عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم ... سورة النساء، الآية: 66 الجمعة مايو 24, 2013 9:29 pm | |
| وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) قولُه ـ سبحانه وتعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} بَعْدَ أنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى أنَّ الإيمَانَ لاَ يَتِمُّ إلاَ بِتَحْكِيمِ الرَّسُولِ، مَعَ التَّسْلِيمِ وَالانْقِيادِ لِحُكْمِهِ، ذَكَرَ هُنَا قُصُورَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، لِضَعْفِ إيمَانِهِمْ ، فَقَالَ: لَوْ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ، كَمَا أُمِرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِذَلِكَ تَطْهِيراً لأَنْفُسِهِمْ مِنْ عِبَادَةِ العِجْلِ، أَوْ لَوْ أُمِرُوا بِالهِجْرَةِ مِنْ دِيَارِهِمْ إلى دِيَارٍ أُخْرَى، لَمْ يَفْعَلُوا شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ لأَنَّهُ لاَ يُوافِقُ أَهْوَاءَهُمْ. فَالمُنَافِقُونَ ـ كما بين اللهُ سبحانه ـ يَعْبُدُونَ اللهَ عَلَى حَرْفٍ، فَإِنْ أَصَابَهُمْ خَيْرٌ اطْمَأنُّوا بِهِ، وَإنْ نَالَهُمْ أَذًى انْقَلَبُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ قَدْ خَسِرُوا الدُّنيا وَالآخِرَةَ. أمَّا صَادِقُو الإيمَانِ فَإِنَّهُمْ يُطِيعُونَ اللهَ فِي كُلِّ مَا أمَرَهُمْ بِهِ، فِي السَّهْلِ وَالصَّعْبِ، وَالمَحْبُوبِ وَالمَكْرُوهِ. وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ، وَتَرَكُوا مَا يَنْهَونَ عَنْهُ، لَكَانَ ذَلِكَ خَيْراً لَهُمْ مِنْ مُخَالَفَةِ الأَوَامِرِ، وَارْتِكَابِ مَا يَنْهَونَ عَنْهُ، وَأَشَدَّ تَصْدِيقاً وَتَثْبِيتاً لَهُمْ فِي إيمَانِهِمْ. وهنا يُساوي الحَقُّ ـ سبحانه ـ بين الأمرِ بقتلِ النفسِ والأمرِ بالإخْراجِ مِن الديار، فالقتْلُ خروجُ الروحِ مِنَ الجسدِ بقوَّةٍ قَسْرِيَّةٍ غيرِ الموتِ الطَبيعيِّ، والإخراجُ مِنَ الدِيارِ هو التَرحيلُ القَسْرِيُّ بِقوَّةٍ قَسْرِيَّةٍ خارجَ الأَرْضِ التي يَعيشُ فيها الإنسانُ، إذاً فعمليَّة القَتْلِ قَرينَةٌ لِعمليَّةِ الإخراجِ مِن الديارِ. قال تعالى: "وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ" أي فرضنا وأوْجَبْنا عليهم "أَنِ اقْتُلوا أَنفُسَكُمْ" أيْ كما أَمَرْنا بَني إسرائيلَ، وتفسيرُ ذلك بالتَعَرُّضِ له بالجِهادِ ـ كما قال بعضهم ـ بعيدٌ "أَوِ اخرجوا مِن دياركم" كما أَمَرْنا بني إسرائيلَ أيْضاً بالخُروجِ مِنْ مِصْرَ. والمُرادُ إنَّما كَتَبْنا عليهم إطاعةَ الرَّسولِ والانقيادَ لِحُكْمِهِ والرِضا بِه، ولو كَتَبَنا عليهِمُ القَتْلَ والخُروجَ مِنَ الدِيارِ، كما كَتَبْنا ذلكَ على غيرِهم "ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ" وهمُ المُخلِصون مِنَ المؤمنين كأبي بَكْرٍ ـ رَضيَ اللهُ تعالى عنه ـ فقد أخرجَ ابنُ أبي حاتِمٍ عن عامرٍ بنِ عبدِ اللهِ بْنِ الزُبيْرِ قال: (لمَّا نَزَلَتْ هذه الآيةُ قال أبو بَكْرٍ: يا رسولَ اللهِ لو أَمَرْتَني أنْ أَقْتُلَ نَفسي لَفَعَلْتُ، فقال ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((صَدَقْتَ يا أبا بَكر)) وكذلك عبدُ اللهِ بْنُ رواحة، فقد جَاء عن شُريْح بنِ عُبَيْدٍ (أنَّها لمَّا نَزَلَتْ أَشارَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليْه بيَدِه فقال: ((لو أنَّ اللهَ تعالى كَتَبَ ذلك لَكان هذا مِنْ أُولئك القَليلِ))، وكابْنِ أُمِّ عَبْدٍ، فقد جاْ عن سفيانٍ (أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ قال فيه: ((لو نَزَلَتْ كان منهم))، وعن الحسنِ قال: (لمَّا نَزَلَتْ هذه الآيةُ قال أُناسٌ مِنَ الصَحابَةِ: لو فَعَلَ رَبُّنا لَفَعَلْنا، فبَلَغَ ذلك النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: ((لَلْإيمانُ أَثْبَتُ في قلوبِ أهلِه مِنَ الجِبالِ الرَواسي))، ورُوي أنَّ عَمَرَ ـ رضي اللهُ تعالى عنه ـ قال: (واللهِ لو أُمِرْنا لَفَعَلْنا، فالحمدُ للهِ الذي عافانا، فَبَلَغَ ذلك النبيَّ ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ ـ فقال: ((إنَّ مِنْ أُمَّتي لَرِجالًا الْإيمانُ أَثْبَتُ في قلوبِهم مِنَ الجِبالِ الرَّواسي)).وفي بعضِ الآثارِ أنَّ الزبيرَ وصاحبَه لمّا خَرجا بَعدَ الحَكْمِ مِنْ رَسولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَرّا على المِقدادِ فقال: لِمَنِ القَضاءُ؟ فقال الأنصاريُّ: لابْنِ عمَّتِه، ولَوى شِدْقَهُ ففطِنَ يَهودِيُّ كان مَعَ المِقدادِ فقال: قاتَلَ اللهُ تعالى هؤلاءِ يَشْهَدون أنَّهُ رسولُ اللهِ ويَتَّهِمونَه في قَضاءٍ يُقضى بينَهم، وأيْمُ اللهِ تعالى لقد أذنبْنا ذنبًا مرَّةً في حياةِ موسى ـ عليه السلام ـ فدعانا إلى التوبةِ مِنه، وقال: اقْتُلوا أنفسَكم ففَعلْنا فَبَلَغَ قتلانا سبعين ألفًا في طاعةِ ربِّنا حتَّى رَضيَ عنّا؛ فقال ثابت بنُ قيس: أمَا واللهِ إنَّ اللهَ تعالى لَيَعلَمُ منّي الصدقَ لو أَمَرَني محمَّدٌ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ أنْ أَقتُلَ نفسي لَقَتَلْتُها، ورُويَ أنَّ قائلَ ذلك هو وابْنُ مسعودْ وعمّارُ بنُ ياسِرَ، وأنَّه بَلغَ رسولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ عنهم فقال: ((والذي نفسي بيدِه إنَّ مِنْ أُمَّتي رجالاً الإيمانُ في قلوبهم أَثبتُ مِنَ الجِبالِ الرواسي، وإنَّ الآيةَ نَزَلَتْ فيهم))، وعلى هذا الأثرِ وجهُ مناسبةِ ذكرِ هذه الآيةِ ممّا لا يَخفى. وقال بعضُهم: إن المُرادَ أنَّنا قد خفَّفنا عليهم حيثُ اكْتَفَيْنا منهم في توبتِهم بتحكيمِك والتَسليمِ لحكمك ولو جَعَلْنا توبتَهم كتوبةِ بني إسرائيلَ لم يتوبوا. والذي يُفهَم مِن فحْوى الأخبارِ المُعوَّلِ عليها أنَّ هذه الكتابةَ لا تعلُّقَ لها بالاسْتِتابةِ، ولَعلَّ المُرادَ مِن ذِكرِ ذلك مُجرَّدُ التنبيهِ على قُصورِ كثيرٍ مِنَ الناسِ ووهْنِ إسلامِهم إثْرَ بيانِ أنَّه لا يَتِمُّ إيمانُهم إلّا بأنْ يُسلِّموا حقَّ التَسليمِ.قوله تعالى: {أَنِ اقتلوا} أن: هي المفسِّرةُ؛ لأنَّها أتت بعدما هو بمعنى القولِ لا حروفِه، وهذا أَظْهَرُ. ويجوزُ أنْ تكونَ مَصْدريَّةً، وما بعدها مِن فعلِ الأمرِ صلتُها، وفيه إشكالٌ من حيثُ إنّه أذا سُبِكَ منها ومِمَّا بعدَها مصدرٌ فأتت الدَلالةُ على الأمرِ، ألا تَرى أنَّك إذا قلتَ: كتبتُ إليه أَنْ قُمْ، فيه مِنَ الدَلالةِ على طلبِ القيامِ بطريقِ الأمرِ ما ليس في قولِك: كتبتُ إليْهِ القيامَ، ولكنَّهم جَوَّزوا ذلك، واستدلُّوا بقولِهم: كتبت إليه بأَنْ قم، ووجهُ الدَلالةِ أنَّ حرفَ الجَرِّ لا يُعَلَّقُ.وقرأ أبو عَمْرٍو بكسرِ نونِ "أَنْ"، وضمِّ واوِ "أو". وكسَرَهما حمزة وعاصم، وضَمَّهما باقي السبعة، فالكسْرُ على أصلِ التقاءِ الساكنَيْن، والضَمُّ للإتباعِ للثالث، إذْ هو مَضمومٌ ضَمَّةً لازمةً، وإنَّما فَرَّقَ أبو عَمرٍو لأنَّ الواوَ أُخْتُ الضَمَّةِ، وقد تقدَّمَ تحقيقُ ذلك في البقرةِ عندَ قولِهِ: {فَمَنِ اضطُّرَّ} الآية: 173. قولُه: {ما فَعَلُوهُ} الهاءُ يُحْتَمَلُ أنْ تَكونَ ضميرَ مَصْدَرِ "اقتلوا" أو "اخرجوا" أي: ما فعلوا القتلَ أوِ ما فعلوا الخُروجَ. ويجوزُ أنْ يعودَ على المكتوبِ ودَلَّ عليه "كَتَبْنا".قولُه: {إِلاَّ قَلِيلٌ} بدلٌ من فاعلِ "فَعَلوه" مرفوع، وهو المُختارُ على النَّصْبِ؛ لأنَّ الكلامَ غيرُ مُوجِبٍ، أو معطوفٌ على ذلك الضميرِ المرفوعِ، و"إلاَّ" حرفُ عَطفٍ، وهذا رأيُ الكُوفيّين. وقرأ ابنُ عامرٍ وجماعة: "إلا قليلاً" نصباً على الاستثناء وإنْ كان الاختيارُ الرفَع؛ لأنَّ المَعنى موجودٌ معَه كما هو موجودٌ معَ النصبِ، ويَزيدُ عليه بموافقة اللفظ. أو على أنَّه صفةٌ لِمصدَرٍ محذوفٍ تقديرُه: "إلا فعلاً قليلاً" وفيه نظرٌ، إذ الظاهرُ أنَّ "منهم" صفةٌ لـ "قليلاً" ومتى حُمِل القليلُ على غيرِ الأشخاصِ يَقْلَقُ هذا التركيب، إذ لا فائدةَ حينئذٍ في ذِكْرِ "منهم".قوله: {ما يوعظون به} ما: موصولةٌ اسْميَّةٌ. والباءُ في "به" تَحتمِلُ أنْ تَكونَ المُعدِّيةَ دخلتْ على المَوعوظِ بِهِ، والمَوعوظُ بِه على هذا هو التَكاليفُ مِن الأوامِرِ والنواهي، وتُسَمَّى أوامرُ اللَّهِ تعالى ونواهيه مَواعِظَ لأنَّها مقترنةٌ بالوَعْدِ والوَعيدِ، وأَنْ تكونَ للسبيَّةِ، والتقدير: ما يوعظونَ بسببِه أي: بسببِ تَرْكِه، ودَلَّ على التَرْكِ المَحذوفِ قولُه: "ولو أنهم فعلوا" واسمُ كان ضميرٌ عائدٌ على الفعلِ المَفهومِ مِنْ قولِه: "وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا". أي: لَكانَ فعلُ ما يُوعظونَ بِهِ ، و"خيراً" خبرُها، و"تثبيتاً" تمييزٌ لـ "أشد". | |
|