إلى أحسنِ ما كانوا عليْهِ مِنَ الحالِ، وذلك قولُه تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ} الإسراء: 6. ولم يُسْنِدْ ـ سبحانَه وتعالى ـ التوبةَ إليهم كسائرِ أَحوالِهم مِنَ الحُسبان والعَمَى والصَمَمِ تَجافيًا عن التصريح بنسبة الخيرِ إليهم، وإنَّما أُشيرَ إليْها في ضِمْنِ بيانِ توبةِ اللهِ تعالى عليهم تَمْهيدًا لِبيانِ نَقْضِهِم إيّاها بقولِه سبحانَه: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ} وهو إشارة إلى المَرَّة الآخِرَةِ من فسادِهم وهو اجتراؤهم على قَتْل زَكَرِيَّا ويَحْيى ومحاولتهم قتلَ عيسى ـ عليهمُ السلام ـ أو أنَّ العمى والصممَ الأولَّ إشارةٌ إلى ما صدر منهم من عبادة العِجْلِ، والثاني إشارةٌ إلى ما وقع منهم من طلبِهم الرؤيةَ، وفيه أنَّ عِبادةَ العِجلِ وإنْ كانت مَعْصِيَةً عَظيمةً ناشئةً عن كَمَالِ العَمى والصَمَمِ لكنَّها في عصرِ موسى ـ عليه السلامُ ـ ولا تَعَلُّقَ لها بما فعلوا بالرُسُلِ الذين جاؤوهم بعدَه ـ عليه السلام.
وقيل: إنَّ العَمى والصَمَمَ الأوَّلَ إشارةٌ إلى ما كان في زمنِ زكريّا ويحيى ـ عليهِما السلام، والثاني إشارةٌ إلى ما كان في زمنِ نَبِيِّنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الكفرِ والعِصْيانِ.
وبَدَأَ بالعَمَى لأنَّه أَوَّلُ ما يَعرِضُ للمُعرضِ عنِ الشَرائعِ فلا يُبْصِرَ مَنْ أتى بها مِنْ عندِ الله تعالى ولا يلتفتُ إلى مُعجزاتِه، ثمَّ لو أبْصَرَهُ لم يَسْمَعْ كلامَه فيكون الصمَمُ بعد العمى.
قوله تعالى: {أَلاَّ تَكُونَ} قرأ البصري والأَخَوان برفع النون، والباقون بنصبها. فَمَنْ رفع فـ "أَنْ" عنده مخففةٌ من الثقيلة، واسمُها ضميرُ الأمرِ والشأنِ محذوفٌ تقديرُه: أنه، و"لا" نافية، و"تكون" تامَّةً، و"فتنةٌ" فاعلها، والجملةُ خبر "أن" وهي مفسِّرةٌ لضميرِ الأمرِ والشأن، وعلى هذا فـ "حَسِب" هنا لليقين لا للشكِّ، ومن مجيئِها لليقين قولُ الشاعر لبيد:
حَسِبْتُ التقى والجودَ خيرَ تجارةٍ ......... رَباحًا إذا ما المرءُ أصبحَ ثاقِلًا
أي : تيقَّنْتُ لأنه لا يلِيقُ الشكُّ بذك ، وإنما اضطرِرْنا إلى جَعْلِها في الآية الكريمة بمعنى اليقين لأنَّ "أَنْ" المخففةَ لا تقع إلا بعد يقين ، فأمَّا قول كعبٍ بْنِ زُهَيْرٍ:
أرجو وآمُل أَنْ تدنُو مودتُها .................. وما إخالُ لدينا منكِ تنويلُ
فظاهرُه أنها مخففةٌ لعدم إعمالِها وقد وقعت بعد "أرجو" و"آمل" وليسا بيقينٍ. والجوابُ من وجهين، أحدُهما: أنَّ "أَنْ" ناصبةٌ، وإنَّما أُهْمِلَتْ حمْلًا على "ما" المصدرية، ويَدُلُّ على ذلك أنَّها على ذلك أنَّها لو كانَتْ مخففةً لفُصِل بينها وبين الجملةِ الفعليةِ بما سنذكره، ويكون هذا مثلَ قولِ الله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} البقرة: 233، وكقوله:
يا صاحبيَّ فَدَتْ نفسي نفوسَكما .............. وحيثما كنتما لُقِّيتُما رَشَدا
أَنْ تَحْمِلا حاجةً لي خَفَّ مَحْمَلُها ......... تستوجبا نعمةً عندي بها ويَدا
أَنْ تقرآنِ على أسماءَ ـ ويحَكُما ـ ........... مِنِّي السلامَ وأَلاَّ تُشْعِرا أَحَدا
فقوله: "أَنْ تقرآن" بدلٌ من "حاجة" وقد أَهْمل "أنْ" ومثلُه قولُه:
إني زعيمٌ يا نُوَيْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــقَةُ إن نجوْتِ مِنَ الرَّزاحِ
ونجوتِ مِن وَصَبِ العدوِ ........................ ومن الغدو إلى الرَّواحِ
أَنْ تهبطين بلادَ قَوْ .............................. مٍ يَرْتَعُون من الطِّلاحِ
وكيفما قُدِّر فيما ذكرتُه مِنَ الأبياتِ يَلزَمُ أَحَدَ شُذوذيْنِ قد قيلَ باحتِمالِ كلٍّ منهُما: إمَّا إهمالُ "أَنْ" وإمَّا وُقوعُ المُخَفَّفةِ بعدَ غيرِ عَلَمٍ، وعدمُ الفَصلِ بينَها وبيْن الجُملَةِ الفِعْلِيَّة.
والثاني من وجهي الجواب: أنَّ رجاءَه وأَملَه قَوِيا حتَّى قَرُبا مِنْ اليَقين فأجراهُما مُجْراه في ذلك. وأمَّا قولُ الشاعر:
عَلِموا أَنْ يُؤَمَّلون فجادُوا ................... قبلَ أَنْ يُسْألوا بأعظمِ سُؤْلِ
فالظاهرُ أنَّها المُخفَّفةُ، وشَذَّ عدمُ الفصلِ، ويُحتَمَلُ أنْ تَكونَ الناصبةَ شَذَّ وقوعُها بعدَ العَلَمِ وشَذَّ إهمالُها، ففي الأوَّلِ شذوذٌ واحدٌ وهو عدمُ الفصلِ، وفي الثاني شذوذان هما: وقوعُ الناصبةِ بعدَ العَلَمِ، وإهمالُها حملًا على "ما" أختِها. وجاءَ هنا على الواجِبِ ـ عند بعضِهم ـ أوِ الأَحسَنِ ـ عند آخرين ـ وهو الفصلُ بين "أَنْ" الخفيفةِ وبين خَبَرِها إذا كان جُملةً فِعْلِيَّةً مُتَصَرِّفَةً غيرَ دعاءٍ، والفاصلُ: إمَّا نفيٌ كهذه الآية، وإمَّا حرفُ تَنفيسٍ كَقَوْلِه تعالى: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى} المزمل: 20، ومثلُه: "عَلِمْتُ أنْ سَوفَ تقومُ" وإمَّا "قد" كقولِه تعالى: {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} المائدة: 113. وإمَّا "لو" ـ وهي غريبةٌ ـ كقولِه: {وَأَلَّوِ استقاموا على الطريقةِ} الجنّ: 16. و{أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيبَ}. سبأ: 14. وتَحرَّزْتُ بالفعليَّةِ مِنَ الاسْمِيَّةِ فإنَّها لا تَحتاجُ إلى فاصِلٍ، كقولِه تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمدُ للهِ رَبِّ العالمين} يونُس: 10.
أمَّا إعرابُ هذا البيت فهو: "عَلِموا" فعلٌ وفاعلٌ. "أن" مخفَّفةٌ مِنَ الثقيلةِ واسْمُها ضميرُ الشأنِ مَحذوفٌ. "يؤمِّلون" فعلٌ مُضارِعٌ مَبْنِيٌّ للمَجهولِ مَرْفوعٌ بثُبوتِ النُونِ والواوِ نائبُ فاعِلٍ. والجُمْلَةُ خبرُ "أن"، "فجادوا" الفاءُ عاطفةٌ وجادوا: فعلٌ وفاعلٌ . والجُملةُ مَعطوفَةٌ على جُملةِ "علِموا" الابْتِدائيَّةِ فلا مَحَلَّ لَها. "قبل" ظرفُ زمانٍ مَنصوبٌ مُتَعَلِّقٌ بـ "جادوا". "أن" مَصدريَّةٌ "يسألوا" فعلٌ ونائبُ فاعِلٍ. و"أن" وما دَخَلَتْ عليه في تأويلِ مَصْدَرٍ مَجرورٍ بإضافةِ "قبل" إليه. "بأعظمِ سُؤْلٍ" جارٌّ ومَجرورٌ ومُضافٌ إليْه.
وكقولِه:
في فتيةٍ كسيوفِ الهندِ قد عَلِموا ........ أَنْ هالِكٌ كلُّ مَنْ يَخْفَى ويَنْتَعِلُ
وبالمتصرِّفَةِ مِنْ غيرِ المُتَصَرِّفَةِ فإنَّه لا تَحْتاجُ إلى فاصلٍ، كقولِه تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} النجم: 39. و{وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قد اقتربَ أجلُهم} الأعراف: 185، وبغيرِ دعاءٍ مِنَ الواقِعَةِ دُعاءً كقولِهِ تَعالى: {أَنَّ غَضَبَ اللهُ} النور: 9. في قراءةِ نافعٍ.
ومَنْ نَصَبَ "تَكونَ" فـ "أَنْ" هي الناصبة عندَه للمُضارعِ، دَخَلتْ على فعلٍ مَنْفِيٍّ بـ "لا"، و"لا" لا يَمْنَعُ أنْ يَعملَ ما بعدَها فيما قبلَها مِنْ ناصِبٍ ولا جازِمٍ ولا جارٍّ، فالناصِبُ كَهذِه الآيةِ، والجازِمُ كقولِه تعالى: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ} الأنفال: 73. و{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ} التوبة: 40، والجارُّ نحو: جِئْتُ بِلا زادٍ.
و"حَسِبَ" هنا على بابها مِنَ الظَنِّ، فالنَّاصِبَةُ لا تَقَعُ بعدَ عَلِمَ ، كما أنَّ المُخَفَّفةَ لا تقعُ بعدَ غيرِهِ، وقد شَذَّ وُقوعُ النَّاصِبَةِ بعدَ يَقينٍ وهو نَصٌّ فيه كقولِه:
نَرْضَى عن الناسِ إنَّ الناسَ قد عَلِموا ........ أَنْ لا يُدانِيَنا مِنْ خَلْقِهِ بَشَرُ
وليس لقائلٍ أنْ يَقولَ: العِلْمُ هنا بمَعْنى الظَنِّ، إذْ لا ضَرورةَ تَدْعو إليهِ، والأَكثَرُ بعدَ أَفعالِ الشَكِّ النَّصْبُ بـ "أَنْ" ولذلك أُجْمِعَ على النصبِ في قولِه تعالى: {أَحَسِبَ الناسُ أَنْ يُتْرَكوا} العنكبوت: 2، وأمَّا قولُهُ تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ} طه: 89. فالجُمهورُ على الرَّفعِ، لأنَّ الرؤيةَ تقعُ على العِلْمِ. والحاصلُ أنَّه مَتى وَقَعَتْ بعدَ عِلْمِ وَجَبَ أنْ تَكونَ المُخَفَّفَةَ، وإذا وَقَعَتْ بعدَ ما ليسَ بِعِلْمٍ ولا شَكٍّ وَجَبَ أَنْ تَكونَ النَّاصِبَةَ، وإنْ وَقَعَتْ بعدَ فِعْلٍ يَحتمِلُ اليَقينَ والشَكَّ جازَ فيها وَجْهان باعتِباريْن: إنْ جَعَلْناهُ يَقينًا جَعلناها المُخَفَّفةَ ورَفَعْنا ما بعدَها، وإنْ جَعَلْناهُ شَكًّا جَعَلْناها الناصبةَ ونَصَبْنا ما بعدَها، والآيَةُ الكَريمةُ مِنْ هذا البابِ. وكذلك قولُهُ تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِم} طه: 89. وقولُه: {أَحَسِبَ الناس أَنْ يُترَكوا} العنكبوت: 2، لكنْ لم يُقْرَأْ في الأُولى إلَّا بالرَّفعِ، ولا في الثاينةِ إلَّا بالنَّصْبِ، لأنَّ القراءةَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ.
وقالُ بعضُهم: يَجوزُ فيها بعدَ أَفْعالِ الشَكِّ وجْهانِ فأوهَمَ هذا أَنَّه يَجوزُ فيها أنْ تكونَ المُخَفَّفةَ والفعلُ قبلَها باقٍ على معناهُ مِنَ الشَكِّ، لكنْ المرادَ من قولِهم هذا هو الصَلاحِيَةُ اللَّفظِيَّةُ بالاعتباريْن المُتَقدِّميْن، وقد دَخَلَ فِعْلُ الحُسْبانِ على "أَنْ" التي هي للتحقيقِ لأنَّه نَزَّل حُسْبانَهم لقوتِهِ في صُدورهم مَنزلَةَ العِلْمِ، والسببُ المُقتَضي لِوُقوعِ المُخَفَّفَةِ بَعدَ اليَقين، والناصِبَةِ بعدَ غيرِه، وجوازِ الوجهيْن فيما ذَكروه وهو "أَنْ" المُخففةَ تَدُلُّ على ثَباتِ الأَمْرِ واسْتِقرارِه لأنَّها للتَوكيدِ كالمُشَدَّدَةِ، والعِلْمُ وبابُه كذلك فناسَبَ أَنْ تُوقِعَها بعدَ اليَقينِ للمُلاءمةِ بينَهُما، ويَدُلٌّ على ذلك وقوعُها مُشَدَّدةً بعدَ اليَقينِ كقولِه تعالى: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ المُبين} النور: 25. وكقولِه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} البقرة: 106. و{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السمواتِ والأرضِ} البقرة: 107. إلى غيرِ ذلك، والنوعُ الذي لا يَدُلُّ على ثَباتٍ واسْتِقرارٍ تقعُ بعدَهُ الناصِبَةُ كقولِه تعالى: {والذي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي} الشعراء: 82. و{نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} المائدة: 52. و{فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا} الكهف: 80. و{أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُواْ} المجادلة: 13. إلى غيرِ ذلك، والنوعُ المُحتَمِلُ للأمريْن تَقعُ بعدَه تارةً المُخَفَّفَةُ وتارةً الناصِبَةُ كما تقدَّمَ مِنَ الاعْتِباريْن، وعلى كِلا التَّقديريْن أَعْني كونَها المُخَفَّفةَ أوِ الناصِبةَ فهي سادَّةٌ مَسَدَّ المَفعوليْن عندَ جمهورِ البَصريّين، ومسَدَّ الأوَّلِ والثاني محذوفٌ عند غيرهم، أي: حَسِبوا عدمَ الفتنةِ كائنًا أوْ حاصلًا.
وقال بعضُ النَحْوِيِّين أنَّه يَنْبَغي لِمَنْ رَفعَ أنْ يَفْصِلَ "أن" من "لا" في الكتابة؛ لأنَّ الهاءَ المُضْمَرةَ حائلةٌ في المعنى، ومَنْ نَصَبَ لم يَفْصِل لعدمِ الحائلِ بينَهما. ورُبّما ساغَ هذا في غيرِ المُصحَفِ، أمَّا المُصْحَفُ فلمْ يُرْسَمْ إلى على الاتصال. وفي هذه العبارة تجوُّزٌ إذْ لفظُ الاتِّصالِ يُشْعِرُ بأَنْ تُكْتب "أنلا" فتُوصَلَ "أن" بـ "لا" في الخَطِّ، فقد كان يَنبَغي أنْ يُقالَ: لا تُثْبَتُ لها صورةٌ، أوْ تُثْبَتُ لها صورةٌ مُنفصِلَةٌ.
قولُه: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} الواوُ علامةُ جَمْعِ الفاعِلِ، كما يَلْحَقُ الفِعلَ تاءُ التأنيثِ لِيَدُلَّ على تأنيثِ الفاعِلِ، ك "قامت هند" وهذه اللغةُ جاريةٌ في المثنى وجمعِ الإِناث أيضًا فيُقال: "قاما أَخَواك، وقُمْنَ أَخَواتُك" كقولِ عبدِ اللهِ بْنِ قيسٍ في رثاءِ مُصْعَبٍ بْنِ الزُبيْرِ ـ رضي اللهُ عنه:
تَوَلّى قِتَالَ المَارِقِينَ بِنَفْسِهِ .................... وقد أَسْلَماه مُبْعَدٌ وحَميمٌ
وقولِ الفرزدق:
ولكنْ دِيافِيٌّ أبوه وأمُّه ................... بِحَوْرانَ يَعْصِرنَ السَّليطَ أقاربُهْ
واستدَلَّ بعضُهم بقولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: ((يتعاقبون فيكم ملائكةٌ)) ويعبِّرُ النُحاةُ عنْ هذِهِ اللُّغَةِ بِلُغَةِ "أكلوني البَراغيثُ" ولكنَّ الأَفْصَحَ أَلَّا تَلْحَقَ الفِعْلَ علامَةٌ، وفَرَّقَ النَّحْوِيُّونَ بيْنَ لَحاقِه عَلامةَ التأنيثِ وعلامةَ التَثْنِيَةِ والجَمْعِ بأَنَّ علامَةَ التأنيثِ أَلْزَمُ؛ لأنَّ التأنيثَ في ذاتِ الفاعِلِ بخلافِ التَثْنِيَةِ والجَمْعِ فإنَّه غيرُ لازمٍ.
أو نقولُ بأنَّ الواوَ ضميرٌ عائدٌ على المذكورين العائدِ عليهم واوُ "حسبوا" و"كثيرٌ" بَدَلٌ مِنْ هذا الضَميرِ، كقولِكَ: "إخوتُك قاموا كبيرُهم وصغيرُهم" ونحوِه.
أو أنَّ الواوَ ضميرٌ أَيْضًا، و"كثيرٌ" بَدَلٌ مِنْه، والفرقُ بيْنَ هذا الوَجْهِ والذي قبلَه أنَّ الضميرَ في الوَجْهِ الأَوَّلِ مُفَسَّرٌ بما قبلَهُ وهم بَنو إسرائيل، وأَمَّا في هذا الوَجْهِ فهو مُفَسَّرٌ بما بَعْدَهُ، وهذا أَحَدُ المَواضِعِ التي يُفَسَّرُ فيها الضَميرُ بِمَا بعدَه، وهو أنْ يُبْدَلَ مِنْهُ ما يُفَسِّرُهُ، وهي مَسألةُ خِلافٍ وقدْ تقدَّمَ تحريرُها. أوْ أنَّ الضَميرَ عائدٌ على مَنْ تَقَدَّمَ، و"كثير" خبرُ مُبتَدأٍ مَحذوفٌ، وقَدَّرَهُ مَكِيٌّ تقديريْن، أَحَدُهُما: العُمْيُ والصُّمُّ كثيرٌ منهم. والثاني: العَمَى والصَّمَمُ كثيرٌ منهم، ودَلَّ على ذلك قولُه: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ} فعَلى تقديرِهِ الأوَّلِ: يكونُ "كثير" صادقًا عليهم و"منهم" صفةٌ لـ "كثير"، وعلى التَقديرِ الثاني يَكونُ "كثيرٌ" صادقًا على العَمَى والصَّمَمِ لا عليهم، و"منهم" صفةٌ له بمعنى أنَّه صادرٌ مِنهم، وهذا الثاني غيرُ ظاهرٍ. وقدَّرَ أيضًا "أُولئكَ كثيرٌ منهم" وثمَّةَ وجهٌ خامسٌ بأنَّ "كثيرٌ" مبتَدَأٌ والجُملَةُ الفِعْلِيَّةُ قبلَهُ خَبَرٌ، ولا يُقالُ: إنَّ الفِعْلَ مَتى وَقَعَ خَبِرًا وَجَبَ تأخيرُهُ لأنَّ ذلك مَشْروطٌ بِكونِ الفاعلِ مُستَتِرًا نحو: "زيدٌ قام" لأنَّه لو قُدِّمَ فقيلَ: قامَ زيدٌ لأُلِبَسَ بالفاعِلِ، فإنْ قيلَ: وهذا أيضًا يُلْبَسُ بالفاعِلِ في لُغَةِ "أَكلوني البراغيثُ" فالجوابُ أنَّها لُغَةٌ ضَعيفةٌ لا نُبالي بِها. ومثلُ هذِهِ الآيةِ أَيْضًا قولُه تعالى: {وَأَسَرُّواْ النَجْوى الذين ظَلَمُواْ} الأنبياء: 3.
والجمهورُ على "عَمُوا وَصمُّوا" بفتحِ العينِ والصادِ، والأصلُ: عَمِيُوا وصَمِمُوا كشَرِبُوا، فأُعِلَّ الأوَّلُ بالحَذْفِ، والثاني: بالإِدْغامِ. وقَرَأَ يَحيى بْنُ وثَّابٍ وإبراهيمُ النُخَعيُّ بِضَمِّ العَيْنِ والصادِ وتَخفيفِ المِيمِ مِنْ "عَمُوا" على تقديرِ عَماهم اللهُ وصَمَّهم أي: رَماهم وضَرَبَهم بالعَمَى والصَّمَمِ، كما يُقالُ: نَزَكْتُهُ إذا ضَرَبْتَه بالنَّيْزَك وَركَبْتُه إذا ضربتَه بِرُكْبَتِك. فجَرَتْ مَجْرى زُكِمَ الرَجُلُ وأَزْكَمَه اللهُ، وحُمَّ وأَحَمَّه اللهُ، ولا يُقالُ: زَكَمَهُ اللهُ ولا حَمَّهُ، كما لا يُقالُ: عَمَيْتُه ولا صَمَمْتُه، وهي أَفعالٌ جاءتْ مَبْنِيَّةً للمَفعولِ الذي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ وهي مُتَعدِّيةٌ ثلاثيَّةٌ، فإذا بُنيتْ للفاعِلِ صارَتْ قاصرةً فإذا أَرَدْتَ بِناءَها للفاعلِ مُتَعَدِّيةً أَدْخَلْتَ همزةَ النقلِ، وهي نوعٌ غريبٌ في الأَفعالِ.
وهذا يَقتَضي أنَّ الثلاثيَّ منْها لا يَتَعَدَّى.
وقرأَ ابْنُ أبي عَبْلَةَ "كثيرًا" نَصْبًا على أنَّه نعتٌ لِمَصْدَرٍ مَحذوفٍ.
وقوله : {فَعَمُواْ} عطفَه بالفاء وقولُه: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ} عَطَفَهُ بـ "ثم"، وهو معنى حَسَنٌ، وذلك أَنَّهم عَقِبَ الحُسْبانِ حَصَل لهم العَمَى والصَّمَمُ مِنْ غير تراخٍ، وأَسْنَدَ الفِعْليْن إليهم، بخِلافِ قولِه: {فَأَصَمَّهُمْ وأعمى أَبْصَارَهُمْ} محمد: 23. لأنَّ هذا فيمن لم يَسْبِقْ له هِدايةٌ، وأَسنَدَ الفعلَ الحَسَنَ لِنَفْسِهِ في قولِه: {ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ} وعطفَ قولَه: {ثُمَّ عَمُواْ} بحرفِ التَراخِي دَلالَةً على أنَّهم تَمَادَوا في الضَلالِ إلى وقتِ التوبةِ.