إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105)
قولُهُ تبارك وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ} حين يتكلَّمُ الحقُّ ـ سبحانه ـ عن نفسِه؛ يَتَكلَّمُ فيما يتعلَّقُ بالفعلِ بصفةِ التَعظيمِ والجمعِ. فهذه النونُ للجماعة، حيث يتطلب إنزالُ القُرآنِ قُوًى متعدِّدَةً لا تتوافَرُ إلَّا لِمن لهُ ملكُ الكونِ كلِّه. وحين يتكلَّمُ ـ سبحانه ـ فيما يتعلَّقُ بالذات يكونُ الحديثُ بضميرِ الإفراد: {إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني وَأَقِمِ الصلاةَ لذكري} طه: 14. ولا يأتي هنا ضمير الجمع أبداً، ولا تأتي "نون التعظيم". أمّا في هذه الآيةِ فيقول: "إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتابَ بالحقِّ" و"نون التعظيم" واضحةٌ، فالقرآنُ كلامُ اللهِ، ونُزولُ القرآنِ يتطلَّبُ صفاتٍ مُتعاضِدَةٍ. فمرَّةً يقول ـ سبحانه: {أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب} العنكبوت: 47. ومرَّةً يقول: {أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتابَ يتلى عَلَيْهِمْ} العنكبوت: 51. ومرَّةً ثالثةً يقول: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} الأنبياء: 10. فالغايةُ مِن إنزالِ الكتابِ أنْ يُوجَدَ منهجٌ يَحكُم حرَكَةَ الحياةِ على الأرضِ. والقرآن قد أُنزِلَ إلى الرسولِ وإلىِ مَنْ آمَنَ بالرِسالةِ. فقولُ الحقِّ: "أَنزَلْنَا عَلَيْكَ" معناه نُزولُ التكليفِ. وكلمةُ "أَنزَلْنَا" تعني أنَّ كلَّ شيءٍ يَجيءُ من الحقِّ فهو يَنزِلُ إليْنا منْه ـ سبحانَه، ومن ذلك قولُه: {يا بني ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ} الأعراف: 26. إنَّه لِباسٌ جاء مِنْ أعلى؛ لذلك استَخدَمَ الحقَّ كلمة {أَنزَلْنَا} وهو ليس لباساً فقط ولكنَّه أيْضاً يُزيِّنُكم مأخوذٌ مِنْ رِيشِ الطائرِ لأنَّه لِباسُه وزينتُه، فهو لا يُواري العورةَ فحَسْب، ولكنَّه جميلٌ أيْضاً، والأجملُ منْه لباسُ التَقوى. وكلمةُ "أنزل" تُشعِرُ السامعَ أوِ القارئ لها أنَّ الجِهةَ التي أَنزلتْ هي جِهةٌ أَعلى، من الجهةِ التي أُنْزِلَ إليها، ويجب أن نتبّه إلى أنَّ العلوَّ هنا عُلُوُّ مكانةٍ لا علوَّ مكانٍ. وهي تدلُّ أيضاً على أنَّه ثمَّةَ جهةٌ أَنزلَتْ، وجهةٌ أُنزِلَ إليها، وشيءٌ مُنَزَلٌ. والكتاب هنا هو المُنزَلُ. والذي أَنزلَه هوَ اللهُ. والمُنَزَّلِ إليْه هو رَسولُ اللهِ وأُمَّتُه. وفي آيةٍ أُخرى يَقولُ الحقُّ ـ سبحانَه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناسُ بالقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحديدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} الحديد: 25. فكلمةُ "الإنزالِ" تدُلُّ على أنَّ كلَّ ما جاء مِنْ قِبَلِ الحَقِّ الأعلى إليْنا، نازلٌ إلينا ليعالجَ مادَّتنا ومعنوياتِنا وقِيَمَنا. فعندما يقولُ الحقُّ في "إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب" بإطلاق كلمة "الكتاب" ينصرف المعنى إلى الكتابِ الجامِعِ المانِعِ المُهيْمِنِ على سائرِ الكُتُبِ وهو القرآن. و"بالحق" يعني أنَّه الثابتُ الذي لا يَأتي واقعٌ آخرُ لِيَنْقُضَه، لأنه مطابقٌ للواقع، أيْ أَنزله بالقضايا الثابتة التي لا يأتيها الباطلُ أبدًا.
وقوله: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناسِ } يوضِّحُ لنا أنَّ حُكومَةَ الدينِ الإسلاميِّ وعلى رأسِها الحاكمُ الأوّلُ رَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ ـ إنَّما جاءَ لا لِيَحكم بيْنَ المؤمنين بِه فقط، بلْ لِيَحكُمَ بيْن الناسِ. ومن شرطِ الحَكَمِ بيْن الناسِ القيامُ بالعدلِ فيما يَختَصِمون فيه، فلا يقولنَّ واحد: هذا مسلمٌ، وذاك كافرٌ، فإذا كان الحقُّ معَ الكافِرِ فلا بُدَّ أنْ تُعطيَه له، وإذا كان الحقُّ معَ المُسْلِمِ فيَجِبُ أنْ تُعطيَهُ له؛ لأنَّك لا تَحكُمُ بيْن المؤمنين فقطْ وإنَّما تَحكُمُ بيْنَ الناس. فإذا حَكَمتَ بيْن الناسِ حُكمًا يَتَّفِقُ معَ مَنطِقِ الواقِعِ والحقِّ، شهِدَ الناسَ لك أنَّ دينَكَ حَقٌّ، ويعرِفُ المُسلمُ ساعةَ يُحكَمُ عليه لصالِحِ غيرِ المُسلِمِ أنَّه ليس له التجاوزُ على حقوق الآخرين، ليكونَ المسلمُ في جانبِ الحقَّ دائمًا.
قوله: {بِمَآ أَرَاكَ الله} علَّمك قَوَانِينَ الشَّرْعِ، إِمَّا بِوَحْيٍ وَنَصٍّ، أَوْ بِنَظَرٍ جَارٍ عَلَى سُنَنِ الْوَحْيِ. وَهَذَا أَصْلٌ فِي الْقِيَاسِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى شَيْئًا أَصَابَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَاهُ ذَلِكَ، وَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنْبِيَائِهِ الْعِصْمَةَ، فَأَمَّا أَحَدُنَا إِذَا رَأَى شَيْئًا يَظُنُّهُ فَلَا قَطْعَ فِيمَا رَآهُ، وَلَمْ يُرِدْ رُؤْيَةَ الْعَيْنِ هُنَا، لأنَّ الحُكمَ لا يُرى بِالْعَيْنِ. وَفِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ، أَيْ بِمَا أَرَاكَهُ اللَّهُ، وَفِيهِ إِضْمَارٌ آخَرُ، وَامْضِ الْأَحْكَامَ عَلَى مَا عَرَّفْنَاكَ مِنْ غَيْرِ اغْتِرَارٍ بِاسْتِدْلَالِهِمْ.
وفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَشْرِيفٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكْرِيمٌ وَتَعْظِيمٌ وَتَفْوِيضٌ إِلَيْهِ، وَتَقْوِيمٌ أَيْضًا عَلَى الْجَادَّةِ فِي الْحُكْمِ، وَتَأْنِيبٌ عَلَى مَا رُفِعَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ بَنِي أُبَيْرِقٍ، وَكَانُوا ثَلَاثَةَ إِخْوَةٍ: بِشْرٌ وَبُشَيْرٌ وَمُبَشِّرٌ، وَأُسَيْرُ بْنُ عُرْوَةَ ابْنُ عَمٍّ لَهُمْ، نَقَبُوا مَشْرَبَةً لِرِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ فِي اللَّيْلِ وَسَرَقُوا أَدْرَاعًا لَهُ وَطَعَامًا، فَعُثِرَ عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ إِنَّ السَّارِقَ بُشَيْرٌ وَحْدَهُ، وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا طُعْمَةَ أَخَذَ دِرْعًا، قِيلَ: كَانَ الدِّرْعُ فِي جِرَابٍ فِيهِ دَقِيقٌ، فَكَانَ الدَّقِيقُ يَنْتَثِرُ مِنْ خَرْقٍ فِي الْجِرَابِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى دَارِهِ، فَجَاءَ ابْنُ أَخِي رِفَاعَةَ وَاسْمُهُ قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ يَشْكُوهُمْ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ أُسَيْرُ بْنُ عُرْوَةَ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَؤُلَاءِ عَمَدُوا إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ هُمْ أَهْلُ صَلَاحٍ وَدِينٍ فَأَنَّبُوهُمْ بِالسَّرِقَةِ وَرَمَوْهُمْ بِهَا مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَجَعَلَ يُجَادِلُ عَنْهُمْ حَتَّى غَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى قَتَادَةَ وَرِفَاعَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ} الْآيَةَ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} وكان البرئ الَّذِي رَمَوْهُ بِالسَّرِقَةِ لَبِيدَ بْنَ سَهْلٍ. وَقِيلَ: زَيْدُ بْنُ السَّمِينِ وَقِيلَ: رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ. فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ مَا أَنْزَلَ، هَرَبَ ابْنُ أُبَيْرِقٍ السَّارِقُ إِلَى مَكَّةَ، وَنَزَلَ عَلَى سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ شَهِيدٍ، فَقَالَ فِيهَا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ بَيْتًا يُعَرِّضُ فِيهِ بِهَا، وَهُوَ:
وَقَدْ أَنْزَلَتْهُ بِنْتُ سَعْدٍ وَأَصْبَحَتْ .............. يُنَازِعُهَا جِلْدَ اسْتِهَا وَتُنَازِعُهْ
ظَنَنْتُمْ بِأَنْ يَخْفَى الَّذِي قَدْ صَنَعْتُمُ ......... وَفِينَا نَبِيٌّ عِنْدَهُ الْوَحْيُ وَاضِعُهْ
فَلَمَّا بَلَغَهَا قَالَتْ: إِنَّمَا أَهْدَيْتَ لِي شِعْرَ حَسَّانَ، وَأَخَذَتْ رَحْلَهُ فَطَرَحَتْهُ خَارِجَ الْمَنْزِلِ، فَهَرَبَ إِلَى خَيْبَرَ وَارْتَدَّ. ثُمَّ إِنَّهُ نَقَبَ بَيْتًا ذَاتَ لَيْلَةٍ لِيَسْرِقَ فَسَقَطَ الْحَائِطُ عَلَيْهِ فَمَاتَ مُرْتَدًّا. ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ بِكَثِيرٍ مِنْ أَلْفَاظِهِ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ غَيْرَ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ الْحَرَّانِيِّ. وَذَكَرَهُ اللَّيْثُ وَالطَّبَرِيُّ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَذَكَرَ قِصَّةَ مَوْتِهِ يحيى بنُ سلامٍ في تفسيرِه، والقُشري كَذَلِكَ وَزَادَ ذِكْرَ الرِّدَّةِ، ثُمَّ قِيلَ: كَانَ زَيْدُ بْنُ السَّمِينِ وَلَبِيدُ بْنُ سَهْلٍ يَهُودِيَّيْنِ. وَقِيلَ: كَانَ لَبِيدُ مُسْلِمًا. وَذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ، وَأَدْخَلَهُ أَبُو عُمَرَ فِي كِتَابِ الصَّحَابَةِ لَهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى إِسْلَامِهِ عِنْدَهُ. وَكَانَ بُشَيْرٌ رَجُلًا مُنَافِقًا يَهْجُو أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْحَلُ الشِّعْرَ غَيْرُهُ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا شِعْرُ الْخَبِيثِ. فَقَالَ شِعْرًا يَتَنَصَّلُ فِيهِ، فَمِنْهُ قَوْلُهُ:
أَوَكُلَّمَا قَالَ الرِّجَالُ قَصِيدَةً ............... نُحِلَتْ وَقَالُوا ابْنُ الْأُبَيْرِقِ قَالَهَا
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَرَادَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ وَكَانَ مُطَاعًا، فَجَاءَتِ الْيَهُودُ شَاكِّينَ فِي السِّلَاحِ فَأَخَذُوهُ وَهَرَبُوا بِهِ، فَنَزَلَ
{هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ} يَعْنِي الْيَهُودَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قولُه: {وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً} الْخَصِيمُ هُوَ الْمُجَادِلُ، نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولَهُ عَنْ عَضُدِ أَهْلِ التُّهَمِ وَالدِّفَاعِ عَنْهُمْ بِمَا يَقُولُهُ خَصْمُهُمْ مِنَ الْحُجَّةِ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّيَابَةَ عَنِ الْمُبْطِلِ وَالْمُتَّهَمِ فِي الْخُصُومَةِ لَا تَجُوزُ. فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَاصِمَ عَنْ أَحَدٍ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مُحِقٌّ. وَمَشَى الْكَلَامُ فِي السُّورَةِ عَلَى حِفْظِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالنَّاسِ، فَبَيَّنَ أَنَّ مَالَ الْكَافِرِ مَحْفُوظٌ عَلَيْهِ كَمَالِ الْمُسْلِمِ، إِلَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلَا يَنْبَغِي إِذَا ظَهَرَ لِلْمُسْلِمِينَ نِفَاقُ قَوْمٍ أَنْ يُجَادِلَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ فَرِيقًا عَنْهُمْ لِيَحْمُوهُمْ وَيَدْفَعُوا عَنْهُمْ، فَإِنَّ هَذَا قَدْ وَقَعَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً وَقَوْلُهُ: "وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ". وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الَّذِينَ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ دُونَهُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَبَانَ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ بَعْدُ بِقَوْلِهِ: {هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا}. وَالْآخَر: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَكَمًا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلِذَلِكَ كَانَ يُعْتَذَرُ إِلَيْهِ وَلَا يَعْتَذِرُ هُوَ إِلَى غَيْرِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ لغيره.
قولُه تعالى: {بالحق} في محلِّ نصبٍ على الحالِ المؤكِّدة فيتعلَّق بمحذوفٍ، وصاحبُ الحالِ هو الكتابُ أي: أنزلناه ملتبساً بالحق. و"لتحكمْ" متعلِّقٌ بـ "أَنْزلنا" و"أراك" متعدٍّ لاثنين أحدُهما العائدُ المحذوفُ، والثاني كافُ الخطابِ أي: بما أراكه الله. والإِراءَةُ هنا يجوزُ أن تكون من الرأي كقولك: "رأيتُ رَأْيَ الشافعي" أو من المعرفة، وعلى كلا التقديرين فالفعلُ قبلَ النقل بالهمزة متعدٍّ لواحد وبعدَه متعدٍّ لاثنين كما عَرَفْتَ. و"للخائنين" متعلِّق بـ "خصيماً" واللامُ للتعليلِ على بابها، وقيل: هي بمعنى "عن"، وليس بشيءٍ لِصِحَّةِ المَعنى بدون ذلك. ومفعولُ "خصيماً" محذوفٌ تقديرُه: "خصيماً البرآء" وخصيم يَجوزُ أن يكون مِثالَ مبالغةٍ كَضَريبٍ، وأنْ يكون بمعنى مُفاعِل نحو: خَلِيطٍ وجَلِيسٍ بمعنى مُخاصِم ومُخالط ومُجالِس.