وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12)
قَوْلُهُ تبارك تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} تُقوِّي هَذِهِ الْآيَةُ الكريمةُ أَنَّ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي كَفِّ الْأَيْدِي إِنَّمَا كَانَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ، ذلك لأنَّها مُتَضَمِّنَةٌ الْخَبَرَ عَنْ نَقْضِهِمْ مَوَاثِيقَ اللهِ ـ تَعَالَى، مُشْتَمِلةٌ على بيانِ بعضَ ما صَدَرَ منهم، مَسُوقَةٌ لِتَقريرِ المُؤمنين على ذِكْرِ نعمةِ اللهِ ومُراعاةِ حَقِّ الميثاقِ، وتحذيرِهم مِنْ نقضِهِ، أوْ لِتَقريرِ ما ذُكِرَ مِنَ الهَمِّ بالبَطْشِ، وتحقيقِه بناءً على أنَّه كان صادرًا مِنْ أَسْلافِهم بِبَيانِ أنَّ الغدرَ والخِيانَة فيهم، وإظهارُ الاسْمِ الجَليلِ هُنا لِتَربِيَةِ المَهابَةِ وتَفخيمِ المِيثاقِ وتهويلِ الخَطْبِ في نَقضِهِ مَعَ ما فيه مِنْ رِعايَةِ حَقِّ الاسْتِئنافِ المُسْتَدْعي للانْقِطاعِ عَمَّا قبلَه.
وأَسندَ ـ سبحانَه ـ الأخذَ إليْه، لأنَّه هو الذي أمرَ بِه موسى ـ عليه
السلامُ ـ ولأنَّ في إسْنادِ أَخْذِ المِيثاقِ إليْه ـ سبحانَه وتعالى ـ زيادةً في توثيقِه، وتعظيمِ توكيدِه، وأيُّ عهدٍ يَكونُ أَقوى وأَوْثَقَ مِنْ عهدٍ يَكونُ بيْن العبدِ والرَبِّ؟.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي كَيْفِيَّةِ بَعْثِ هَؤُلَاءِ النُّقَبَاءِ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ النَّقِيبَ كَبِيرُ الْقَوْمِ، الْقَائِمُ بِأُمُورِهِمِ الَّذِي يُنَقِّبُ عَنْهَا وَعَنْ مَصَالِحِهِمْ فِيهَا. قَالَ قَتَادَةُ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ وَغَيْرُهُ: هَؤُلَاءِ النُّقَبَاءُ قَوْمٌ كِبَارٌ مِنْ كُلِّ سِبْطٍ، تَكَفَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ بِسِبْطِهِ بِأَنْ يُؤْمِنُوا وَيَتَّقُوا اللهَ، وَنَحْوَ هَذَا كَانَ النُّقَبَاءُ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، بَايَعَ فِيهَا سَبْعُونَ رَجُلًا وَامْرَأَتَانِ. فَاخْتَارَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ السَّبْعِينَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، وَسَمَّاهُمُ النُّقَبَاءُ اقْتِدَاءً بِمُوسَى ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَلامُ. وَقَالَ الرَّبِيعُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا: إِنَّمَا بُعِثَ النُّقَبَاءُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أُمَنَاءَ عَلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى الْجَبَّارِينَ وَالسَّبْرِ لِقُوَّتِهِمْ وَمَنَعَتِهِمْ، فَسَارُوا لِيَخْتَبِرُوا حَالَ مَنْ بها، ويُعلِموه بما اطَّلَعوهُ عَلَيْهِ فِيهَا حَتَّى يَنْظُرَ فِي الْغَزْوِ إِلَيْهِمْ، فَاطَّلَعُوا مِنَ الْجَبَّارِينَ عَلَى قُوَّةٍ عَظِيمَةٍ ـ عَلَى مَا يَأْتِي ـ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا، فَتَعَاقَدُوا بَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ يُخْفُوا ذَلِكَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنْ يُعْلِمُوا بِهِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ خَانَ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ فَعَرَّفُوا قَرَابَاتِهِمْ، وَمَنْ وَثِقُوهُ عَلَى سِرِّهِمْ، فَفَشَا الْخَبَرُ حَتَّى اعْوَجَّ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ} المائدة: 24. فَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ الْمَرْءُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى اطِّلَاعِهِ مِنْ حَاجَاتِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، فَتُرَكَّبُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ، وَيَرْتَبِطُ بِهِ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَقَدْ جَاءَ أَيْضًا مِثْلُهُ فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِهَوَازِنَ: ((ارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِيهَا أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى اتِّخَاذِ الْجَاسُوسِ. وَالتَّجَسُّسُ: التَّبَحُّثُ. وَقَدْ بَعَثَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَسْبَسَةَ (وقيل هو ابْنُ عَمْرٍو الأَنصاريِّ) عَيْنًا في غَزوةِ بَدْرٍ لِتَقَصِّي أَنْباءِ عِيرِ أبي سُفيان، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَأَمَّا أَسْمَاءُ نُقَبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَدْ ذَكَرَ أَسْمَاءَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ حَبِيبٍ فِي "الْمُحَبَّرِ" فَقَالَ: مِنْ سِبْطِ رُوبِيلَ شموعُ بْنُ ركوبَ، وَمِنْ سِبْطِ شَمْعُونَ شوقوطُ بْنُ حُورِيِّ، وَمِنْ سِبْطِ يَهُوذَا كَالِبُ بْنُ يُوقِنَا، وَمِنْ سِبْطِ السَّاحِرِ يوغولُ بن يوسف، ومن سِبْطِ أفراثيم ابنُ يُوسُفَ يُوشَعُ بْنُ النُّونِ، وَمِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ يلظَى بْنُ روقو، وَمِنْ سِبْطِ ربالُونَ كرابيلُ ابن سودَا وَمِنْ سِبْطِ منشَا بْنِ يُوسُفَ كدي بْنُ سوشا، وَمِنْ سِبْطِ دَانَ عمائِيلُ بْنُ كسلَ، وَمِنْ سِبْطِ شيرَ ستورُ بْنُ مِيخَائِيلَ، وَمِنْ سِبْطِ نفتَالَ يُوحَنَّا بْنُ وقوشا، وَمِنْ سِبْطِ (كاذكوالَ ابْنِ مُوخى)، فالمؤمنان مِنْهُمْ يُوشَعُ وَكَالِبُ، وَدَعَا مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ عَلَى الْآخَرِينَ فَهَلَكُوا مَسْخُوطًا عَلَيْهِمْ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَأَمَّا نُقَبَاءُ لَيْلَةِ الْعَقَبَةِ فَمَذْكُورُونَ فِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَلْيُنْظَرُوا هُنَاكَ.
رُويَ أنَّ بَني إسرائيلَ لَمَّا فَرَغوا مِنْ أَمْرِ فِرْعونَ أَمَرَهمُ اللهُ بالمَسيرِ إلى أَريحا بأرضِ الشامِ وكان يَسْكُنُها الجَبابِرَةُ الكَنْعانيُّونَ، وقال ـ سُبحانه ـ لهم: إنّي كَتَبْتُها لَكمْ دارًا وقَرارًا فاخْرُجوا إليْها وجاهِدوا مَنْ فيها فإنِّي ناصرُكم، وأَمَرَ ـ جَلَّ شأنُه ـ موسى ـ عليه السلامُ ـ أنْ يأخُذَ مِنْ كلِّ سِبْطٍ كَفيلًا عليهم بالوَفاءِ فيما أُمِروا به فأخَذَ عليهِمُ المِيثاقَ، واخْتارَ منْهمُ النُقباءَ وسارَ بِهم، فلمَّا دَنا مِن أرضِ كَنعانَ، بعثَ النُقباءَ يَتَحَسَّسونَ الأخبارَ، ونَهاهم أنْ يُحَدِّثوا قومَهم، فرأوا أَجْرامًا عِظامًا وبأسًا شَديدًا فهابوا، فرَجَعوا وحدَّثوا قومَهم، إلَّا كالِبَ بْنَ يُوقنا مِنْ سِبْطِ يَهوذا، ويُوشَعَ بنِ نُون مِنْ سِبْطِ إفرائيمَ بْنِ يُوسُفَ ـ عليه السلامُ، وعند ذلك قال بنو إسرائيلَ لِمُوسى: {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هاهنا قاعدون} المائدة: 24.
لقد شاعَ أمْرُ أحدِ العمالقةِ واسمُه (عُوجُ) عندَ العامَّةِ أخْبارًا مُلَفَّقَةً ونَقَلوا فيه حِكاياتٍ شَنيعةٍ فيها الكثيرُ مِنَ المُبالَغَاتِ التي يَأباها العقلُ، وفي "فَتَاوى العلامَةِ ابْنِ حَجَرٍ" قال الحافظُ العمادُ بْنُ كثيرٍ: (عُوجُ بْنُ عُنَاقٍ) وجميعُ ما يَحْكونَ عنْه هَذَيانٌ لا أَصْلَ له، وهو مِنْ مُخْتَلَقاتِ أهلِ الكِتابِ، ولم يَكُنْ قَطُّ على عَهْدِ نوحٍ ـ عليه السَّلامُ ـ ولم يَسْلَمْ مِنَ الكُفّارِ أحدٌ، وقال ابْنُ القَيِّمِ: مِنَ الأُمورِ التي يُعْرَفُ بها كونُ الحَديثِ مَوْضوعًا، أنْ يَكونَ ممّا تَقومُ الشَواهِدُ الصَّحيحةُ على بُطلانِهِ كَحديثِ (عُوجَ بْنِ عُنَاقٍ) الطويلِ، وليسَ العَجَبُ مِنْ جُرْأةِ مَنْ وَضَعَ هذا الحديثَ وكَذَبَ على اللهِ تعالى، إنَّما العَجَبُ ممّنْ يُدْخِلُ هذا الحَديثَ في كُتِبِ العِلْمِ مِنَ التَفسيرِ وغيرِه ولا يُبَيِّنُ أَمرَه، ثمَّ قال: ولا رَيْبَ في أَنَّ هذا وأمثالَه مِنْ وَضْعِ زَنادِقَةِ أهلِ الكِتابِ الذين قَصَدوا الاسْتِهزاءَ والسُخْرِيَةَ بالُرسُلِ
الكِرامِ ـ عليهِمُ الصَلاةُ والسلامُ ـ وأتباعِهم.
وبعد أنْ حذَّرْنا القارئَ الكريمَ مِنْ أَنْ يُصَدِّقَ هذا الخَبَرَ نُورِدُ بعضَ ما رُويَ مِنْ أَمرِهِ لِيَقِفَ الإخْوةُ القُرَّاءُ على صِحَّةِ ما ادَّعيْنا وأَسبابِ ما مِنْه حَذَّرْنا. فقد رُويَ أنَّ النُقَباءَ لمَّا دَخلوا على الجَبَّارين وَجَدوهمْ يَدْخُلُ في كُمِّ أَحَدِهم اثنان مِنْهم (أي مِنَ النقباء)، ولا يَحمِلُ عُنْقودَ عِنَبِهم إلَّا خَمْسُ أَنْفُسٍ بينَهم في خَشَبَةٍ، ويَدْخُلُ في شَطْرِ الرُّمانةِ الواحدةِ مِنْ رُمّانِهم إذا نُزِعَ حَبُّها خَمْسُ أَنْفُسٍ أوْ أَرْبَعُ، وأنَّه لَقيَهم رَجُلٌ مِنْ أولئك يُقالُ لَهُ (عُوجُ بْنُ عُنَاقٍ)، وكان طولُهُ ثلاثةَ آلافٍ وثلاث مئةٍ وثلاثةً وثلاثين ذِراعًا وثُلُثَ ذِراعٍ، وكان يُحْتَجَزُ بالسَّحابِ ويَشْرَبُ منْه ويَتَناوَلُ الحُوتَ مِنْ قرارِ البَحرِ فيَشْويْهِ بعينِ الشَّمْسِ يَرْفَعُهُ إليْها ثمَّ يَأكُلُهُ، ويُرْوَى أنَّ الماءَ طَبَقَ ما على الأَرضِ مِنْ جبلٍ وما جاوَزَ رُكبَتَيْ (عُوجَ)، وعاشَ ثلاثةَ آلافِ سَنَةً حتَّى أَهلَكَهُ اللهُ ـ تعالى ـ على يَدِ مُوسى ـ عليْه السَّلامُ ـ وذلك أنَّه جاءَ بصخرةٍ مِنَ الجَبَلِ على قَدْرِ عَسْكَرِ مُوسى ـ عليه السَّلامُ ـ وكان فرسَخًا في فرسَخٍ، وحَمَلَها لِيُطْبِقَها عليهم، فبَعَثَ اللهُ تعالى الهُدْهُدَ، فقوَّرَ الصَخْرَةَ بمِنقارِه، فوَقَعَتْ في عُنُقِه فَصَرَعَتْه، فأقبلَ موسى ـ عليه السلامُ ـ فرآه مَصروعًا فقَتَلَه. وكانتْ أُمُّهُ عَنُق إحْدى بَناتِ آدمَ ـ عليه السلامُ، وكان مَجْلِسُها جُريْبًا مِنَ الأَرْضِ، فلمَّا لَقوا عِوَجًا وعلى رأسِهِ حزْمةُ حَطَبٍ أَخذَهم جَميعًا وجَعَلهم في حزمتِه، وانْطَلَقَ بهم إلى امرأتِه وقال: انْظري إلى هؤلاء الذين يَزعمون أنَّهم يُريدون قِتالَنا وطَرَحَهم بيْن يَديْها، وقال: ألَا أَطْحَنُهم بِرِجْلي؟ فقالتِ امْرأتُه: لا، بَلْ خَلِّ عنهم حتّى يُخبِروا قومَهم بما رَأَوا فَفَعَلَ. وأورَدوا عنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رضي اللهُ عنهما ـ مِنْ قِصَّتِه شيئًا عَجيبًا، وتَعَقَّبَه بعضُ المُصَنِّفين بأنَّ هذا ممَّا يَسْتَحي الشَخْصُ مِنْ نِسبتِه إلى ابْنِ عُمَرٍ ـ رَضي اللهُ تعالى عنهما، وقال الحافظُ السَيُوطِيُّ: والأَقْرَبُ في خبرِ عَوَجٍ أنَّهُ مِنْ بَقِيَّةِ عادٍ، وأنَّه كان طولُه مئةَ ذِراعٍ أوْ شِبْهَ ذلك، وأنَّ سيدَنا مُوسى ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ قتَلَه بِعَصاهُ، وهذا هو القَدْرُ الذي يُحْتَمَلُ قَبولُه.
قَوْلُهُ: {وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ} قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: ذَلِكَ لِلنُّقَبَاءِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: ذَلِكَ لِجَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. أَيْ بِالنَّصْرِ وَالْعَوْنِ.ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: "لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ" إِلَى أَنْ قَالَ: "لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ" أَيْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ "وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ". والمعنى: لَئِنْ داومتُم على إقامةِ الصلاةِ، وعلى أدائها على الوَجْهِ الأكملِ بخضوعٍ وخُشوعٍ، وأَعطيتُمُ الزكاةَ لِمُسْتَحقّيها "وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي" إيمانا كاملًا، ونَصرتُموهم، معَ تعظيمِهم وطاعتِهم "وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضًا حَسَنًا" بأنْ أَنْفقتم جانِبًا مِنٍ أَموالِكم في وُجوهِ الخيرِ والبِرِّ، وَلَمْ يَقُلْ إِقْرَاضًا، وَهَذَا مِمَّا جَاءَ مِنَ الْمَصْدَرِ بِخِلَافِ الْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِ: {وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتًاً}، وقولِه: {فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ} وَقَدْ تَقَدَّمَ. ثُمَّ قِيلَ: ومعنى "حَسَنًا" أَيْ طَيِّبَةً بِهَا نُفُوسُكُمْ. وَقِيلَ: يَبْتَغُونَ بِهَا وَجْهَ اللهِ. وَقِيلَ: حَلَالًا. لئن فعلتم ذلك "لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ" بأنْ أَغفِرَها لكم، ولَأُدخلنَّكم في الآخرةِ جنَّاتٍ تَجري مِنْ تحتِ أَشجارِها وبساتينِها الأَنهارُ. لقد كُلِّفَ بنو إسرائيلَ بخمسةِ أُمورٍ نافعةٍ ووُعِدوا على أدائها بتَكفيرِ سيئاتِهم في الدنيا، وبإدخالِهم جَنَّاتِهِ في الآخرة. وأخَّرَ ـ سبحانَه ـ الإِيمانَ بالرُسُلِ عن إقامةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ مَعَ أنَّه مُقدَّمٌ عليها؛ لأنَّ اليهودَ كانوا مُقرِّين بأنَّه لا بُدَّ مِنْ حُصولِ النَّجاةِ بالصَلاةِ وإيتاءِ الزَكاةِ إلَّا أنَّهم كانوا مُصِرِّين على تَكذيبِ بعضِ الرُسُلِ. فذَكَرَ بعدَ إقامةِ الصَلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ أنَّه لا بُدَّ مِنَ الإِيمانِ بِجميعِ الرُسُلِ حتّى يَحصلَ المَقصودُ. وإلَّا لم يَكن لإِقامةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزَكاةِ تأثيرٌ في حصولِ النَّجاةِ بدونِ الإِيمان بجميعِ الرُسُلَ.
قولُه: {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ} أَيْ بَعْدَ الْمِيثَاقِ. و"ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ" أَيْ أَخْطَأَ قَصْدَ الطريق. والله أعلم.
قولُه تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ .. وَبَعَثْنا} التفاتٌ للجَرْيِ على سَنَنِ الكِبرياءِ، وتقديمِ المَفعولِ غيرِ الصَّريحِ على الصريحِ لِمَا مَرَّ غيرَ مَرَّةٍ مِنَ الاهْتِمامِ والتَشويق.
قولُه: {مِنهُمُ اثنيْ عَشَرَ نَقِيبًا} منهم: يَجوزُ أنْ يَتَعلَّقَ بـ "بَعَثْنا" وأَنْ يَتَعلَّقَ بمَحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ "اثنيْ عشَرَ" لأنَّه في الأَصلِ صِفَةٌ له، فلمَّا قُدِّمِ نُصِبَ حالًا. وقدْ تقدَّمَ الكَلامُ في تَركيبِ "اثنيْ عَشَرَ" وبِنائهِ وحَذْفِ نُونِه في البقرةِ فَأَغْنى عن إعادتِه. و"ميثاق" يَجوزُ أَنْ يَكونَ مُضافًا إلى المَفعولِ ـ وهو الظاهرُ ـ أيْ: إنَّ اللهَ تعالى واثَقَهم، وأَنْ يَكونَ مُضافًا لفاعِلِهِ: أيْ: إنَّهم واثَقوهُ تعالى. والمُفاعلةُ يَجوزُ نِسبةُ الفعلِ فيها إلى كلٍّ مِنَ المَذكورَيْنِ. والنقيبُ: على وزنِ فَعيلٍ، قيلَ: بمعنى فاعِلٍ مُشْتَقًّا مِنَ النَّقْبِ، ومنه: {فَنَقَّبُواْ فِي البلادِ} ق: 36. وَالنَّقَّابُ: الرَّجُلُ الْعَظِيمُ الَّذِي هُوَ فِي النَّاسِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَمِنْهُ قِيلَ فِي عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِنَّهُ كَانَ لَنَقَّابًا. فَالنُّقَبَاءُ الضُّمَّانُ، وَاحِدُهُمْ نَقِيبٌ، وَهُوَ شَاهِدُ الْقَوْمِ وَضَمِينُهُمْ، يُقَالُ: نَقَبَ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ حَسَنُ النَّقِيبَةِ أَيْ حَسَنُ الْخَلِيقَةِ. وَالنَّقْبُ وَالنُّقْبُ الطَّرِيقُ فِي الْجَبَلِ. وَإِنَّمَا قِيلَ: نَقِيبٌ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ دَخِيلَةَ أَمْرِ الْقَوْمِ، وَيَعْرِفُ مَنَاقِبَهُمْ وَهُوَ الطَّرِيقُ إِلَى مَعْرِفَةِ أُمُورِهِمْ. وَقَالَ قَوْمٌ: النُّقَبَاءُ الْأُمَنَاءُ عَلَى قَوْمِهِمْ، وَهَذَا كُلُّهُ قَرِيبٌ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ. وَالنَّقِيبُ أَكْبَرُ مَكَانَةً مِنَ الْعَرِيفِ. قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: حَمَلَةُ الْقُرْآنِ عُرَفَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ذَكَرَهُ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ. وسُمِّي بذلكَ لأنَّه يُفَتِّشُ عن أحوالِ القومِ وأَسرارِهم. وقيل: هو بمعنى مفعولٍ، كأنَّ القومَ اختاروه على عِلْمٍ مِنْهم بعد تفتيشٍ على أَحوالِه. وقيل: هو للمُبالَغَةِ كَعليمٍ وخَبير.
قوله تعالى: { لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاةَ .. لأُكَفِّرَنَّ} هذه اللامُ هيَ المُوطِّئةُ للقَسَمِ، والقَسَمُ معَها مَحذوفٌ، وقدْ تقدَّمَ أنَّه إذا اجتمعَ شَرْطٌ وقَسَمٌ أُجيبَ سابِقُهُما، إلَّا أنْ يَتَقدَّمَ ذُو خَبَرٍ فيُجابَ الشَرْطُ مُطْلَقًا. وكُسِرتْ "إنَّ" لأنَّها مُبْتَدَأةٌ. وقولُه: "لأُكَفِّرَنَّ" هذِه اللَّامُ هي جوابُ القَسَمِ لِسَبْقِه، وجوابُ الشرطِ مَحذوفٌ لِدَلالةِ جَوابِ القَسَمِ عليْه، فقولُه "لأكفرنَّ" سادٌّ مَسَدَّ جوابيْ القَسَمِ والشَرطِ، لا كما فهِمَهُ بَعضُهم، ورُدَّ عليْه ذلك. ويَجوزُ أنْ يَكونَ "لَأُكَفِّرَنَّ" جوابًا لقولِه تعالى قبلَ ذلك: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ} لِمَا تَضَمَّنَه المِيثاقُ مِنْ مَعْنَى القَسَمِ، وعلى هذا فتكونُ الجُملَتان ـ أَعْني قولَه: "وبعثنا" "وقال الله" ـ فيهما وجهان، أحدُهما: أنَّهُما في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحالِ، والثاني: أنْ تكونا جُمْلَتيْ اعْتِراضٍ، والظاهرُ أنَّ قولَه: "لَئِنْ أَقَمْتُمُ" جوابُه: "لأكفرنَّ" كما تقدَّمَ، وجُملةُ هذا القَسَمِ المَشروطِ وجوابُه مفسِّرةٌ لذلك المِيثاقِ المُتَقَدِّمِ. والتعزيرُ: التَعظيمُ، قال:
وكم من ماجدٍ لهُمُ كريمٍ ...................... ومِنْ لَيْثٍ يُعَزَّرُ في النَّدِيِّ
وقيل: هو الثناءُ بخيْرٍ، وهو قريبٌ مِنَ الأوَّلِ. وقيل: هو الرَدُّ عَنِ الظُلْمِ. وقيل: "هو الرَّدْعُ والمَنْعُ" فعلى القَوْلَيْنِ الأوَّليْنِ يَكونُ المَعنى: "وعَظَّمْتُموهم وأَثْنيتم عليْهِمْ خَيْرًا" وعلى الثالثِ والرَّابِعِ يَكونُ المَعنى: ورَدَدْتمْ ورَدَعْتمْ سُفهاءَهم عنهم. وعزَّرْتُ فلانًا: فَعَلْتُ به ما يَرْدَعُه عنِ القبيحِ، مثلَ نَكَّلتُ، فعلى هذا يَكونُ. عَزَّرْتُموهم: رَدَدْتُم عنْهم أعداءَهم. وقرأَ الحَسَنُ البَصري: "بِرُسْلي" بِسُكونِ العينِ حيثُ وَقَعَ. وقَرَأ الجَحْدَرِيُّ: "وعَزَرْتموهم" خيفيفةَ الزايِ وهي لُغةٌ. وقَرَأَ في الفتحِ: "وتَعْزُوروه" بفتحِ حرفِ المُضارعةِ وسُكونِ العينِ وضَمِّ الزايِ، وهي مُوافِقةٌ لقراءتِه هنا.