قالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25)قَوْلُهُ تَعَالَى: {قالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} قال موسى ـ عليه السلامُ ـ لمَّا رأى منهم ما رَأى مِنَ العِنَادِ، وقولُه على سبيلِ الشَكوى وبَثِّ الحُزْنِ إلى اللهِ، معَ رِقَّةِ القلبِ التي بِمِثْلِها تُسْتَمْطَرُ الرحمةُ وتستَجلَبُ النُّصْرَةُ، وليس على سبيلِ الإخبارِ. وكذا كلُّ خَبَرٍ يُخاطَبُ بِهِ عَلامُ الغُيوبِ، فلا يُقصَدُ بِهِ معنى آخرُ سِوى إفادةِ الحُكْمِ أوْ لازِمِهِ، وليس قولُه رَدًّا لِما أَمَرَ اللهُ ـ تعالى ـ بِهِ، ولا اعتذارًا عَنْ عدمِ الدُّخولِ، لِأَنَّهُ كَانَ يُطِيعُهُ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: "وَأَخِي" أي هارون ـ عليهِما السلامُ. أَيْ وَأَخِي أَيْضًا لَا يَمْلِكُ إِلَّا نَفْسَهُ، أَيْ إِنِّي وَأَخِي لَا نَمْلِكُ إِلَّا أَنْفُسَنَا. كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَمْلِكُ أَنَا وَأَخِي إِلَّا أَنْفُسَنَا. أي لا يُجيبني إلى طاعتِكَ ويُوافِقُني على تَنفيذِ أَمرِكَ سوى نَفسي وأَخي، ولم يَذْكُرِ الرَّجليْنِ الناصحيْن اللذيْنِ أنْعَمَ اللهُ ـ تعالى ـ عليهِما وإنْ كانا يُوافِقانِهِ إذا دَعا، لِما رَأى مِنْ تَلَوُّنِ القَوْمِ وتَقَلُّبِ آرائهم فكأنَّه لمْ يَثِقُ بِهِما، ولم يَعْتَمِدْ عليْهِما. وقيلَ: ليسَ القَصْدُ إلى القَصْرِ بَلْ إلى بيانِ قِلَّةِ مَنْ يُوافِقُهُ تَشبيهًا لِحالِهِ بِحالِ مَنْ لا يَمْلِكُ إلَّا نفسَه وأَخاهُ، وجُوِّزَ أنْ يُرادَ بـ "أخي" مَنْ يُؤاخيني في الدينِ، فيَدْخُلان فيه ولا يَتِمُّ إلَّا بالتَأويلِ بِكلِّ مُؤاخٍ لَهُ في الدين، أوْ بِجِنْسِ الأَخِ، وفيه بُعْدٌ.
قولُه: {فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ}. الفاءُ لِتَرتيبِ الفَرْقِ على ما قبلَه والدُّعاءِ بِه، و"بَيْنَنا" يُريدُ نفسَهُ وأَخاهُ عليهِما الصلاةُ والسَلامُ، وفي الفرق بينهم وجهان، الْأَوَّلُ: بِمَا يَدُلُّ عَلَى بُعْدِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، وَذَهَابِهِمْ عَنِ الصَّوَابِ فِيمَا ارْتَكَبُوا مِنَ الْعِصْيَانِ، وَلِذَلِكَ أُلْقُوا فِي التِّيهِ. والثَّانِي: بِطَلَبِ التَّمْيِيزِ أَيْ مَيِّزْنَا عَنْ جَمَاعَتِهِمْ وَجُمْلَتِهِمْ وَلَا تُلْحِقْنَا بِهِمْ فِي الْعِقَابِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: فَاقْضِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِعِصْمَتِكَ إِيَّانَا مِنَ الْعِصْيَانِ الَّذِي ابْتَلَيْتَهُمْ بِهِ، وَمِنْهُ قول تعالى: {فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} الدخان: 4. أَيْ يُقْضَى. وَقَدْ فَعَلَ لَمَّا أَمَاتَهُمْ فِي التِّيهِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا أَرَادَ فِي الْآخِرَةِ، أَيِ اجْعَلْنَا فِي الْجَنَّةِ وَلَا تَجْعَلْنَا مَعَهُمْ فِي النَّارِ، وَالشَّاهِدُ عَلَى الْفَرْقِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْمُبَاعَدَةِ فِي الْأَحْوَالِ قَوْلُ الشَّاعِرِ حُبَيْنَةَ بنِ طَريفٍ العكليِّ:
يَا رَبِّ فَافْرُقْ بَيْنَهُ وَبَيْنِي ....................... أَشَدَّ مَا فَرَّقْتَ بَيْنَ اثنين
و"الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ" أي الخارجين عن طاعتِكَ بأنْ تَحُكُمَ لنا بما
نَستَحِقُّه، وعليهم بما يَستحقونَه كما هو المَرْوِيُّ عن ابنِ عبّاسٍ والضحاك ـ رضيَ الله تعالى عنهم، وإليه ذَهَبَ أكثرُ المُفسِّرين، ويرجِّحُهُ تَعقيبُ الدُعاءِ بقولِه تعالى في الآية التي بعدها: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ..} وقيل: سألَ عليْه السلامُ ربَّه أنْ يَفْرُقَ بالتَبْعيدِ في الآخرةِ بأنْ يجعلَه وأَخاه في الجَنَّةِ ويَجعَلَهم في النارِ.
قولُه تعالى: {وَأَخِي} منصوبٌ عطفًا على "نفسي" والمَعنى: ولا أَمْلُكُ إلَّا أَخي مَعَ مِلْكي لِنَفسي دونَ غيرِنا. أو هو منصوبٌ عطفًا على اسمِ "إنَّ" من قولِه:"إنني"، وخبرُه محذوفٌ للدَلالةِ اللَّفظيَّةِ عليْه أي: وإنَّ أَخي لا يَمْلُكُ إلَّا نفسَه. أو هو مرفوعٌ عطفًا على مَحَلِّ اسْمِ "إنَّ" لأنَّهُ بَعدَ اسْتِكمالِ الخَبرِ، على خِلافٍ في ذلك، وإنْ كان بعضُهم قد ادَّعى الإِجماعَ على جوازِه. وثَمَّةَ وجهٌ رابعٌ: بأنَّه مَرفوعٌ بالابتِداءِ وخبرُه محذوفٌ للدَّلالةِ المُتَقَدِّمَةِ، ويَكونُ قد عَطَفَ جملةً غيرَ مُؤكَّدَةٍ على جُملةٍ مُؤكَّدةٍ بـ "إنَّ" ووجهٌ خامسٌ: بأنَّه مَرفوعٌ عَطْفًا على الضَميرِ المُسْتَكِنِّ في "أملك" والتقديرُ: ولاَ يَمْلِكُ أَخي إلَّا نفسَه، وجازَ ذلك للفصلِ بقولِه: "إِلاَّ نَفْسِي" ووجهٌ سادسٌ لكنَّه ضعيفٌ: بأنَّه مَجرورٌ عَطفًا على الياءِ في "نفسي" أي: إلَّا نَفسي ونفسَ أَخي، وهو على قواعدِ البَصريين للعَطفِ على الضَميرِ المَجرورِ مِنْ غيرِ إعادةِ الجارِّ.
وقرأَ الحسنُ البصريُّ بفتحِ ياءِ "نفسي" و"أخي" وقرأَ يُوسُفُ ابْنُ دَاوودَ وعُبيدُ بْنُ عُمَيْرٍ: "فافرِقْ" بكسرِ الراءِ منْ فَرَق يفرِق كضَرَبَ يضرِبُ
وهي لغةٌ. كما تقدَّمَ قولُ الراجزُ:
يا ربِّ فافرُقْ بينه وبيني ........................ أشدَّ مَا فرَّقْتَ بين اثنَيْنِ
وقرأَ ابنُ السَّمَيْفَع: "فَفرَّقْ" مُضَعَّفًا وهي مخالفةٌ للرَّسْم. و"بينَ" معمولةٌ لـ "افْرُق"، وكان مِنْ حَقِّها ألاَّ تُكَرَّرَ في العَطفِ، تقولُ: المالُ بيْنَ زيدٍ وعَمْرٍو، وإنَّما كُرِّرَتْ للاحتياجِ إلى تكرُّرِ الجارِّ في العَطْفِ على الضَميرِ المَجرورِ، وهو يُؤيِّدُ مَذْهَبَ البَصْرِيّين.
المزاج
الأحد أغسطس 25, 2013 7:49 am