الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً. (141)
قولُه ـ سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} خطابٌ للمؤمنين الصادقين بِلا خلافٍ، يُخْبِرُهم اللهُ تَعَالَى: أنَّ المُنَافِقِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِهم دَوَائِرَ السَّوْءِ، وَيَنْتَظِرُونَ زَوَالَ دَوْلَةِ الإِسْلاَمِ، وَظُهُورَ الكُفْرِ عَلَيهِمْ، وَذَهَابَ مِلَّتِهِمْ.
قولُه: {فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ} الفاءُ لِترتيبِ مضمونِ هذه الآيةِ على ما قبلَها فإنَّ حِكايةَ تَرَبُّصِهم مُسْتَتْبِعةٌ لِحكايةِ ما يَقَعُ بعدَ ذلك، أيْ فإنِ اتَّفَقَ لَكم فتحٌ وظَفَرٌ على الأعداءِ ونَصَرٌ من اللهِ وَفَتحٌ عَلَيهِم، وَاسْتِحْواذٌ عَلَى الغَنَائِمِ.
قوله: {قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ مُتَوَدِّدِينَ إِلَيْهِمْ: ألَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ وَإذاً فَنَحْنُ نَسْتَحِقُّ نَصِيبًا مِنَ المَغْنَمِ الذِي حُزْتُمُوهُ.
قولُه: {وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ} وَإذَا كَانَ النَّصْرُ وَالغَلَبَةُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ كَمَا وَقَعَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ.
قوله: {قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} قَالُوا لِلْكَافِرِينَ المُنْتَصِرِينَ: أَلَمْ نُسَاعِدْكُمْ فِي البَاطِنِ وَنَحْمِكُمْ، وَنُخَذِّلِ المُؤْمِنِينَ عَنْ قِتَالِكُمْ ونُطلِعَكم على أَسرارِ محمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ وأصحابه ـ ونَكتُبْ إليْكم بأخبارِهم حَتَّى انْتَصَرْتُمْ عَلَيهِم حَتَّى هَابَكُمُ الْمُسْلِمُونَ وكانت لكم الغلبةُ عليهم.
قولُه: {وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ المؤمنين} أيْ نَدْفَعُ عنكم صَوْلَةَ المؤمنين بِتَخذيلِنا إيَّاهم وتَثبيطِنا لهم وتوانِينا في مُظاهرتِهم وإلقائنا عليهم ما ضَعُفتْ بِه قلوبُهم عن قِتالِكمْ فاعْرِفوا لَنا هذا الحقَّ عليكم وهاتوا نَصيبَنا ممّا أَصَبْتم. وقيل: المَعنى أَلمْ نَغْلِبْكُمْ على رَأيِكُمْ بالمُوالاةِ لكم ونَمْنَعْكم مِنَ الدُخولِ في جُملةِ المؤمنين وهو خلافُ الظاهرِ.
ولقد سُمِّيَ ظَفَرُ المسلمين فَتْحًا وما للكافرين نصيبًا لِتعظيمِ شأنِ المسلمين وتَخسيسِ حَظِّ الكافرين، وقيلَ: سُمِّيَ الأَوَّلُ فَتْحًا إشارةً إلى أَنَّه مِنْ مَداخِل فتحِ دارِ الإسلامِ بخِلافِ ما للكافرين فإنَّه لا فَتْحَ لهم في اسْتيلائهم بَلْ سَيَنْطَفِىءُ ضياءُ ما نالوا.
قولُه: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} فيُثيبُ أَحِبَّاءَهُ ويُعاقِبُ أعداءه، وبذلك يَعِدُ اللهُ المؤمنين بِحُسْنِ الثوابِ، ويَتَوَعَّدُ المُنَافِقِينَ بسوء العاقِبَةِ والعِقابِ، وبِأَنَّهُ سَيُحَاسِبُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ حِسَابًا عَسِيرًا عَلَى بَوَاطِنِهِمْ، وَلَنْ يَنْفَعَهُمْ تَظَاهُرُهُمْ بِالإِسْلاَمِ وَالإِيمَانِ وَنِفَاقُهُمْ، وَأنَّهُ سَيَحْكُمُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَبَيْنَ المُنَافِقِينَ، الذِينَ يُبْطِنُونَ الكُفْرَ، وَيُظْهِرُونَ الإِيمَانَ، وَيُجَازِي كُلًّا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ. وقيل: في الكلامِ تغليب، وقيل: حذفٌ أيْ بينَكم وبينَهم.
قَوْلُهُ: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا" لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ تَأْوِيلَاتٌ خَمْسٌ: أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ عَنْ يُسَيْعَ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ: "وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا" كَيْفَ ذَلِكَ، وَهُمْ يُقَاتِلُونَنَا وَيَظْهَرُونَ عَلَيْنَا أَحْيَانًا! فَقَالَ كرَّمَ اللَّهُ وجهَهُ: مَعْنَى ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمَ الْحُكْمِ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَاكَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَبِهَذَا قَالَ جَمِيعُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا ضَعِيفٌ: لِعَدَمِ فَائِدَةِ الْخَبَرِ فِيهِ، وإنْ أَوْهَمَ صَدْرُ الْكَلَامِ مَعْنَاهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَخَّرَ الْحُكْمَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ فِي الدُّنْيَا دُوَلًا تَغْلِبُ الكفارُ تارةً وتُغْلَبُ أُخرى، بِمَا رَأَى مِنَ الْحِكْمَةِ وَسَبَقَ مِنَ الْكَلِمَةِ. ثُمَّ قَالَ: "وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا" فَتَوَهَّمَ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ آخِرَ الْكَلَامِ يَرْجِعُ إِلَى أَوَّلِهِ، وَذَلِكَ يُسْقِطُ فَائِدَتَهُ، إِذْ يَكُونُ تَكْرَارًا. ثانيها: إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْعَلُ لَهُمْ سَبِيلًا يَمْحُو بِهِ دَوْلَةَ الْمُؤْمِنِينَ، ويُذْهِبَ آثارَهم وَيَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي أَلَّا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ وَأَلَّا يُسَلَّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَلَّا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَلَّا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا)). الثَّالِثُ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَجْعَلُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا مِنْهُ إِلَّا أَنْ يَتَوَاصَوْا بِالْبَاطِلِ، وَلَا يَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَتَقَاعَدُوا عَنِ التَّوْبَةِ، فَيَكُونُ تَسْلِيطُ الْعَدُوِّ مِنْ قِبَلِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} الشورى: 30. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ ـ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ ((حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا)). وَذَلِكَ أَنَّ (حَتَّى) غَايَةٌ، فَيَقْتَضِي ظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ فَيَسْتَبِيحُهُمْ إِلَّا إِذَا كَانَ مِنْهُمْ إِهْلَاكُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَسَبْيُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، الرَّابِعُ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَجْعَلُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا شَرْعًا، فَإِنْ وُجِدَ فَبِخِلَافِ الشَّرْعِ. الْخَامِسُ: "وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا" أَيْ حُجَّةً عَقْلِيَّةً وَلَا شَرْعِيَّةً يَستَظهِرون بِها إلَّا أَبْطَلَها ودَحَضَتْ.
قوله تعالى: {الذين يَتَرَبَّصُونَ} في إعراب الاسمِ الموصولِ "الذين" ستةُ أوجُهٍ، أحدُها: أنَّه بدلٌ منْ قولِه: {الذين يَتَّخِذُونَ} فيجيء فيه الأوْجُه المذكورة هناك. الثاني: أنَّه نعتٌ للمنافقين على اللفظِ فيكون مجرورَ المَحَلِّ. الثالث: أنّه تابعٌ لهم على الموضعِ فيكونُ منصوبَ المَحلِّ، وقد تقرَّرَ أنَّ اسمَ الفاعلِ العاملَ إذا أُضيفَ إلى معمولِه جازَ أنْ يُتْبَعَ معمولُه لَفظاً ومَوضِعًا، تقولُ: هذا ضاربٌ هندٍ العاقلةِ والعاقلةَ. بجرِّ العاقلةِ ونصبِها. الرابع: أنَّه منصوبٌ على الذمِّ، أي: أَذُمُّ الذينَ. الخامس: أنَّه خبرُ مبتدأ مضمر أي: همُ الذين. السادس: أنَّه مبتدأٌ والخبرُ قولُه: "فإنْ كان لكم فتحُ" وهذا ضعيفٌ لِنُبُوِّ المعنى عنه ولزيادةِ الفاءِ في غيرِ محلِّها، لأنَّ هذا الموصولَ غيرُ ظاهرِ الشبَهِ باسْمِ الشَرطِ.
قولُه: {وَنَمْنَعْكُمْ} الجمهورُ على جزمِهِ عطفًا على ما قبله. وقرأ ابْنُ أبي عَبلةَ بنصبِ العينِ وهي ظاهرةٌ، فإنّه على إِضمارِ "أن" بعدَ الواوِ المُقتَضِيَةِ للجمعِ في جوابِ الاسْتِفهامِ كقولِ الحُطيئةِ:
ألم أكُ جارَكمْ ويكونَ بيني ...................... وبينكمُ المودةُ والإخاءُ
وعَبَّر ابْنُ عَطيَّةَ بِعبارةِ الكُوفيّين فقال: بفتحِ العينِ على الصَرْفِ، ويَعنونَ بالصرفِ عدمَ تَشريكِ الفعلِ مَعَ ما قبلَه في الإِعراب. وقرأ أُبَي: "ومنعناكم" فعلًا ماضيًا وهي ظاهرةٌ أيضًا لأنَّه حُمِلَ على المعنى، فإنَّ معنى "ألم نستحوذْ": إنَّا قد استحوذْنا، لأنَّ الاسْتِفهامَ إذا دَخَلَ على نَفيٍ قَرَّرَه، ومثلُه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا} الشرح: 1 ـ 2. لَمَّا كان "ألم نشرحْ" في معنى "قد شرحنا" عُطِفَ عليه "ووضَعْنا".
ونَسْتَحْوذُ واسْتَحْوَذَ مِمَّا شَذَّ قياسًا وفَصُحَ استعمالًا لأنَّه مِنْ حقِّهِ نَقْلُ حركةِ حرفِ عِلَّتِه إلى الساكنِ قبلَها، وقَلْبُها ألفًا كاسْتَقامَ واسْتَبان وبابِه، وقد قُدِّمَ تحقيقُ هذا في قولِه: {نَسْتَعِينُ} الآية: 5. في الفاتحة، وقد شَذَّتْ معَه الفاظٌ أُخَرُ نحو: أَغْمَيتْ وأَغْيلتْ المرأةُ وأَخْيَلتْ السماءُ، قَصَرَها النَّحْويُّون على السَماعِ ، وقاسَها أبو زيدٍ. والاسْتِحْواذُ: التَغَلُّبُ على الشيءِ والاسْتِيلاءُ عليه. ومنه: {استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان} المُجادِلةُ: 19. ويُقالُ: "حاذَ وأَحاذَ" بمعنى، والمصدُرُ الحَوْذُ.
وقوله: {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} قيل: هنا معطوفٌ محذوفٌ أي: وبَيْنَهم كقول النابغةِ:
فما كانَ بين الخيرِ لو جاءَ سالمًا ............... أبو حُجُرٍ إلَّا لَيالٍ قَلائِلُ
أي: وبيني، والظاهرُ أنَّه لا يَحْتاجُ لذلك، لأنَّ الخِطابَ في "بينكم" شاملٌ للجَميعِ، والمرادُ المُخاطَبون والغائبون، وإنَّما غَلَّبَ الخِطابَ لِما عَرَفْتَ مِن لُغةِ العَرَبِ. قولُه: "عَلَى المؤمنين" يَجوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بالجَعْلِ، ويَجوزُ أَنْ يَتَعلَّقَ بمحذوفٍ؛ لأنَّه في الأصلِ صفةٌ لـ "سبيلًا" فلمَّا قُدِّمَ عليْه انْتَصَبَ حالًا عنه.
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا
كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً.
(142)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ} قَدْ مَضَى فِي (الْبَقَرَةِ) مَعْنَى الْخَدْعِ. وَالْخِدَاعُ مِنَ اللَّهِ مُجَازَاتُهُمْ عَلَى خِدَاعِهِمْ أَوْلِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ. قَالَ الْحَسَنُ: يُعْطَى كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ مُؤْمِنٍ ومنافقٍ نوراً يومَ القيامةِ فيَفرحُ الْمُنَافِقُونَ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا، فَإِذَا جَاءُوا إِلَى الصِّرَاطِ طُفِئَ نُورُ كُلِّ مُنَافِقٍ، فَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: {انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} الحديد: 13.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى} أَيْ يُصَلُّونَ مُرَاءَاةً وَهُمْ مُتَكَاسِلُونَ مُتَثَاقِلُونَ، لَا يَرْجُونَ ثوابًا ولا يَعتقِدون على تَرْكَهَا عِقَابًا. وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ: ((إِنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ الْعَتَمَةُ وَالصُّبْحُ)). فَإِنَّ الْعَتَمَةَ تَأْتِي وَقَدْ أَتْعَبَهُمْ عَمَلُ النَّهَارِ فَيَثْقُلُ عَلَيْهِمْ الْقِيَامُ إِلَيْهَا، وَصَلَاةُ الصُّبْحِ تَأْتِي وَالنَّوْمُ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ. وَالرِّيَاءُ: إِظْهَارُ الْجَمِيلِ لِيَرَاهُ النَّاسُ، لَا لِاتِّبَاعِ أَمْرِ اللَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِقِلَّةِ الذِّكْرِ عِنْدَ الْمُرَاءَاةِ وَعِنْدَ الْخَوْفِ. وَقَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ذَامًّا لِمَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ: ((تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ ـ ثَلَاثًا ـ يَجْلِسُ أَحَدُهُمْ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشيطان ـ أوعلى قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا)). رَوَاهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ. فَقِيلَ: وَصَفَهُمْ بِقِلَّةِ الذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ بِقِرَاءَةٍ وَلَا تَسْبِيحٍ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَذْكُرُونَهُ بِالتَّكْبِيرِ. وَقِيلَ: وَصَفَهُ بِالْقِلَّةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُهُ. وَقِيلَ: لِعَدَمِ الْإِخْلَاصِ فِيهِ. وهنا مسألتان:
الْأُولَى: بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ صَلَاةَ الْمُنَافِقِينَ، وَبَيَّنَهَا رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَمَنْ صَلَّى كَصَلَاتِهِمْ وَذَكَرَ كَذِكْرِهِمْ لَحِقَ بِهِمْ فِي عَدَمِ الْقَبُولِ، وَخَرَجَ مِنْ مُقْتَضَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ} المؤمنون: 1و2. وَسَيَأْتِي. اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ فَيُقْتَصَرُ عَلَى الْفَرْضِ حَسَبَ مَا عَلَّمَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ رَآهُ أَخَلَّ بِالصَّلَاةِ فَقَالَ لَهُ: ((إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثمَّ اسْتَقْبِلِ القِبلةَ فكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا)). رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ. وَقَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ)). وَقَالَ: ((لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ فِيهَا صُلْبَهُ. الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، يَرَوْنَ أَنْ يُقِيمَ الرَّجُلُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: مَنْ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ، لِحَدِيثِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ فِيهَا صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ)). وَذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ. وَهِيَ رِوَايَةٌ عِرَاقِيَّةٌ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنَ الْمَالِكِيِّينَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِهَا. وَقَدْ مَضَى فِي (الْبَقَرَةِ) هَذَا الْمَعْنَى. الثَّانِيةُ: قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ مَنْ صَلَّى صَلَاةً لِيَرَاهَا النَّاسُ وَيَرَوْنَهُ فِيهَا فَيَشْهَدُونَ لَهُ بِالْإِيمَانِ، أَوْ أَرَادَ طَلَبَ الْمَنْزِلَةِ وَالظُّهُورَ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ وَجَوَازِ الْإِمَامَةِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِالرِّيَاءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَرَجٌ، وَإِنَّمَا الرِّيَاءُ الْمَعْصِيَةُ أَنْ يُظْهِرَهَا صَيْدًا لِلنَّاسِ وَطَرِيقًا إِلَى الْأَكْلِ، فَهَذِهِ نِيَّةٌ لَا تُجْزِئُ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ.
وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الرِّيَاءَ يَدْخُلُ الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: "وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا" فَعَمَّ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّمَا يَدْخُلُ النَّفْلَ خَاصَّةً، لِأَنَّ الْفَرْضَ وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ وَالنَّفْلُ عُرْضَةٌ لِذَلِكَ. وَقِيلَ بِالْعَكْسِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْتِ بِالنَّوَافِلِ لَمْ يؤاخذ بها.
قولُه: {يُرَاءونَ الناس} ليحسبوهم مؤمنين، والمراآة مفاعلةٌ مِن الرُؤيَةِ، إمَّا بِمَعنى التَفعيلِ لأنَّ "فاعل" بمعنى "فِعلٍ" واردٌ في كلامِهم كَ "نِعْمَ" و"ناعِم"، أو للمُقابَلَةِ لأنَّهم لِفِعْلِهم في مَشاهِدِ الناسِ يَروْن الناسَ والناسُ يَروْنَهم وهم يَقصُدون أنْ تُرى أَعمالُهم والناسُ يَسْتَحِسِنونَها، فالمُفاعَلَةُ في الرُؤيةِ مُتَّحِدةٌ وإنَّما الاخْتِلافُ في مُتَعَلَّقِ الإراءَةِ، فلا يُرَدُّ على هذا الشِقِّ أنَّ المُفاعَلَةَ لا بُدَّ في حقيقتِها مِنِ اتِّحاذِ الفِعلِ ومُتَعَلَّقِهِ.
قولُه: {وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً} أيْ ولا يَذكرونَه سُبحانَه مُطلَقًا إلَّا زَمانًا قليلًا، أو إلَّا ذِكْرًا قليلًا إذِ المُرائي لا يَفعلُ إلَّا بِحَضْرَةِ مَن يُرائيه، وهو أقلُّ أَحوالِه، أوْ لأنَّ ذِكرَهم باللِّسانِ قليلٌ بالنِسبَةِ إلى الذِكْرِ بالقَلْبِ، وقيل: إنَّما وُصِفَ بالقِلَّةِ لأنَّه لَم يُقْبَلْ، وكُلُّ ما لَمْ يَقْبَلْهُ اللهُ تعالى قليلٌ وإن كان كثيرًا، ورُوِيَ ذلك عن قَتادَةَ، وأَخرَجَ البيهقِيُّ وغيرُه عن الحَسَن ما بِمعناه. وأَخرَجَ ابْنُ المُنذِرِ عنْ عليٍّ ـ كَرَّمَ اللهُ تَعالى وجْهَهُ أنَّه قال: لا يَقِلُّ عَمَلٌ معْ تَقوى وكيف يَقِلُّ ما يُتَقَبَّلُ؟. وقيلَ: المُرادُ بالذِكْرِ الذِكْرُ الواقعُ في الصَلاةِ نحو التَكبيرِ والتَسبيحِ.
وقولُه تعالى: {يُخَادِعُونَ }: قد تَقدَّمَ اشْتِقاقُه ومعنى المُفاعَلَةِ فيه أوَّلَ البَقَرَةِ قولُه: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} فيها ثلاثةُ أَوْجُهٍ أَحَدُها: ـ ذَكَرَه أبو البقاءِ ـ وهو أنَّها نَصْبٌ على الحالِ. والثاني: أنَّها في مَحَلِّ رَفْعٍ عطفًا على خَبَرِ "إنَّ" والثالثُ: أنَّها استئنافُ إخبارٍ بذلك. و"خادِع" اسْمُ فاعِلٍ مِنْ خادَعْتُه فَخَدَعْتُه إذا غلبتَه وكنتَ أخدعَ منه.
قولُه: "وإذا قاموا" عطفٌ على خبرِ "إنَّ" أخبرَ عَنهم بِهذِه الصِفاتِ الذَّميمة. و"كُسالى" نصبٌ على الحالِ مِنْ ضميرِ "قاموا" الواقعِ جواباً. والجُمهورُ على ضَمِّ الكافِ، وهي لُغَةُ أهلِ الحِجازِ. وقَرَأَ الأَعرَجُ بِفَتْحِها، وهي لُغةُ تميمٍ وأَسَدٍ، وقرأ ابْنُ السَّمَيْفَعِ: "كَسْلى" وَصَفَهم بما تُوصَفُ بِه المُؤنَّثةُ المُفرَدَةُ اعتِبارًا بمعنى الجَماعةِ كقولِهِ: {وتَرَى الناسَ سَكْرى} والكسلُ: الفتورُ والتواني، وأَكْسَلَ: إذا جامَعَ وفَتَر ولم يُنْزِل.
قولُه: {يراؤون} في هذِه الجُملَةِ ثلاثةُ أَوْجُهٍ، أحدُهُما: أنَّها حالٌ مِنَ الضَميرِ المُسْتَتِرِ في "كُسالى" الثاني: أنَّها بَدَلٌ مِنْ "كُسالى" ذَكَرَه أبو البَقاءِ، فيَكونُ حالًا مِنْ فاعِلِ "قاموا" وفيه نظرٌ، لأنَّ الثاني ليس الأوَّلَ ولا بعضَه ولا مُشْتَمِلًا عليْه. الثالث: أنَّها مُستأنَفَةٌ أَخْبرَ عنهم بِذلك. وأَصْلُ يُراؤُون: يُرائِيوُن فأُعِلَّ كنظائرِه. والجُمهورُ على "يُراؤُون" مِنَ المُفاعَلَةِ، والمُراءاةُ مِنَ الرُّؤْيَةِ ولها وجهانِ أَحَدُها: أنَّ المُرائِيَ يُريهم عَمَلَه وهم يُرُوْنَه الاسْتِحْسانَ. والثاني: أنْ تكونَ مِنَ المُفاعَلَةِ بِمعنى التَفعيلِ، يُقالُ: نَعَّمَه وناعمه، ورأَّتِ المَرْأةُ المِرْآةَ، إذا أَمْسَكَتْها لَه لِيَرى وجْهَهُ، ويَدُلُّ عليْه قِراءةُ ابْنِ أبي اسْحاقَ: "يُرَؤُّونَهم" بهمزةٍ مُشَدَّدَةٍ مثلَ: يُدَعُّونَهم، أي: يُبَصِّرونَهم ويُرَاؤُوْنَهم كذلك، يَعني أنَّ قراءةَ "يُرَؤُّونَهم" مِنْ غيرِ أَلِفٍ بَلْ بهمزةٍ مَضمومَةٍ مُشدَّدةٍ تُوَضِّحُ أنَّ المُفَاعَلَةَ هنا بمعنى التَفعيلِ. ومتعلِّقُ المُراءاةِ محذوفٌ لِيَعُمَّ كلَّ ما يُراءَى به. والأحسنُ أنْ تُقَدِّرَ يُراؤونَ الناسَ بأعمالِهم.
وقولُه: {قَلِيلاً} نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ أو لِزمانٍ محذوفٍ أي: ذِكْرًا قليلًا أوْ زَمانًا قليلًا، والقِلَّةُ هنا على بابِها.
وقوله: {وَلاَ يَذْكُرُونَ} يَجوزُ أنْ يَكونَ عَطْفًا على "يُراؤُون" وأنْ يَكونَ حالًا مِنْ فاعلِ "يُراؤون" وهو ضَعيفٌ لأنَّ المُضارِعَ المَنْفِيَّ بـ "لا" كالمُثْبَتِ، والمُثْبَتُ إذا وَقَعَ حالًا لا يَقْتَرِنُ بالواوِ، فإنْ جَعَلَها عاطفةً جازَ.
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً. (143)
قولُه تبارك وتعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ}
المُنَافِقُونَ مُحَيَّرُونَ مُتَرَدِّدونَ بَيْنَ الإِيمَانِ وَبَيْنَ الكُفْرِ، فَلاَ هُمْ مَعَ المُؤْمِنِينَ، ظَاهِراً وَبَاطِناً، وَلاَ هُمْ مَعَ الكَافِرِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَرِيهِ الشَّكُّ، فَتَارَةً يَمِيلُ إلَى هَؤُلاَءِ، وَتَارَةً يَمِيلُ إلَى أُوْلَئِكَ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ (المتردِّدة) بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ تَعِيرُ إِلَى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هَذِهِ أُخْرَى) وَفِي رِوَايَةٍ (تَكِرُّ) بَدَلَ (تَعِيرُ).
قولُه: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} وَمَنْ صَرَفَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ طَرِيقِ الهُدَى، فَلَنْ تَجِدَ لَهُ مُنْقِذاً وَلاَ مُرْشِداً، فَإِنَّهُ تَعَالَى لاَ مُعَقِّبَ عَلَى حُكْمِهِ ، وَلاَ يَسْألُ عَمَّا يَفْعَلُ ، وَهُمْ يُسْأَلُونَ .
قولُه تعالى: {مُّذَبْذَبِينَ} فيه ثلاثةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهُما: أنَّه حالٌ مِنْ فاعلٍ "يُراؤون" الثاني: أنَّه حالٌ مِنْ فاعلٍ "ولا يَذْكَرُون" الثالث: أنَّه مَنصوبٌ على الذَمِّ والجُمهورُ على "مذبذّبين" بميمٍ مَضمومةٍ وذاليْن مُعجمتيْن ثانيتَهُما مَفتوحةٌ على أنَّه اسْمٌ مفعولٌ، مِنْ ذَبْذَبْتُه فهو مُذَبْذَبٌ أي: مُتَحيِّرٌ. وقَرَأَ ابْنُ عبَّاسٍ وعَمْرو بكسرِ الذالِ الثانيةِ اسْمَ فاعلٍ، وفيه احتمالان، أحدُهُما: أنَّه مِنْ "ذَبْذَبَ" متعدِّيًا فيكونُ مفعولُه محذوفًا أي: مُذَبْذِبين أَنفُسَهم أو دِينَهم أو نحوَ ذلك. والثاني: أنَّه بمعنى تَفَعْلَل نحو: "صَلْصَلَ" فيكون قاصرًا، ويَدُلُّ على هذا الثاني قراءةُ أُبَيٍّ وما في مُصْحَفِ عبدِ اللهِ: "مُتَذّبْذِبين" فلذلك يُحْتَمَلُ أنْ تَكونَ قِراءةُ ابْنِ عبَّاسٍ بمَعنى مُتذبذبين. ونُقلَ عنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رضي اللهُ عنه ـ أنَّه قرأ: "مَذَبْذَبِين" بفتحِ الميمِ إتْباعًا لِحَرَكَةِ الذالِ، وهي مَردودةٌ، ولا يَنبَغي أنْ تَصِحَّ عنه. لأجلِ فَصاحتِه واحتجاجِ الناسِ بكلامِهِ، وقيلَ إذا كانوا قد أَتْبَعوا في "مِنْتِن" حركة الميمِ بحركةِ التاءِ معَ الحاجزِ بينَهما، وفي نحو "منحدْر" أتْبَعوا حركةَ الدالِ بحركةِ الراءِ حالَ الرفعِ معَ أنَّ حركةَ الإِعرابِ غيرُ لازمةٍ فَلَأَنْ يُتْبعوا في نحو "مَذَبذبين" أولى. وهذا فاسدٌ لأنَّ الإِتْباعَ في الأَمثِلة التي أوْرَدَها ونظائرِها إنَّما هو إذا كانت الحركةُ قويَّةً وهي الضمَّةُ والكَسْرةُ، وأمَّا الفتحةُ فخفيفةٌ فلم يُتْبِعُوا لأجْلِها.
وقرأ ابنُ القَعقاعِ بِداليْن مُهمَليْن مِنَ الدُّبَّة وهي الطَريقةُ، يقال: "خَلِّني ودُبَّتي" أي: طَريقتي قال:
طَها هُذْرُبانٌ قَلَّ تغميضُ عيِنِه ............ على دُبَّةٍ مثلِ الخَنيفِ المُرَعْبَلِ
طَها الرجلُ: إذا ذَهَبَ في الأرضِ، والهُذْرُبانُ: كثيرُ الكلامِ في سرعة، ودُبَّةُ الرَّجُلِ: طَرِيقُه الذي يَدُبُّ عليها، والخَنيفُ: الرداءُ الأبيضُ والمُرعْبلُ المقطعُ. فيصبح المعنى أنّ الهُذْرُبَانَ الذي قلَّ أنْ يُغمضَ عينيْه قد مضى على طريقٍ رمليّةٍ بيضاء اللّونِ لَعِبَتْ فيها الريحُ فجَعلتْها كشرائح اللَّحْمِ المُقَطَّعَةِ المُعَدَّةِ للشَيِّ. وفي حديثِ ابْنِ عبَّاسٍ: ((اتَّبِعوا دُبَّة قريشٍ)) أيْ: طريقَها، فالمَعنى على هذه القراءةِ: أنْ يأخُذَ بِهم تارةً دُبَّةً وتارةً دُبَّةً أُخْرى، فَيَتْبَعُون متحيِّرين غيرَ ماضين على طريقٍ واحدٍ. ومُذَّبْذَبٍ وشِبْهُه نحو: مُكَبْكَبٍ ومُكَفْكَفٍ مِمَّا ضُعِّفَ أَوَّلُهُ وثانيهِ وصَحَّ المَعنى بإسْقاطِ ثالثِه فيهِ مَذاهبٌ، أَحَدُهُما: أنَّ الكلَّ أُصولٌ، لأنَّ أقلَّ البُنْيَةِ ثلاثةُ أُصولٍ وليْس أَحَدُ المُكرّرين أَوْلى بالزيادةِ مِنَ الآخَرِ، وهو قولُ جُمهورِ البَصْريّين. الثاني أنَّ ما صَحَّ إسقاطُه زائدةٌ. الثالث: أنَّ الثالثَ بَدَلٌ مِنْ تَضعيفِ الثاني، وهو قولُ الكُوفيّين، ويَزعمون أنَّ أصلَ كَفْكَفَ: كَفَّفَ بثلاثِ فاءاتٍ، وذَبْذَبَ: ذَبَّب بثلاثِ باءاتٍ فاستُثْقِل توالي ثلاثةِ أمثالٍ فَأَبْدَلوا الثالثَ مِنْ جِنْسِ الأوَّلُ، أمَّا إذا لَمْ يَصِحَّ المَعنى بِحَذْفِ الثالثِ نحو: سِمْسَم ويُؤْيؤ ووعْوَع، فإنَّ الكلَّ يَزعمون أصالةَ الجميعِ.
والذَبذبةُ في الأصْلِ: الاضطرابُ والتَرَدُّدُ بيْن حالتين. فالْمُذَبْذَبُ: الْمُتَرَدِّدُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، وَالذَّبْذَبَةُ الِاضْطِرَابُ. يُقَالُ: ذَبْذَبْتُهُ فَتَذَبْذَبَ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةُ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً ............... تَرَى كُلَّ مَلِكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ
وقولُ البُعيثِ بْنِ حُرَيْثٍ:
خَيَالٌ لِأُمِّ السَّلْسَبِيلِ وَدُونَهَا ............... مَسِيرَةُ شَهْرٍ لِلْبَرِيدِ الْمُذَبْذِبِ
كَذَا رُوِيَ بِكَسْرِ الذَّالِ الثَّانِيةِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: أَيِ الْمُهْتَزِّ الْقَلِقِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ وَلَا يَتَمَهَّلُ. فَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ مُتَرَدِّدُونَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، لَا مُخْلِصِينَ الْإِيمَانَ وَلَا مُصَرِّحِينَ بِالْكُفْرِ.
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً. (143)
قولُه تبارك وتعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ}
المُنَافِقُونَ مُحَيَّرُونَ مُتَرَدِّدونَ بَيْنَ الإِيمَانِ وَبَيْنَ الكُفْرِ، فَلاَ هُمْ مَعَ المُؤْمِنِينَ، ظَاهِراً وَبَاطِناً، وَلاَ هُمْ مَعَ الكَافِرِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَرِيهِ الشَّكُّ، فَتَارَةً يَمِيلُ إلَى هَؤُلاَءِ، وَتَارَةً يَمِيلُ إلَى أُوْلَئِكَ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ (المتردِّدة) بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ تَعِيرُ إِلَى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هَذِهِ أُخْرَى) وَفِي رِوَايَةٍ (تَكِرُّ) بَدَلَ (تَعِيرُ).
قولُه: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} وَمَنْ صَرَفَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ طَرِيقِ الهُدَى، فَلَنْ تَجِدَ لَهُ مُنْقِذاً وَلاَ مُرْشِداً، فَإِنَّهُ تَعَالَى لاَ مُعَقِّبَ عَلَى حُكْمِهِ ، وَلاَ يَسْألُ عَمَّا يَفْعَلُ ، وَهُمْ يُسْأَلُونَ .
قولُه تعالى: {مُّذَبْذَبِينَ} فيه ثلاثةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهُما: أنَّه حالٌ مِنْ فاعلٍ "يُراؤون" الثاني: أنَّه حالٌ مِنْ فاعلٍ "ولا يَذْكَرُون" الثالث: أنَّه مَنصوبٌ على الذَمِّ والجُمهورُ على "مذبذّبين" بميمٍ مَضمومةٍ وذاليْن مُعجمتيْن ثانيتَهُما مَفتوحةٌ على أنَّه اسْمٌ مفعولٌ، مِنْ ذَبْذَبْتُه فهو مُذَبْذَبٌ أي: مُتَحيِّرٌ. وقَرَأَ ابْنُ عبَّاسٍ وعَمْرو بكسرِ الذالِ الثانيةِ اسْمَ فاعلٍ، وفيه احتمالان، أحدُهُما: أنَّه مِنْ "ذَبْذَبَ" متعدِّيًا فيكونُ مفعولُه محذوفًا أي: مُذَبْذِبين أَنفُسَهم أو دِينَهم أو نحوَ ذلك. والثاني: أنَّه بمعنى تَفَعْلَل نحو: "صَلْصَلَ" فيكون قاصرًا، ويَدُلُّ على هذا الثاني قراءةُ أُبَيٍّ وما في مُصْحَفِ عبدِ اللهِ: "مُتَذّبْذِبين" فلذلك يُحْتَمَلُ أنْ تَكونَ قِراءةُ ابْنِ عبَّاسٍ بمَعنى مُتذبذبين. ونُقلَ عنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رضي اللهُ عنه ـ أنَّه قرأ: "مَذَبْذَبِين" بفتحِ الميمِ إتْباعًا لِحَرَكَةِ الذالِ، وهي مَردودةٌ، ولا يَنبَغي أنْ تَصِحَّ عنه. لأجلِ فَصاحتِه واحتجاجِ الناسِ بكلامِهِ، وقيلَ إذا كانوا قد أَتْبَعوا في "مِنْتِن" حركة الميمِ بحركةِ التاءِ معَ الحاجزِ بينَهما، وفي نحو "منحدْر" أتْبَعوا حركةَ الدالِ بحركةِ الراءِ حالَ الرفعِ معَ أنَّ حركةَ الإِعرابِ غيرُ لازمةٍ فَلَأَنْ يُتْبعوا في نحو "مَذَبذبين" أولى. وهذا فاسدٌ لأنَّ الإِتْباعَ في الأَمثِلة التي أوْرَدَها ونظائرِها إنَّما هو إذا كانت الحركةُ قويَّةً وهي الضمَّةُ والكَسْرةُ، وأمَّا الفتحةُ فخفيفةٌ فلم يُتْبِعُوا لأجْلِها.
وقرأ ابنُ القَعقاعِ بِداليْن مُهمَليْن مِنَ الدُّبَّة وهي الطَريقةُ، يقال: "خَلِّني ودُبَّتي" أي: طَريقتي قال:
طَها هُذْرُبانٌ قَلَّ تغميضُ عيِنِه ............ على دُبَّةٍ مثلِ الخَنيفِ المُرَعْبَلِ
طَها الرجلُ: إذا ذَهَبَ في الأرضِ، والهُذْرُبانُ: كثيرُ الكلامِ في سرعة، ودُبَّةُ الرَّجُلِ: طَرِيقُه الذي يَدُبُّ عليها، والخَنيفُ: الرداءُ الأبيضُ والمُرعْبلُ المقطعُ. فيصبح المعنى أنّ الهُذْرُبَانَ الذي قلَّ أنْ يُغمضَ عينيْه قد مضى على طريقٍ رمليّةٍ بيضاء اللّونِ لَعِبَتْ فيها الريحُ فجَعلتْها كشرائح اللَّحْمِ المُقَطَّعَةِ المُعَدَّةِ للشَيِّ. وفي حديثِ ابْنِ عبَّاسٍ: ((اتَّبِعوا دُبَّة قريشٍ)) أيْ: طريقَها، فالمَعنى على هذه القراءةِ: أنْ يأخُذَ بِهم تارةً دُبَّةً وتارةً دُبَّةً أُخْرى، فَيَتْبَعُون متحيِّرين غيرَ ماضين على طريقٍ واحدٍ. ومُذَّبْذَبٍ وشِبْهُه نحو: مُكَبْكَبٍ ومُكَفْكَفٍ مِمَّا ضُعِّفَ أَوَّلُهُ وثانيهِ وصَحَّ المَعنى بإسْقاطِ ثالثِه فيهِ مَذاهبٌ، أَحَدُهُما: أنَّ الكلَّ أُصولٌ، لأنَّ أقلَّ البُنْيَةِ ثلاثةُ أُصولٍ وليْس أَحَدُ المُكرّرين أَوْلى بالزيادةِ مِنَ الآخَرِ، وهو قولُ جُمهورِ البَصْريّين. الثاني أنَّ ما صَحَّ إسقاطُه زائدةٌ. الثالث: أنَّ الثالثَ بَدَلٌ مِنْ تَضعيفِ الثاني، وهو قولُ الكُوفيّين، ويَزعمون أنَّ أصلَ كَفْكَفَ: كَفَّفَ بثلاثِ فاءاتٍ، وذَبْذَبَ: ذَبَّب بثلاثِ باءاتٍ فاستُثْقِل توالي ثلاثةِ أمثالٍ فَأَبْدَلوا الثالثَ مِنْ جِنْسِ الأوَّلُ، أمَّا إذا لَمْ يَصِحَّ المَعنى بِحَذْفِ الثالثِ نحو: سِمْسَم ويُؤْيؤ ووعْوَع، فإنَّ الكلَّ يَزعمون أصالةَ الجميعِ.
والذَبذبةُ في الأصْلِ: الاضطرابُ والتَرَدُّدُ بيْن حالتين. فالْمُذَبْذَبُ: الْمُتَرَدِّدُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، وَالذَّبْذَبَةُ الِاضْطِرَابُ. يُقَالُ: ذَبْذَبْتُهُ فَتَذَبْذَبَ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةُ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً ............... تَرَى كُلَّ مَلِكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ
[color:01c8=blac