أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا.
(151)
قولُهُ ـ جَلَّ في عُلاه: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} أُولَئِكَ: التعبيرُ هنا بالإشارةِ لإفادةِ أنَّ هؤلاء الذين قالوا ذلك القولَ، وجَحَدوا ذلك الجُحودَ بهذهِ الأقوالِ وتلك الأحوالِ كافرون كُفْرًّا بَواحًا لا مَجالَ للشَكِّ فيه، وقد أكَّدَ ـ سبحانَه وتعالى ـ الحكمَ عليهم بالكفرِ بثَلاثةِ مؤثِّراتٍ، أوَّلُها: الإتْيانُ بكلمةِ "هم" الدالَّةِ على تأكيدِ الحُكمِ، وقصرهم على الكفر وإثبات أنهم لَا يخرجون عن دائرة الكفار يسارعون فيها ولا ينتقلون منها.
ثانيها: تعريفُ الطَرفيْن، وهم أولئك الجاحدون بالإشارة، والحكمُ بأنَّهمُ الكافرون أَكَّدَ القولَ، وأَفادَ مِنْ قبيلِ المُبالَغةِ في تَأكيدِ الوَصفِ بالكُفْرِ، كأنَّ الكفرَ مقصورٌ عليهم لا يَخرُج عنهم، وهم بذلك أَوغل في الكُفرِ مِنَ الذين لَا يُؤمنونَ بكتابٍ ولا رسولٍ ولا رِسالةٍ؛ إذْ هُم يسلِّمونَ بالأصلِ ويَعرفونَه، ويَكفُرون معَ ذلك بِه، ولا يُطبقونَه.
ثالثها: التعبيرُ بكلِمةِ "حَقًّا"، أيْ أنَّ كفرَهم ثابتٌ قد حُقَّ حَقًّا، أي
هُمُ الكاملون في الكُفرِ، وحقًّا تأكيدٌ لِمَضمونِ الجُملةِ كقولِكَ: "هو عبدُ اللهِ حَقًّا" أيْ حُقَّ ذلك حَقًّا، وهو كونُهم كافرين، أو صفةٌ لِمَصدرِ الكافرين، أيْ همُ الذين كفروا كُفْرًا حقًّا ثابتًا يَقينًا لَا شَكَّ فيه.
والتوكيدُ يكونُ حيثُ مَظَنَّةُ التَردُّدِ في عقولِ الذين قالوا ذلكَ القولَ، فقد حَسِبوا بِقولِهم أنَّهم يُرضونَه بذلك فبيَّنَ اللهُ سبحانَه أنَّه لَا وَسَطَ بيْنَ الإيمانِ الكاملِ والكُفْرِ في شيءٍ، وكفرُ هؤلاءِ سَببُه حَسَدُهم للناسِ على ما آتاهم اللهُ مِنْ فضلِه.
قولُه: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِين عَذَابًا مُّهِينًا} أعتدنا: تعبيرٌ قرآنِيٌّ اخْتَصَّ به القرآنُ، وهو مِن العتاد، أيْ هيَّأْنا للكافرين الذين يَندرجونَ في جمعِهمْ عذابًا مُهينًا يُذيقُهمُ الهَوانَ والذلَّ، على استِكبارِهم في الدنيا، واعتزازهم بالباطل فيها، ويصح أن يقال إن كلمة (الكافرين) لَا تعم كل الكفار، ولكنها تخص الذين ذكروا في الآية السابقة؛ لأن اللفظ إذا أعيد معرفا كان المراد به المذكور أوَّلًا، ويكون تخصيصُهم بالذِّكْرِ، لبيانِ نتيجةِ ما ارتكبوا.
قوله تعالى: {حَقًّا} فيه أَوْجُهٌ، أَحدُهُما: أنَّه مصدرٌ مؤكِّدٌ لِمَضمونِ الجُملةِ قبلَه فيَجبُ إضمارُ عامِلِه وتأخيرُه عنِ الجُملةِ المُؤكِّدِ لها، والتقديرُ: أَحُقُّ ذلك حقًّا، وهكذا كُلُّ مَصدرٍ مُؤكِّدٍ لِغيرِه أوْ لِنفسِه.
والثاني: أنَّه حالٌ مِن قولِه: {هُمُ الكافرون} أي الكافرون مِن غيرِ شَكٍّ، وهذا يُشبهُ أنْ يَكونَ تَفسيرًا للمَصدرِ المُؤكَّدِ. والحقُّ هنا ليس يُرادُ به ما يُقابِلُ الباطلَ، وإنَّما المرادُ به أنَّه ثابتٌ لا مَحالةَ وأنَّ كُفرَهم مقطوعٌ به.
الثالثُ: أنَّه نعتٌ لِمَصْدرٍ محذوفٍ، أي: الكافرون كُفْرًا حقًّا، وهو أيْضًا مَصدَرٌ مُؤكَّدٌ، ولكنَّ الفرقَ بينَه وبينَ الوَجهِ الأوَّلِ أنَّ هذا مذكورٌ عاملُه، وهو اسمُ الفاعلِ، وذاك عاملُه محذوفٌ كما تقدَّمَ.
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً
(152)
قولُهُ تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} يعني بذلك جَلَّ ثناؤه: الذين صدقوا بوحدانية الله، وأقرّوا بِنُبوَّةِ جميعِ رُسُلِه، وصدَّقوهم فيما جاؤوهم بِه منْ عندِ اللهِ مِنْ شرائعِ دينِه، ولم يُفرِّقوا بيْن أحدٍ منهم، وهم أمَّةُ سيدِنا محمَّدٍ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ فهي الأمَّة الوحيدة التي تؤمن بذلك باللهِ وبكلِّ ماجاء من عنده ـ سبحانَه ـ فهم الذين أَقَرُّوا أنَّ كلَّ ما جاء به الرسُلُ ـ عليهمُ الصلاةُ والسلامُ ـ مِن عندِ ربِّهم حقٌّ
قولُه: {أولئك سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وكان الله غفورًا} أيْ هؤلاءِ الذين هذه صِفَتُهم مِنَ المُؤمنين باللهِ ورُسُلِه سوف يُعطيهم جزاءهم وثوابَهم على تصديقِهم الرُسُل في توحيد اللهِ وشرائعِ دينِه، وما جاءتْ بِه من عند الله.
والأجرُ هنا هو الجزاء، وهي رحمة الله تعالى عليهم إذ جعلَ ذلك الثوابَ المُقيمَ، والنعيمَ الدائمَ، جزاءَ العملِ، وهو أكبرُ مِنَ العملِ، بلْ إنَّ الأعمالَ ذاتَها قد يَكون فيها هَفواتٌ تستوجِبُ الحِسابَ ويَتبعُه العِقابُ، ولكنَّ اللهَ تعالى قرَّرَ في كتابه الكريم: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}. ولذلكَ ذُيِّلَتِ الآيةُ بقولِه تَعالى: "وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا" للدَّلالةِ على أنَّ ذلك الثوابَ هو مِن فضلِ اللهِ وسَعَةِ رَحمتِه، ذلك لأنَّه ـ سبحانه ـ مُتَّصِفٌ بالرحمةِ والغُفرانِ الدائمِ.
فقد وصَفَ اللهُ ـ سبحانه وتعالى ـ المؤمنين حقًّا وصِدْقًا بوصفيْن: الوصفُ الأوَّلُ الإيمانُ باللهِ تعالى ورُسُلِه أَجمعين، لَا فَرْقَ بيْن رَسولٍ ورسولٍ، إذِ الجميعُ يُؤدُّون رِسالاتِ ربِّهم ويُبَلِّغونَها، والثاني أنَّهم لم يُفرِّقوا في الإيمان بيْن رَسولٍ ورَسولٍ. وذلك أنَّه حَقٌّ على المؤمنِ أنْ يُؤمِنَ بكلِّ رسولٍ أَرسَلَه اللهُ، كما قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} البقرة: (136).
فإذا كان محمَّدٌ خاتَمَ النَّبيين فرسالتُه مُتَمِّمةٌ للرِّسالات، وهو آخرُ لَبِنةٍ في صَرْحِ النُبُوَّةِ الإلهيَّةِ.
وإذا كان المؤمنونَ حقًّا وصِدْقًا هُمُ الذين يُذعِنون لِما أَمَرَ اللهُ، ويُصدِّقون برسالاته، ويَستجيبون لِدعوةِ رَسولِ اللهِ وهم يُناقِضون الذين فرَّقوا بين رُسُلِه، فجَزاؤهم لِذلك مُختلِفٌ، ولذا قال سبحانَه في هذا الجزاء: "أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا"
قولُه تعالى: {الذين} هذا الاسْمُ الموصولُ مُبتدأٌ خبرُه جملةُ قولِه: "أولئك"
قولُه: {بَيْنَ أَحَدٍ} متعلِّقُ بـ "لا نُفَرِّقُ"، و"أحد" هو الملازِمُ للنفي الذي همزتُه أصليةٌ فهو للعُمومِ وتحتَه أفرادٌ، فلذلك صَحَّ دخولُ "بين" عليه مِنْ غيرِ تقديرِ معطوفٍ نحو: "المالُ بين الناس". أو هو الذي همزتُه بدلٌ مِن واوٍ بمعنى واحد، وعلى هذا فلا بدَّ من تقديرِ معطوفٍ ليَصِحَّ دخولُ "بَيْنَ" على متعددٍ، ولكنَّه حُذِفَ لفَهْمِ المَعْنى، والتقدير: بيْن أَحَدٍ منهم، وقد تقدَّم الكلامُ على مفصّلاً في الآية: 136 من سورةِ البقرةِ لمن أراد المزيد.
وقرأ الجمهور: "سوفَ نُؤتيهم" بنونِ العَظَمَةِ على الالْتفاتِ ولِموافقة قولِه: "وأَعْتدنا" وقرأ حفصٌ عن عاصِمٍ بالياء، فأعادَ الضميرَ على اسْمِ اللهِ تعالى في قوله: "والذين آمَنُواْ بالله" وقولُ بعضِهم: قراءةُ النونِ أَوْلَى لأنَّها أَفخَمُ، ولِمُقابَلةِ "وأعتدنا" ليس بجيِّدٍ لِتواتُرِ القراءتين.
وقد أكَّدَ اللهُ سُبْحانَه وتَعالى الجَزاءَ والثَّوابَ بالتعبيرِ بسوفَ الدالَّةِ على تأكيدٍ الفعلِ في الزمنِ المُستقبَلِ.
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً. (153)
قولُه تبارك وتعالى: {يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ} سَأَلَتِ أحبارُ الْيَهُودِ (كعب وأصحابُه) سَيِّدَنا مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُمْ يَرَوْنَهُ فَيُنَزِّل عَلَيْهِمْ كِتَابًا مَكْتُوبًا فِيمَا يَدَّعِيهِ عَلَى صِدْقِهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، كَمَا أَتَى مُوسَى بِالتَّوْرَاةِ، وَيُقَال أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِم كِتابًا فِيهِ خَيرُهمْ وشرُّهم وثوابُهم وعِقابُهم وذلك تَعَنُّتًا منهم وعُتُوًّا، فقد أخرج ابنُ جريرٍ الطبريُّ عن ابنِ جُريْجٍ قال: إنَّ اليهودَ قالوا لِمُحمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّم: لن نُّبايعَكَ على ما تَدعونا إليْه حتَّى تأتيَنا بكتابٍ مِنْ عندِ اللهِ ـ تعالى ـ مِنَ اللهِ إلى فُلانٍ إنَّكَ رسولُ اللهِ وإلى فلانٍ إنَّك رسولُ اللهِ، وما كان مَقصِدُهم بذلك إلَّا التحكُّمُ والتعنُّتُ، قال الحسنُ: ولو سألوه ذلك اسْتِرشادًا لا عِنادًا لأَعطاهم ما سألوا. وذلك بعدَ أَنْ حاولَ مُشرِكوا مكَّةَ أنْ يَجِدوا في القرآنِ ثُغْرةً فلم يَجِدُوا وهمْ أُمَّةُ فَصاحةٍ وبَلاغَةٍ ولِسانٍ، فاعتَرفوا بِعَظَمَتِهِ بعدَ أنْ نَظَروا إليْه، واعترافُهم بِعَظَمَةِ القرآنِ مَعَ غَيظِهم مِن نُزولِه على رسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ ـ جعلَهم مُضْطَرِبين فِكريًّا، فقالوا مرَّةً: إنَّه سِحْرٌ، ومرَّةً قالوا: إنَّه مِن تلقينِ بعضِ البَشَرِ، وقالوا: إنَّه شِعرٌ، وقالوا: إنَّه مِنْ أَساطيرِ الأوَّلين مرَّةً أخرى. وكُلُّ ذلكَ رَهْبَةً أمامَ عَظَمَةِ القُرآنِ. واعْتَرفوا بأنَّ القرآنَ عظيمٌ، لكنَّ المُشكِلَةَ بالنِسْبَةِ إليْهم أنَّه نَزَلَ على محمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ ـ قالَ تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآنُ على رَجُلٍ مِّنَ القَريَتَيْنِ عَظِيمٍ} الزخرف: 31.
قولُهُ: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} أَعْلَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ آبَاءَهُمْ قَدْ عَنَّتُوا مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ بِأَكْبَرَ مِنْ هَذَا "فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً" أَيْ عِيَانًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ في "البقرة". و"جهرة" أَيْ رُؤْيَةً جَهْرَةً، وقيلَ: أي قولاً جَهْرَة، ويُؤيِّدُ هذا ما أَخرجَه ابْنُ جريرٍ وابْنُ المُنذِرِ عنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنهما ـ أنَّه قال في الآيةِ: إنَّهم إذا رَأوْهُ فقد رَأَوْهُ إنَّما قالوا جَهرةً أَرِنا اللهَ تعالى، فهو مقدَّمٌ ومُؤخَّرٌ، وفيه بُعْدٌ. فَعُوقِبُوا بِالصَّاعِقَةِ لِعِظَمِ مَا جَاءُوا بِهِ مِنَ السُّؤَالِ وَالظُّلْمِ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ. ولو طَلَبوا أَمْرًا جائزًا لما سُمُّوا به ظالمين ولَما أَخَذتْهمُ الصاعقةُ، كما سألَ إبراهيمُ ـ عليه الصلاةُ والسَّلامُ إحياءَ الموتى فلم يُسَمِّهِ ظالِمًا ولا رَماهُ بالصَواعِقِ. وقيل لقد طلبوا أمرًا مستحيلًا بالنسبةِ لِحالهم، وإنكارُ طَلَبِ الكُفَّارِ للرُؤيةِ تَعَنُّتًا لا يَقتَضي امتِناعُها مُطْلَقًا.
قولُه: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} أحرقتهمُ الصاعقةُ، وهي نارٌ جاءتْ مِنَ السَماءِ. وقيلَ أَماتَهم ثمَّ بعثَهم. فقد أخرجَ ابْنُ المُنذِرِ عنِ ابْنِ جُريْجٍ قال، الصاعقة: الموتُ أَماتَهمُ اللهُ تعالى قبلَ آجالِهم، عقوبةً بقولهم، ما شاءَ اللهُ تعالى أنْ يُميتَهم، ثمَّ بَعَثَهم، وفي ثبوتِ ذلك تَرَدُّدٌ.
وهذه العقوبة كانت بسببِ ظُلمِهم بأنْ تَجاوَزوا حَدَّهم فسألوا ما ليسَ مِنْ حَقِّهم أنْ يَسألوهُ. وما طلبوا الرُّؤيةَ على مُوجِبِ التَعظيمِ أوِ على
مُوجِبِ التَصديقِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَأَحْيَيْنَاهُمْ فَلَمْ يَبْرَحُوا فَاتَّخَذُوا الْعِجْلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي "الْبَقَرَةِ".
قولُه: {مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ} أَيِ الْبَرَاهِينُ وَالدَّلَالَاتُ وَالْمُعْجِزَاتُ الظَّاهِرَاتُ مِنَ اليَدِ والعَصا وفَلْقِ البَحْرِ وغيرِها بِأَنَّهُ لَا مَعْبُودَ
إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
قولُه: {فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ} أَيْ تجاوزْنا عنهم بعدَ توبتِهم مع عظم جِنايَتِهم وجَريمتِهم بما كَانَ مِنْهُمْ مِنَ التَّعَنُّتِ. ولم نَستأصِلْهم وكانوا أحقاءَ به. قيلَ هذا استدعاءٌ لهم إلى التوبةِ كأنَّه قيلَ إنَّ أولئك الذين أجرموا تابوا فعفونا عنهم فتُوبوا أنتم أيضًا حتّى نَعفُوَ عنكم. ودَلَّتْ الآيةُ على سَعَةِ رَحمةِ اللهِ ومَغفِرَتِه وتمامِ نِعمتِه ومِنَّتِه وأنّه لا جَريمةَ تَضيقُ عنها مغفرةُ اللهِ وفي هذا مَنعٌ مِن القُنوطِ.
قولُه: {وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِينًا} أَيْ حُجَّةً بَيِّنَةً وَهِيَ الْآيَاتُ الَّتِي جَاءَ بِهَا، وَسُمِّيَتْ سُلْطَانًا لِأَنَّ مَنْ جَاءَ بِهَا قَاهِرٌ بِالْحُجَّةِ، وَهِيَ قَاهِرَةٌ لِلْقُلُوبِ، بِأَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قُوَى الْبَشَرِ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهَا.
قولُه تعالى: {فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ} فقد: الفاءُ هنا عاطفةٌ على جُملةٍ محذوفةٍ، والتقدير: فلا تُبالِ يا مُحمَّدُ بِسُؤالِهم وشَطِطِهِم فإنّها عادتُهم، فقد سألوا موسى أكبرَ مِنْ ذلك. أو أنّها جَوابُ شَرْطٍ مُقدَّرٍ، أي: إنْ اسْتَكْبَرْتَ ما سَألوهُ منكَ فقدْ سَألوا موسى أَكبرَ، و"أكبَرَ" صفةٌ لمحذوفٍ أي: سؤالاً أكبرَ مِنْ ذلك.
وقيل: إنَّ الفاءَ هنا سَببيَّةٌ والتقديرُ لا تُبالِ ولا تَستعظم سؤالَهم فإنَّهم قد سألوا موسى ـ عليه السلامُ ما هو أَكبَرُ، وهذه المَسألةُ وإنْ صَدَرتْ عن أَسلافِهم لكنَّهم لمَّا كانوا على سيرتِهم في كلِّ ما يَأتونَ وما يَذَرون أُسْنِدَ إليهم، وجَعَلَهُ بعضُ المُحَقِّقين مِنْ قَبيلِ إسنادِ ما لِلسَبَبِ للمُسبِّبِ، وجُوِّزَ أنْ يَكونَ مِن إسنادِ فعلِ البَعْضِ إلى الكُلِّ بناءً على كَمالِ الاتِّحادِ نحو قولِ الحارِثِ بْنِ وَعْلَةَ الذُّهْلِيِّ:
قومي هُمْ قَتَلوا أُمَيْمَ أَخي .................... فإذا رَمَيْتُ يُصيبُني سَهمي
فيكونُ المُرادُ بضميرِ سَأَلوا جميعَ أهلِ الكِتابِ لِصُدورِ السُؤالِ عن بعضِهم، وأنْ يَكونَ المُرادُ بأهلِ الكِتابِ أيضًا الجميعَ فيكون إسنادُه يَسألُك إلى أَهلِ الكِتابِ مِنْ ذلك الإسْنادِ، وأنْ يَكونَ المُرادُ بِهم هذا النوعَ، ويكونُ المُرادُ بيانَ قبائحِ النوعِ فلا تَكَلُّفَ ولا تَجَوُّزَ لا في جانبِ الضَميرِ ولا في المَرْجِعِ. وأنتَ تعلم أنَّ إسنادَ فعلِ البَعضِ إلى الكُلِّ ممّا أُلِفَ في الكِتابِ العَزيزِ، ووَقَعَ في نَحْوِ أَلْفِ مَوْضِعٍ.
وقرأَ الجمهورُ: "أكبرَ" بالباء المُوَحَّدَةِ، وقِراءةُ الحَسَنِ "أكثر" بالثاءِ المُثَلَّثةِ.
وقولُه: {فقالوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً} قالوا أرنا: جُملةٌ مُفَسِّرَةٌ لِكِبَرِ السُّؤالِ وعَظَمَتِه. و"جَهْرَةً" تقدَّم الكلامُ عليْها، في سورةِ البقرة: 55. إلّا أنَّه هنا يَجوزُ أنْ تَكونَ "جهرةً" مِنْ صِفَةِ القولِ أوْ السؤالِ أو مِنْ صِفَةِ السائلين أي: فقالوا مُجاهرين أو: سألوا مُجاهرين، فتكون في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ أوْ على المَصدَرِ. وقرَأَ الجُمهورُ "الصاعقةُ" وقَرَأَ النُخَعِيُّ: "الصَّعْقةُ" وقد تقدَّمَ تحقيقُ ذلك في سورةِ البَقَرةِ.
قولُه: {بِظلمِهم} الباءُ فيه سببيَّةٌ، وتتعلَّقُ بالأخْذِ.
وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً.
(154)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ} الطورُ: جَبَلٌ كانوا في أَصلِه فرفَعَه اللهُ تعالى فجعلَه فوقَهم كأنَّه ظُلَّةٌ، وكان كَمُعَسْكَرِهم قَدْرَ فَرسَخٍ في فَرسَخٍ وليس هو الجبلُ المعروفُ بطورِ سيناءَ، قاله قتادة. "بميثاقهم" أَيْ بِسَبَبِ نَقْضِهِمُ الْمِيثَاقَ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُمْ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ، أو بسببِ ميثاقِهم ليُعطوه على ما رُويَ أنَّهم امْتَنعوا عن قبولِ شريعةِ التوراة فَرُفِعَ عليهم فقَبِلوها، أو لِيَخافوا فلا يَنقُضوا المِيثاق على ما روي أنهم همَّوا بنقضِهِ فَرُفِعَ عليهِمُ الجَبلَ فخافوا وأَقلعوا عنِ النَّقضِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ رَفْعُ الْجَبَلِ وَدُخُولُهُمُ الباب في سورة "البقرة".
وزَعَمَ الجِبائي أنَّ المُرادَ بنقضِ ميثاقِهم الذي أخَذَ عليهم بأنْ يَعمَلوا بما في التوراةِ فنَقَضوه بعبادَةِ العِجلِ، وفيه إنَّ التوراةَ إنَّما نَزَلَتْ بعدَ عِبادتِهمُ العِجلَ كما مَرَّ آنفًا فلا يَتأتَّى هذا، وقال أبو مُسْلِمٍ: إنَّما رَفَعَ اللهُ تعالى الجبلَ فوقَهم إظلالًا لهم مِنَ الشمسِ جَزاءً لِعهدِهم وكرامةً لهم، ولا يَخفى أنَّ هذا خَرْقٌ لإجْماعِ المفسِّرين، وليس له مُستَنَدٌ أصلًا.
قولُه: {وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً} يَعْنِي الْعَهْدَ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ. وَقِيلَ: عَهْدٌ مُؤَكَّدٌ بِالْيَمِينِ فَسُمِّيَ غَلِيظًا لِذَلِكَ.
قولُه: {وَقُلْنَا لَهُمُ} على لسانِ يُوشَعَ ـ عليه السلامُ ـ بعد مُضيِّ زمانِ التِيهِ
قولُه: {ادْخُلوا البابَ} قال قَتادةُ فيما رواهُ ابْنُ المُنذِرِ وغيرُه عنه: كنّا نتحدَّثُ أنَّه بابٌ من أَبوابِ بيتِ المَقدِسِ، وقيل: هو إيلياءُ، وقيل: أريحاءُ، وقيل: هو اسمُ قريةٍ. أو: قلنا لهم على لِسانِ موسى ـ عليه السلام ـ والطورُ مُظِلٌّ عليهمُ ادْخُلوا البابَ المذكورَ إذا خَرَجْتم مِنَ التِيهِ، أو بابَ القُبَّةِ التي كانوا يُصَلُّون إليْها لأنَّهم لم يَخرُجوا مِنَ التِيهِ في حياتِه ـ عليْه السلامُ ـ والظاهرُ عدمُ القيدِ {سُجَّدًا} مُتطامِنينَ خاضعين، وعنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنهما ـ رُكَّعًا، وقيلَ: ساجدين على جباهِكم شُكرًا للهِ تعالى.
قولُه: {وَقُلْنَا لَهُمُ لاَ تَعْدُواْ فِى السبتِ} على لسانِ داوودَ ـ عليْه السَّلامُ. "لاَ تَعْدُواْ" أي لا تتجاوزوا ما أُبيحَ لكم، أو لا تظلموا باصطياد الحيتان "فِى السبت" ويحتمل أنْ يُرادَ على لسان موسى ـ عليه السلام ـ حين ظُلِّلَ الجبلُ عليهم فإنَّه شُرِعَ السبتُ لكن كان الاعتداءُ فيه، والمَسْخُ في زَمَنِ داوودَ ـ عليه السلام.
قولُه تعالى: {فَوْقَهُمُ} متعلِّقٌ بـ "رَفَعْنا" ويجوز أن يكونَ متعلِّقًا بمحذوفٍ لأنَّه حالٌ مِنَ الطُورِ. و"بميثاقهم" متعلقٌ أيضًا بالرفعِ، والباءُ للسببيَّةِ، قالوا: وفي الكلامِ حذفُ مضافٍ تقديرُه: بنقضِ ميثاقِهم، والميثاق مصدرٌ مضافٌ لِمَفعولِه. و"سُجَّدًا" حالٌ من فاعل "ادخلوا".
قولُه: {لاَ تَعْدُواْ} قرَأَ الجُمهورُ "تَعْدُوا" بسكونِ العينِ وتَخفيفِ الدالِ مِنْ عَدا يَعدو، كغَزا يَغزو، والأصل: "تَعْدُوُوا" بواوين: الأُولى لامُ الكَلِمَةِ والثانيةُ ضميرِ الفاعِلين، فاسْتُثْقِلَتْ الضمَّةُ على لامِ الكَلِمَةِ فَحُذِفَتْ، فالْتَقى بِحَذْفِها ساكنان، فحُذِفَ الأوَّلُ وهو الواوُ الأُولى، وبَقيتْ واوُ الفاعلين، فوَزْنُه: تَفْعَوا.
وقرأَ نافع بفتحِ العين وتشديدِ الدال، إلَّا أنَّ الرُواةَ اخْتَلفوا عن قالون عن نافع: فرَوُوا عنه تارةً بِسُكونِ العينِ سُكونًا مَحْضًا، وتارةً إخفاء فتحة العَيْن. فأمَّا قراءةُ نافع فاصلُها: تَعْتَدوا، ويَدُلُّ على ذلك إجماعُهم على: {اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت} البقرة: 65. كونِه من الاعتِداءِ وهو افتعالٌ مِنَ العُدوانِ، فأُريدَ إدْغامُ تاءِ الافْتِعالِ في الدالِ فنُقِلَتْ حركتُها إلى العين وقُلِبتْ دالًا وأُدغِمتْ. وهذه قراءةٌ واضحةٌ. وأمَّا ما يُرْوى عن قالون مِنْ السكونِ المَحضِ فشيءٌ لا يَراه النَحويّون لأنَه جَمْعٌ بيْن ساكنيْن على غيرِ حَدِّهما. وأمَّا الاختلاسُ. فهو قريبٌ للإِتيان بحركةٍ ما، وإنْ كانت خفيَّةً، إلَّا أنَّ الفَتحةَ ضعيفةٌ في نفسِها فلا يَنبغي أنْ تُخْفى لِتُزادَ ضعفًا، ولذلك لمْ يُجِزِ القرّاءُ رَوْمَها وقفًا لِضَعفِها. وقرأ الأعمشُ: "تَعْتَدُوا" بالأصلِ الذي
أَدغَمُه نافع.
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً.
(155)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ} فَسَّرَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ حَمْزَةَ الْكِسَائِي ظُلْمَهُمُ الَّذِي أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ مِنْ أَجْلِهِ بِمَا بَعْدَهُ مِنْ نَقْضِهِمُ الْمِيثَاقَ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ وَسَائِرِ مَا بَيَّنَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ظَلَمُوا فِيهَا أَنْفُسَهُمْ. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ، لِأَنَّ الَّذِينَ أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ كَانُوا عَلَى عَهْدِ مُوسَى، وَالَّذِينَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ وَرَمَوْا مَرْيَمَ بِالْبُهْتَانِ كَانُوا بَعْدَ مُوسَى بِزَمَانٍ، فَلَمْ تَأْخُذِ الصَّاعِقَةُ الَّذِينَ أَخَذَتْهُمْ بِرَمْيِهِمْ مَرْيَمَ بِالْبُهْتَانِ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ وَغَيْرُهُ: وَهَذَا لَا يَلْزَمُ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَ عَنْهُمْ وَالْمُرَادُ آبَاؤُهُمْ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ". وقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى فَبِنَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ، لِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُمْتَدَّةٌ إِلَى قَوْلِهِ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا} النساء: 160. وَنَقْضِهِمُ الْمِيثَاقَ أَنَّهُ أُخِذَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُبَيِّنُوا صِفَةَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَبِنَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَفِعْلِهِمْ كَذَا وَفِعْلِهِمْ كَذَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَبِنَقْضِهِمْ لا يؤمنون إلَّا قليلًا، والفاء مقحمة.
قولُه: {وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} وكُفْرِهِمْ: عطفٌ، وكذا "وقَتْلِهِمُ". والمراد "بِآياتِ اللَّهِ" كتبُهم التي حرَّفوها. و"غُلْفٌ" جَمْعُ غِلَافٍ، أَيْ قُلُوبُنَا أَوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى عِلْمٍ سِوَى مَا عِنْدَنَا. وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ أَغْلَفَ وَهُوَ الْمُغَطَّى بِالْغِلَافِ، أَيْ قُلُوبُنَا فِي أَغْطِيَةٍ فَلَا نَفْقَهُ مَا تقول، وهو كقوله: {قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ} فُصِّلت: 5. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي "الْبَقَرَةِ" وَغَرَضُهُمْ بِهَذَا دَرْءُ حُجَّةِ الرُّسُلِ. وَالطَّبْعُ الْخَتْمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي "الْبَقَرَةِ". "بِكُفْرِهِمْ" أَيْ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، كَمَا قَالَ: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} البقرة: 88. أَيْ إِلَّا إِيمَانًا قَلِيلًا أَيْ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَلِكَ غَيْرُ نَافِعٍ لَهُمْ. ثُمَّ كَرَّرَ "وَبِكُفْرِهِمْ" لِيُخْبِرَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا كُفْرًا بَعْدَ كُفْرٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى "وَبِكُفْرِهِمْ" بِالْمَسِيحِ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، وَالْعَامِلُ فِي "بِكُفْرِهِمْ" هُوَ الْعَامِلُ فِي "نَقْضِهِمْ" لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهِ "طَبَعَ". وَالْبُهْتَانُ الْعَظِيمُ رَمْيُهَا بِيُوسُفَ النَّجَّارِ وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ مِنْهُمْ. وَالْبُهْتَانُ الْكَذِبُ الْمُفْرِطُ الَّذِي يُتَعَجَّبُ مِنْهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أعلم.
قولُه تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ} ما: هذه زائدةٌ بين الجارِّ ومَجرورِه تأكيدًا، أو هي نَكِرَةٌ تامَّة، و"نقضِهم" بدلٌ منه، كما تقدَّمَ في {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ} آل عمران : 159. و"نقض" مصدرٌ مُضافٌ لِفاعِلِهِ، و"ميثاقَهم" مَفعولُه، والباءُ الجارَّةِ لـ "ما" إمَّا متعلِّقةٌ بـ "حَرَّمنا" المُتأخِّرِ في قولِه: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا} النساء: 160. وعلى هذا فيُقالُ: "فبظلمٍ" مُتَعلِّقٌ بـ "حَرَّمْنا" أيضًا، فيَلزَمُ أنْ يَتَعلَّقَ حرفا جَرٍّ مُتَّحِدان لَفْظًا ومعنًى بعاملٍ واحدٍ، وذلك لا يَجوزُ إلَّا مَعَ العَطْفِ أو البَدَلِ. وأجابوا عنْه بأنَّ قولَه "فبظلمٍ" بدلٌ مِنْ قولِه "فبما" بإعادةِ العاملِ. فيُقالُ: لو كان بَدَلًا لَما دَخَلَتْ عليْه فاءُ العَطفِ؛ لأنَّ البدلَ تابعٌ بنفسِه مِنْ غيرِ توسُّطِ حرفِ عطفٍ. وأُجيبَ عنه بأنَّه لَمَّا طالَ الكلامُ بين البدلِ والمُبدَلِ منْه أَعادَ الفاءَ للطُولِ، ذكر ذلك ابو البقاء والزجاج والزمخشري وأبو بكر وغيرهم. وقد رَدَّه الشيخُ بما مَعناهُ أنَّ ذلك لايَجوزُ لِطولِ الفصلِ بينَ المُبدَلِ والبَدَلِ، وبأنَّ المَعطوفَ على السَبَبِ سببٌ فيلزَمُ تأخُّرُ بعضِ أجزاءِ السَبَبِ الذي للتَحريمِ في الوقتِ عنْ وقتِ التحريمِ، فلا يُمكِنُ أنْ يَكونَ سببًا أو جُزْءَ سببٍ إلَّا بتأويلٍ بعيدٍ، وذلك أنَّ قولَهم: {إنَّا قَتَلْنا المسيحَ} وقولَهم على مريم البهتانَ إنَّما كان بعدَ تَحريمِ الطَيِّباتِ. قال: فالأَوْلى أنْ يَكونَ التقديرُ: لَعَنَّاهم. وقد جاء مصرَّحًا بِه في قولِه: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ}.
ويمكن أنْ نُعلِّقَ الباء الجارَّة لـ "ما" بمحذوفٍ، قدَّرَهُ ابْنُ عَطيَّةَ: "لَعنَّاهم وأَذْلَلْناهم وختمنا على قلوبهم". قال: وحَذْفُ جَوابِ مثلِ هذا الكلامِ بليغٌ، وتَسمِيَةُ مثل هذا "جواب" غيرُ معروفٍ لُغةً وصِناعة. وقَدَّره أبو البقاء: فبما نقضِهم ميثاقَهم طُبِعَ على قلوبهم، أو لُعِنوا. وقيل: تقديرُه: فبما نقضِهم لا يؤمنون، والفاءُ زائدةٌ.
وقد تعرَّضَ الزَّمخشريُّ لما أجازه أبو البقاءِ ورَدَّه فقال: فإنْ قلتَ: فهلاَّ زَعَمْتَ أنَّ المَحذوف الذي تعلَّقَتْ به الباءُ ما دلَّ عليه قولُه "بل طَبَع اللَّهُ" فيكون التقديرُ: فبِما نقضِهم طَبَعَ اللَّهُ على قلوبِهم، بلْ طَبَعَ اللهُ عليها بكفرِهم رَدٌّ وإنْكارٌ لقولهم: "قلوبُنا غُلْفٌ" فكانَ متعلِّقًا به. قال الشيخ: وهو جوابٌ حَسَنٌ، ويَمتَنِعُ مِنْ وجهٍ آخرَ وهو أنَّ العَطفَ بـ "بل" للإِضرابِ، والإِضرابُ إبطالٌ أو انتقالٌ، وفي كتابِ اللهِ في الإِخبارِ لا يكونُ إلَّا للانتقالِ، ويُسْتفادُ مِنَ الجُملةِ الثانيةِ ما لايُسْتفادُ مِنَ الأُولى، والذي قَدَّرَهُ الزَمخشريُّ لا يَسُوغُ فيه الذي قرَّرناه، لأنَّ قولَه "فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله وَقَتْلِهِمُ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله" هو مدلولُ الجُملةِ التي صَحِبتْها "بل" فأفادَتِ الثانيةُ ما أفادتِ الأُولى، ولو قلتَ: مَرَّ زيدٌ بعمرٍو، بلْ مَرَّ زيدٌ بعمرٍو، لم يَجُزْ. وقَدَّره الزمخشريُّ "