قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)قَوْلُهُ تَعَالَى: {قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ} فَلَمَّا نَكَلَ بَنُو إسْرَائِيلَ عَنْ إِطَاعَةِ أمْرِ رَبِّهِمْ، وَمُتَابَعَةِ مُوسَى، حَرَّضَهُمْ رَجُلاَنِ، للهِ عَلَيْهِمَا نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهُمَا مِمَّنْ يَخَافُ اللهُ وَيَخْشَى عِقَابَهُ، واسم الأوَّلِ يُوشعُ واسمُ الثاني كالبُ ابنُ يُوقِنَا وَيُقَالُ ابْنُ قَانِيَا، وَكَانَا مِنِ الِاثْنَيْ عَشَرَ نقيبًا. وقيل "يَخافُونَ" أَيْ مِنَ الْجَبَّارِينَ. قال قَتَادَةُ: "يَخَافُونَ" اللهَ تَعَالَى. وفي وصفِهم بذلك تعريضٌ بأنَّ مَنْ عَداهُما مِنَ القومِ لا يَخافونَ اللهَ، بل يخافون العدو، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُمَا رَجُلَانِ كَانَا فِي مَدِينَةِ الْجَبَّارِينَ عَلَى دِينِ مُوسَى، وأَخرجَ ابنُ المُنذِرِ عن ابْنِ جُبيرٍ أنَّ الرجلينَ كانا مِنَ الجبابرةِ أسلما وصارا إلى موسى ـ عليه السلام، فَمَعْنَى "يَخافُونَ" عَلَى هَذَا أَيْ مِنَ الْعَمَالِقَةِ مِنْ حَيْثُ الطَّبْعِ لِئَلَّا يَطَّلِعُوا عَلَى إِيمَانِهِمْ فَيَفْتِنُوهُمْ وَلَكِنْ وَثِقَا بِاللهِ. وَقِيلَ: يَخَافُونَ ضَعْفَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَجُبْنَهُمْ. "أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا" أَيْ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِالْيَقِينِ وَالصَّلَاحِ. "ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ" قَالَا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يَهُولَنَّكُمْ عِظَمُ أَجْسَامِهِمْ فَقُلُوبُهُمْ مُلِئَتْ رُعْبًا مِنْكُمْ، فَأَجْسَامُهُمْ عَظِيمَةٌ وَقُلُوبُهُمْ ضَعِيفَةٌ، فإنْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللهِ، وَتَبِعْتُمْ أمْرَهُ، وَوَافَقْتُمْ رَسُولَهُ، نَصَرَكُمْ رَبُّكُمْ عَلى أعْدَائِكُمْ، وَأيَّدَكُمْ وَأظْفَرَكُمْ بِهِمْ، وَدَخَلْتُمُ البَلَدَ الذِي كَتَبَ اللهُ لَكُمُ السُّكْنَى فِيها، فَلَمْ يَنْفَعْ فِيهِمْ هذا القَوْلُ شَيئاً. وَكَانُوا قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوا مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ كَانَ لَهُمُ الْغَلَبُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا قَالَا ذَلِكَ ثِقَةً بِوَعْدِ اللهِ. ثُمَّ قَالَا: "وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا" بعد ترتيب الأسبابِ ولا تعتمدوا عليها فإنَّها لا تؤثِّرُ من دونِ إذْنِه تعالى "إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" أي إن كنتم مُصَدِّقِينَ بِهِ، فَإِنَّهُ يَنْصُرُكُمْ، والمُرادُ بهذا الإلهابُ والتَهييجُ وإلَّا فإيمانُهم مُحًقَّقٌ، وقد يُرادُ بالإيمانِ التصديقُ بالله تعالى وما يَتْبَعُه مِنَ التَصديقِ بما وَعَدَه أي: إن كنتم مؤمنين به تعالى، مصدِّقين لوعدِه فإنَّ ذلك مما يُوجِبُ التوكُّلَ عليه ـ سبحانه وتعالى. ثُمَّ قِيلَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: لَمَّا قَالَا هَذَا أَرَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ رَجْمَهُمَا بِالْحِجَارَةِ، وَقَالُوا: نُصَدِّقُكُمَا وَنَدَعُ قَوْلَ عَشَرَةٍ!
قولُه تعالى: {مِنَ الذين يَخَافُونَ} الجارُّ والمجرورُ في محلِّ رفعٍ صفةً لـ "رجلان"، ومفعولُ "يخافون" محذوفٌ، تقديرُه: يَخافونَ اللهَ أو يَخافون العدوَّ، ولكنْ ثَبَّتَهُما اللهُ تعالى بالإِيمان والثِقةِ بِه حتَّى قالوا هذه المقالةَ، ويُؤيِّدُ التقديرَ الأوَّلَ التَصريحُ بالمفعولِ في قراءةِ ابنِ مسعودٍ: "يخافون اللهَ"، وهذان التأويلانِ بناءً على ما هو المشهورُ عندَ الجمهورِ مِنْ كَوْنِ الرجليْن القائلَيْن ذلك مِنْ قومِ موسى وهما يُوشّعُ وكالبُ، وقيل: الرجلان من الجبَّارين، ولكنْ أَنْعَمَ اللهُ عليهِما بالإِيمانِ حتَّى قالا هذه المَقالةَ يُحَرِّضانِ بها بني إسرائيلَ على قومِهم لِمُعاداتِهم لَهم في الدين، وعلى هذا القولِ فيُحْتَمَلُ أنْ يكونَ مفعولُ "يخافون" كما تقدَّم، أي: يَخافون اللهَ أوِ العَدُوَّ، والمَعنى كما تقدَّمَ، ويُحتَمَلُ أنْ يكونَ المفعولُ ضميرًا عائدًا على الموصولِ، ويكونُ الضميرُ المرفوعُ في "يخافون" ضميرَ بني إسرائيلَ، والتقديرُ: مِنَ الذين يَخافُهم بَنو إسرائيلَ، ويؤيِّدُ هذا التأويلَ قراءةُ ابْنِ عباسٍ ومُجَاهِدٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ "يُخَافُونَ" بِضَمِّ الْيَاءِ مبنيًا للمَفعولِ، وأيضًا قولُه: "أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا" كأنَّه قيل: مِنْ المُخَوَّفين. وتحتملُ القراءةُ أيضًا وجهًا آخَرَ: وهو أنْ يكونَ المعنى: "يُخافون" أي: يُهابون ويُوَقَّرون، ويُرْجَعُ إليهم لفضلِهم وخيرِهم، ومع هذين الاحتمالين الأخيرين فلا ترجيحَ في هذه القراءة لكونِ الرجيلن من الجبارين. وأمَّا كونُ قولِه تعالى: "أنعم الله عليهما" مرجِّحٌ أيضًا لِكونِهما مِنَ الجبَّارين فغيرُ ظاهرٍ، لكونِ هذه الصِفَةِ مُشتَرَكَةً بيْن يُوشَعَ وكالب وبين غيرِهما مِمَّن أنعمَ الله عليه.
قوله: {أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا} الأظهرُ: أنَّها صفةٌ ثانيةٌ فمَحلُّها الرَّفعُ، وجِيءَ هنا بأفْصَحِ الاستعماليْن، كونَ الوصفِ بالجارِّ قُدِّمَ على الوَصْفِ بالجُملةِ لقُربه مِنَ المُفرَدِ. ويمكن: أنْ تكونَ معترضةً، وهو أيضًا ظاهرٌ. وهناك وجهٌ ثالثٌ بأنَّها حالٌ مِنَ الضميرِ في "يَخافون". ووجهٌ رابعٌ: أنَّها حالٌ من "رجلان" وجاءتِ الحالُ مِنَ النَكِرَةِ لِتَخَصُّصِها بالوصفِ. والوجهُ الخامسُ: أنَّها حالٌ مِنَ الضميرِ المُستترِ في الجارِّ والمجرورِّ، وهو "مِنَ الذين" لِوُقوعِه صفةً لموصوفٍ، وإذا جَعَلْتَها حالاً فلا بُدَّ من إضمارِ "قد" مع الماضي.
وقولُهُ: {ادْخُلوا عليهِمُ البابَ} قُدِّمَ "عليهم" على "الباب" للاهتمام بِهِ لأنَّ المقصودَ إنَّما هو دُخولُ البابِ عليهم وهم في بلدِهم، أيْ فاجئوهم وضاغطوهم في المَضيقِ ولا تُمهِلوهم لِيَجدوا للحربِ مجالًا.