يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ
فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ
وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ
كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ
فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ
وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا
فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا. (11)
قولُه ـ تعالى شأنه: {يُوصِيكُمُ الله} شُروعٌ في بيانِ ما أَجمَلَ في قولَه عزَّ وجَلَّ {للرّجَالِ نَصِيبٌ} النساء: 7. الخ، والوصيَّةُ أنْ
تُقَدِّمَ لغيرِك ما يَعمَلُ فيه مُقتَرِناً بِوَعْظٍ وهو مِن قولِهم:
أَرْضٌ واصيَةٌ أيْ متَّصِلَةُ النَبات وهي في الحقيقةِ أمرٌ لَه بعملِ ما
عُهِدَ إليْه، فالمُرادُ يَأمُرُكم اللهُ ويَفرِضُ عليكم، وعَدَلَ عَنِ
الأمرِ إلى الإيصاءِ لأنَّه أَبلغُ وأدَلُّ على الاهْتِمامِ وطلبِ الحُصولِ
بِسُرعةٍ.
قولُه: {فِي أولادكم}
أيْ في توريثِ أَولادِكم، أو في شأنِهم، والخطابُ قيلَ: للمؤمنين أيْ
يُوصيكُمُ في أولادِ موتاكم لأنَّه لا يَجوزُ أنْ يُخاطِبَ الحيَّ بقسمةِ
الميراثِ في أولادِه، وقيل: الخطابُ لِذوي الأولادِ على معنى يُوصيكم في
توريثِهم إذا مُتُّمْ، وبدأ ـ سبحانَه ـ بالأولادِ لأنَّهم أقربُ الوَرَثةِ
إلى المَيِّتِ وأكثُرُهم بقاءً بعد المورثِ، وسببُ نُزولِ الآيةِ ما
أَشرْنا إليْه فيما مَرَّ. وعن جابرٍ قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم، يَعودُني وأنا مريضٌ فقلت: كيف أُقسِمُ مالي بيْن وَلدي؟ فلم يَرُدَّ
عليَّ شيْئاً فنَزَلتْ: “لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنْثَيَيْن”
في موضِعِ التَفصيلِ والبيانِ للوصيَّةِ، والمُرادُ أنَّه يَعُدُّ كلَّ
ذَكَرٍ بأُنْثَيَيْنِ حيثُ اجتَمَعَ الصِنْفان مِنَ الذُكورِ والإناثِ
واتَّحَدتْ جِهةُ إرْثِهِما فيُضْعِفُ للذَّكَرِ نصيبَه، والظاهرُ أنَّ
المُرادَ بيانُ حُكمِ اجْتِماعِ الابْنِ والبِنتِ على الإطلاق. وإيثارُ
اسْمَيِ الذَّكَرِ والأنْثى على ما ذُكِرَ أوَّلاً مِن الرجالِ والنِساء
للتنصيصِ على استواءِ الكبار والصغار من الفريقين في الاستحقاق من غير
دَخْلٍ للبُلوغِ والكِبَرِ في ذلك أصلاً كما هو زَعْمُ أهلِ الجاهليَّةِ
حيثُ كانوا لا يُورِّثون الأطفالَ كالنساءِ، والحكمةُ في أنَّه ـ تعالى ـ
جعلَ نصيبَ الإناثِ مِنَ المالِ أقلَّ من نصيبِ الذُكورِ أنَّ
احْتياجَهُنَّ إلى المالِ أقلُّ لأنَّ أزواجَهُنَّ يُنفقون عليهِنَّ،
واستُثنيَ من العُمومِ الميراثُ مِن النَبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ
والدليل على الاستثناءِ قولُه ـ صلى الله عليه وسلم: ((نحنُ مَعاشِرَ
الأنبياءِ لا نُوَرِّثُ)). وأخذُ الشيعةِ بالعمومِ وعدمِ الاستثناءِ
وطعنُوا بذلك على أبي بكرٍ الصديقِ ـ رضي اللهُ تعالى عنه ـ حيثُ لم
يُورِّثِ الزهراءَ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنها ـ منْ تَرِكَةِ أَبيها ـ صلاةُ
اللهِ عليه وسلامه ـ حتى قالتْ لَهُ بِزَعْمِهم: يا ابنَ أَبي قُحافَةَ
أنتَ تَرِثُ أَباكَ وأَنا لا أَرِثُ أبي! أيُّ إنْصافٍ هذا؟، وقالوا: إنَّ
الخَبَرَ لمْ يَرْوِهِ غيرُه، وبِتسليمِ أنَّه رواهُ غيرُه أيْضاً فهو غيرُ
مُتواتِرٍ بَلْ آحادٌ، ولا يَجوزُ تَخصيصُ الكتابِ بِخبرِ الآحادِ، بدليلِ
أنَّ عمرَ بنَ الخَطّابِ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنه ـ رَدَّ خَبَرَ فاطمةَ
بنتِ قَيِسٍ وأنَّه لَمْ يَجعَلْ لَها سُكْنَى ولا نَفَقَةً لَمّا كان
مخصِّصاً لقولِه ـ تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ} الطلاق: 6. فقال: كيفَ نَتْرُكُ
كتابَ ربِّنا وسُنَّةَ نَبيِّنا ـ صلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ بقولِ امرأةٍ.
فلو جازَ تَخصيصُ الكِتابِ بخبرِ الآحادِ لَخَصَّصَ بِه ولمْ يَرُدَّهُ
ولَمْ يَجعلْ كونَه خبرَ امرأةٍ معَ مخالفتِه للكتابِ مانِعاً مِنْ قبولِه،
وأيْضاً العامُّ وهو الكتابُ قَطْعِيٌّ، والخاصُّ وهو خَبَرُ الآحادِ
ظَنِيٌّ فيَلْزَمُ تَرْكُ القَطْعِيِّ بالظَنّيِّ. وقالوا أيضاً: إنَّ ممّا
يَدُلُّ على كَذِبِ الخَبَرِ قولُه ـ تعالى: {وَوَرِثَ سليمانَ دَاوُودُ}
النحل: 16. وقولُه ـ سبحانَه ـ حكايةً عن زكريا ـ عليه السلامُ: {فَهَبْ
لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ} مريم:
5 ، 6. فإنَّ ذلك صريحٌ في أنَّ الأنبياءَ يَرثونَ ويُورِّثون.
والجوابُ
أنَّ هذا الخبرَ قد رَواه أيضاً حذيفةُ بنُ اليَمانِ والزُبيرُ بنُ
العوَّامِ وأبو الدَرْداءِ وأبو هُريرَةَ والعَبَّاسُ وعليٌّ وعثمانُ وعبدُ
الرحمنِ بنُ عوفٍ وسعدٌ بنُ أبي وقّاص، وقد أخرجَ البُخاريُّ عن مالكٍ بنِ
أوسٍ بنِ الحدثان أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ رَضيَ اللهُ ـ تعالى ـ عنه قال
بمحضرٍ مِنَ الصَحابةِ فيهم عليٌّ والعَبَّاسُ وعثمانُ وعبدُ الرحمنِ بنُ
عوفٍ والزُّبيْرُ بنُ العوّامِ وسَعدٌ بنُ أبي وقَّاصٍ: أَنْشُدُكم باللهِ
الذي بإذنِه تَقومُ السماءُ والأرضُ أَتعلمونَ أنَّ رسولَ اللهِ ـ صلى
اللهُ عليْه وسلَّمَ قال: ((لا نُوَرِّثُ ما تَركناهُ صَدَقةٌ؟ قالوا:
اللَّهُمَّ نَعم، ثمَّ أَقبلَ على عليٍّ والعَبَاسِ فقال: أَنْشُدُكُما
باللهِ ـ تعالى ـ هل تَعلَمانِ أنَّ رسولَ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْهِ
وسلَّمَ ـ قد قال ذلك؟ قالا: اللَّهُمَّ نعم، فالقولُ بأنَّ الخبرَ لم
يَرْوِهِ إلَّا أبو بَكْرٍ ـ رَضيَ الله تعالى عنه ـ لا يُلْتَفَتُ إليْه،
وفي كُتُبِ الشيعةِ ما يُؤيِّدُهُ، فقد رَوى الكُلَيْنيُّ في “الكافي” عن
أبي البُخْتُرِيِّ عن أبي عبدِ اللهِ جَعفر الصادقِ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنه
ـ أنَّه قال: (إنَّ العلماءَ وَرَثَةُ الأنبياءِ، وذلك أنَّ الأنبياءَ لم
يُورِّثوا دِرهمًا ولا ديناراً وإنَّما ورَّثوا أَحاديثَ فمَنْ أَخَذَ
بشيءٍ منها فقد أخَذَ بحظٍّ وافر) وكَلِمَةُ إنَّما مُفيدةٌ للحَصْرِ
قَطْعاً ويَعني هذا أنَّ الأنبياءَ لا يُورِّثون غيرَ العِلْمِ والأحاديثِ.
وقد
ثَبُتَ أيْضاً بإجْماعِ أهلِ السِيَرِ والتَواريخِ وعلماءِ الحديثِ أنَّ
جماعةً مِنَ “المَعصومينَ” عندَ الشيعةِ و”المحفوظين” عندَ أهلِ السُنَّةِ
عَمِلوا بِمُوجِبِهِ، فإنَّ تَرِكَةَ النَبِيِّ ـ صلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ
ـ لَمَّا وَقَعَتْ في أَيديهم لَمْ يُعْطُوا مِنْها العَبَّاسَ ولا بَنيهِ
ولا الأَزْواجَ المُطَهَّراتِ شيئًا ولو كان المِيراثُ جارياً في تلك
التَرِكَةِ لَشاركوهم فيها قَطْعاً، فإذا ثَبَتَ مِن مجموعِ ما ذَكَرْنا
التواتُرُ فحبَّذا ذلك، لأنَّ تخصيصَ القرآنِ بالخَبَرِ المُتواتِرِ جائزٌ
اتِّفاقاً وإنْ لم يَثْبُتْ، وبقيَ الخَبَرُ مِن الآحادِ فنَقولُ: إنَّ
تَخصيصَ القرآنِ بِخَبَرِ الآحادِ جائزٌ على الصَحيحِ وبجوازِه قال
الأئمَّةُ الأَربعةُ، ويَدُلُّ على جَوازِهِ أنَّ الصَحابّةَ ـ رضي الله
تعالى عنهم ـ خَصَّصوا به مِن غيرِ نَكيرٍ فكانَ إجْماعاً، ومنه قولُه ـ
تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} النساء: 24 ويدخُلُ فيه
نِكاحُ المَرأةِ على عمَّتِها وخالَتِها فَخُصَّ بقولِه ـ صلى الله عليه
وسلم: “لا تَنْكِحوا المَرأَةَ على عَمَّتِها ولا على خالَتِها)).
والشيعةُ
أيْضاً قد خَصَّصوا عُموماتٍ كثيرةً مِنَ القرآنِ بخبرِ الآحادِ فإنَّهم
لا يورثَّونَ الزوجة من العقار ويخصُّون أكبرَ أبناءِ المَيِّتِ مِن تركتِه
بالسيفِ والمُصحف والخاتم واللباس بدون بدل كما أشرنا إليه فيما مر ،
ويستندون في ذلك إلى آحاد تفردوا بروايتها مع أن عموم الآيات على خلاف ذلك ،
والاحتجاج على عدم جواز التخصيص بخبر عمر رضي الله تعالى عنه مجاب عنه بأن
عمر إنما رد خبر ابنة قيس لتردده في صدقها وكذبها ، ولذلك قال بقول امرأة
لا ندري أصدقت أم كذبت ، فعلل الرد بالتردد في صدقها وكذبها لا بكونه خبر
واحد وكون التخصيص يلزم منه ترك القطعي بالظني مردود بأن التخصيص وقع في
الدلالة لأنه دفع للدلالة في بعض الموارد فلم يلزم ترك القطعي بالظني بل هو
ترك للظني بالظني وما زعموه من دلالة الآيتين اللتين ذكروهما على كذب
الخبر في غاية الوهن لأن الوراثة فيهما وراثة العلم والنبوة والكمالات
النفسانية لا وراثة العروض والأموال ، ومما يدل على أن الوراثة في الآية
الأولى منهما كذلك ما رواه الكليني عن أبي عبد الله أن سليمان ورث داود وأن
محمداً ورث سليمان فإن وراثة المال بين نبينا صلى الله عليه وسلم وسليمان
عليه السلام غير متصورة بوجه ، وأيضاً إن داود عليه السلام على ما ذكره أهل
التاريخ كان له تسعة عشر ابناً وكلهم كانوا ورثة بالمعنى الذي يزعمه الخصم
فلا معنى لتخصيص بعضهم بالذكر دون بعض في وراثة المال لاشتراكهم فيها من
غير خصوصية لسليمان عليه السلام بها بخلاف وراثة العلم والنبوة . لا
يورِّثون الزوجةَ مِنَ العَقارِ ويَخصّون أكبرَ أبناءِ المَيِّتِ مِن
تركتِه بالسيْفِ والمُصحَفِ والخاتَمِ واللِّباسِ بِدونِ بَدَلٍ،
ويَستنِدون في ذلك إلى آحادَ تَفرَّدوا بِروايَتِها مَعَ أنَّ عُمومَ
الآياتِ على خلافِ ذلك، والاحتجاجُ على عَدمِ جَوازِ التَخصيصِ بخبرِ عمرَ ـ
رضيَ اللهُ تَعالى عنه ـ مُجابٌ عنه بأنَّ عمرَ إنَّما رَدَّ خبرَ ابنةِ
قيسٍ لتَرَدُّدِهِ في صِدْقِها وكَذبِها، ولذلك قال بقولِ امْرأةٍ لا
نَدْري أَصَدَقتْ أمْ كَذَبَتْ، فعلَّلَ الرَدَّ بالتَردُّدِ في صِدْقِها
وكَذِبِها لا بِكونِه خبرَ واحدٍ، وكونُ التخصيصِ يَلزَمُ منْه تركُ
القَطْعِيِّ بالظَنِّيِ مَردودٌ بأنَّ التَخصيصَ وقعَ في الدَّلالةِ لأنَّه
دفعٌ للدَلالةِ في بعضِ الموارِدِ فلم يَلزَمْ تَرْكُ القَطْعِيِّ
بالظَنِّيِّ بلْ هو تَركٌ للظَنِيِّ بالظَنِيِّ وما زَعموه مِنْ دَلالةِ
الآيَتَيْنِ اللَّتيْنِ ذَكَروهُما على كَذِبِ الخَبَرِ في غايةِ الوَهْنِ
لأنَّ الوِراثَةَ فيهما وِراثةُ العِلْمِ والنُبُوَّةِ والكَمالاتِ
النَفسانيَّةِ لا وِراثةُ العُروضِ والأموالِ، وممَّا يَدُلُّ على أنَّ
الوِراثةَ في الآيةِ الأُولى منْهما كذلك ما رَواهُ الكَلينِيُّ عن أبي
عبدِ اللهِ أنَّ سُلَيمانَ ورِثَ داوودَ وأنَّ محمَّداً ورِثَ سُليمانَ
فإنَّ وِراثةَ المالِ بيْن نَبيِّنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسُليمانَ ـ
عليْه السلامُ ـ غيرُ مُتَصَوَّرَةٍ بِوجْهٍ، وأيضاً إنَّ داوودَ ـ عليْه
السلامُ ـ على ما ذَكَرَهُ أهلُ التاريخِ ـ كان لَهُ تِسْعَةَ عَشَرَ
ابْناً وكُلُّهم كانوا وَرَثةً بالمَعنى الذي يَزْعُمُه الشيعةُ، فلا معنًى
لِتَخصيصِ بعضِهِمْ بالذِكْرِ دونَ بعضٍ في وِراثةِ المالِ لاشتِراكِهم
فيها مِنْ غيرِ خُصوصِيَّةٍ لِسُلَيْمانَ ـ عليه السلامُ ـ بها، بخلافِ
وِراثةِ العِلْمِ والنُبُوَّةِ.
وأيضاً
توصيفُ سليمان ـ عليْه السلام ـ بتلك الوراثة مما لا يوجب كمالاً ولا
يستدعي امتيازاً لأن البر والفاجر يرث أباه فأي داع لذكر هذه الوراثة
العامة في بيان فضائل هذا النبي ومناقبه ـ عليه السلام، ومما يدلُّ على أن
الوراثة في الآية الثانية كذلك أيضاً أنَّه لو كان المُرادُ بالوِراثةَ
فيها وِراثةَ المالِ كان الكلامُ أَشْبَهَ شيءٍ بالسَفْسَطَةِ لأنَّ
المُرادَ بآلِ يَعقوبَ حينئذٍ إنْ كان نفسَه الشريفةَ يَلزَم أنَّ مالَ
يَعقوبَ ـ عليْه السلامُ ـ كان باقياً غيرَ مقسومٍ إلى عَهدِ زَكريّا
وبينَهُما نحوٌ مِنْ أَلْفَيْ سَنَةٍ وهو كما تَرى، وإنْ كانَ المُرادُ
جميعَ أَولادِهِ يَلزمُ أنْ يَكونَ يَحيى وارثاً جميعَ بَني إسرائيلَ
أحياءً وأمواتاً، وهذا أفحَشُ مِنَ الأوَّلِ، وإنْ كان المُرادُ بعضَ
الأولادِ، أو أُريدَ مِن يعقوبَ غيرُ المُتبادِرِ، وهو ابنُ إسحقَ عليهِما
السلامُ، يُقال: أيَّةُ فائدةٍ في وصفِ هذا الوليِّ عندَ طَلَبِه مِن اللهِ
ـ تعالى ـ بأنَّه يَرِثُ أَباه ويَرِثُ بعضَ ذوي قرابَتِه، والابنُ وارثُ
الأَبِ، ومَن يَقْرُبُ منه في جميعِ الشرائعِ معَ أنَّ هذه الوِراثةِ
تُفهَمُ مِن لفظِ الوَلِيِّ بِلا تَكَلُّفٍ، وليس المَقامُ مَقامَ تأكيدٍ،
وأيْضاً ليس في الأنْظارِ العاليَةِ وهِمَمِ النُّفوسِ القُدْسِيَّةِ التي
انْقطعتْ مِنْ تَعلُّقاتِ هذا العالَمِ الفاني واتَّصلتْ بِحضائرِ القُدْسِ
الحَقَّانِيِّ مَيْلٌ للمَتاعِ الدُنْيَوِيِّ قدرَ جناحِ بَعوضةٍ حتّى
يَسْأَلَ حَضرةُ زَكريا ـ عليه السلامُ ـ ولَداً يَنتَهي إليْه مالُه
ويَصِلُ إلى يَدِهِ مَتاعُه، ويَظهرُ لِفَواتِ ذلك الحُزْنِ والخَوفِ،
فإنَّ ذلك يَقتَضي صَريحاً كَمالَ المَحَبَّةِ وتَعلُّقَ القلْبِ بالدُنيا
وما فيها، وذلك بعيدٌ عن ساحتِه العَلِيَّةِ وهِمَّتِهِ القُدسيَّةِ،
وأيْضاً لا معنى لِخوفِ زَكريّا ـ عليْه السلامُ ـ مِنْ صَرفِ بَني
أَعمامِهِ مالَه بعدَ موتِه، أمَّا إنْ كان الصرفُ في طاعةٍ فظاهرٌ، وأمّا
إنْ كان في مَعصِيَةٍ فلأنَّ الرَّجلَ إذا ماتَ وانتقلَ المالُ إلى
الوارِثِ وصَرَفَه في المَعاصي لا مؤاخذةَ على المَيِّتِ ولا عتابَ على
أنَّ دَفْعَ هذا الخوفِ كان مُتَيَسِّراً لَه بأنْ يَصرِفَه ويَتَصَدَّقَ
به في سبيلِ اللهِ ـ تعالى ـ قبلَ وفاتِه ويَترُكُ ورَثَتَه على أنْقى مِن
الراحةِ واحتمالِ موتِ الفَجأةِ. وعدمُ التَمَكُّنِ مِن ذلك لا يَنْتَهِضُ
عندَ الشيعةِ لأنَّ الأنبياءَ عندَهم يَعلمونَ وقتَ موتِهم، فما مُرادُ ذلك
النبيِّ ـ عليه السلامُ ـ بالوِراثَةِ إلَّا وِراثَةَ الكمالاتِ
النفسانيَّةِ والعِلْمِ والنُبوَّةِ، فإنّه ـ عليه السلام ـ خَشِيَ مِنْ
أشرارِ بني إسرائيلَ أنْ يُحرِّفوا الأحكامَ الإلهيَّةَ والشرائعَ
الرّبانيَّةَ ولا يَحفظوا عِلمَه ولا يَعمَلوا بِه ويَكونُ ذلكَ سبباً
للفَسادِ العظيمِ، فطلبَ الولَدَ لِيُجريَ أحكامَ اللهِ ـ تعالى ـ بعدَه،
ويكونَ محطَّ رِحالِ النُبوَّةِ، وذلك موجِبٌ لِتَضاعيفِ الأَجرِ واتصالِ
الثوابِ، والرغبةُ في مثلِه مِنْ شأنِ ذوي النفوسِ القُدسيَّةِ والقلوبِ
الطاهرةِ الزَكيَّةِ، فإنْ قيلَ: الوِراثةُ في وراثةِ العِلْمِ مَجازٌ وفي
وراثةِ المالِ حقيقةٌ، وصَرْفُ اللفظُ عن الحَقيقةِ إلى المجازِ لا يجوزُ
بلا ضرورةٍ، فما الضَرورةُ هنا؟ أُجيبَ بأنَّ الضرورةَ هنا حِفظُ كلامِ
المَعصومِ مِنْ التَكذيبِ، وأيضاً لا نُسَلِّمُ كونَ الوِراثةِ حقيقةً في
المالِ فقط، بل صارَ لِغَلَبَةِ الاسْتِعمالِ في العُرْفِ مُختَصًّا
بالمال، وفي أصلِ الوَضعِ إطْلاقُه على وِراثةِ العِلمِ والمالِ والمَنصِبِ
صحيحٌ، وهذا الإطلاقُ هو حقيقتُه اللُّغويَّةُ سَلَّمْنا أنَّه مَجازٌ
ولكنَّ هذا المَجازَ مُتعارَفٌ ومشهورٌ بحيثُ يُساوي الحقيقةَ خُصوصاً في
استعمالِ القرآنِ المَجيدِ، ومِنْ ذلك قولُه ـ تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الكتابَ} و{أُورِثُواْ الكتاب} الشورى: 14. إلى غير ما آية. ومنَ الشيعةِ
مَن أَوردَ هنا بحثاً وهو أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا لم
يُورِّثْ أَحَداً فَلِمَ أُعْطِيَتْ أَزواجُه الطاهراتُ حُجُراتِهِنَّ؟
والجوابُ أنَّ ذلك مغالطةٌ لأنَّ إفرازَ الحُجُراتِ للأزواجِ إنَّما كان
لأجلِ كونِها مملوكةً لَهُنَّ لا مِنْ جِهةِ المِيراثِ بَلْ لأنَّ النبيَّ ـ
صلى الله عليه وسلَّمَ ـ بَنى كلَّ حُجْرَةٍ لِواحِدَةٍ مِنهُنَّ فصارتِ
الهِبَةُ مَعَ القَبْضِ مُتَحَقِّقةً، وهي مُوجِبَةٌ للمُلْكِ وقد بَنى
النبيُّ ـ صلى اللهُ تعالى عليه وسلم ـ مثلَ ذلكَ لِفاطمةَ ـ رضيَ اللهُ
تعالى عنها ـ ولأُسامةَ أيضاً وسَلَمَهُ إليهما؛ وكان كلُّ مَنْ بِيدِهِ
شيءٌ ممّا بَناهُ لَه رسولُ اللهِ يَتصرَّفُ فيه تَصَرُّفَ المالِكِ على
عهدِه ـ عليه الصلاةُ والسلامُ، ويَدُلُّ على ما ذلك ما ثَبتَ بإجماعِ أهلِ
السُنَّةِ والشيعةِ أنَّ الإمامَ الحَسَنَ لمّا حَضَرَتْهُ الوفاةُ
اسْتَأذَنَ مِن عائشةَ الصِدِّيقةَ رضي الله تعالى عنهما ـ وسألَها أنْ
تُعطيَه مَوضِعًا للدَفْنِ جِوارَ جَدِّه المُصطفى عليه صلواتُ الله
وسلامُه ـ فإنَّه إنْ لم تَكُنْ الحُجْرَةُ مِلكَ أُمِّ المؤمنين لم يَكُنْ
للاسْتِئذانِ والسؤالِ معنى، وفي القرآنِ إشارةٌ إلى كونِ الأزْواجِ
المُطَهّراتِ مالكاتٍ لِتلكَ الحُجُرِ حيث قال ـ سبحانَه: {وَقَرْنَ فِي
بُيُوتِكُنَّ} الأحزاب: 33. فأضافَ البيوتَ إليهِنَّ ولم يَقُلْ في بيوتِ
الرَّسولِ.
ومِنْ
أهلِ السُنَّةِ مَنْ أجابَ عَن أصلِ البحثِ بأنَّ المالَ بعدَ وفاةِ
النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ صارَ في حُكْمِ الوَقْفِ على جَميعِ
المُسلمين فيَجوزُ لِخليفةِ الوَقْتِ أنْ يَخُصَّ مَنْ شاءَ بِما شاءَ كَما
خَصَّ الصديقُ جنابَ الأميرِ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنهما ـ بسيفِ ودِرْعِ
وبَغْلَةٍ شَهباءَ تُسمّى الدَلدلُ، وأنَّ الأميرَ ـ كرَّمَ اللهُ تعالى
وجهَهُ ـ لم يَرِثِ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بوجهٍ، وقد صحَّ أيضاً
أنَّ الصِدِّيقَ أَعطى الزُبيرَ بنَ العَوّامِ ومحمَّدَ بنَ مَسْلَمَةَ
بَعضاً مِنْ مَتروكاتِه ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ ـ وإنَّما لم يُعطِ
فاطمةَ ـ صلى اللهُ تعالى على أبيها وعليها وسلم ـ فَدْكاً (قرْية بناحية
الحجازِ أفاءها الله تعالى على نبيِّه) مَعَ أنَّها طَلَبَتْها إرْثاً
وانْحرَفَ مِزاجُ رِضاها ـ رضيَ اللهُ تعالى عنها ـ بالمَنعِ إجْماعاً،
وعَدَلَتْ عن ذلك إلى دعوى الهِبَةِ، وأَتَتْ بِعَلِيٍّ والحَسَنيْنِ وأمِّ
أيمنَ للشَهادَة فَلمْ تَقُمْ على ساقٍ بِزعْمِ الشيعةِ، ولم تُمَكَّنْ
لِمَصلَحَةٍ دِينيَّةٍ ودُنْيويَّةٍ رآهما الخليفةُ إذْ ذاك.
وتحقيقُ
الكلامِ في هذا المقامِ أنَّ أبا بكرٍ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنه ـ خَصَّ آيةَ
المَواريثِ بِما سَمِعَهُ مِنْ رسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسلّمَ ـ
وخبرُه ـ عليْه الصلاةُ والسلامُ في حَقِّ مَنْ سَمِعَهُ منْه بِلا
واسِطَةٍ مُفيدٌ للعِلْمِ اليَقينيِّ بِلا شُبْهَةٍ، والعملُ بِسَماعِهِ
واجبٌ عليه، سواءً سمِعَه غيْرُهُ أوْ لَمْ يَسْمَعْ، وقد أَجْمَعَ أهلُ
الأُصولِ على أنَّ تقسيمَ الخبرِ إلى المُتواتِرِ وغيرِهِ بالنِسْبَةِ إلى
مَنْ لم يُشاهدوا النبيَّ ـ صلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ ـ وسَمِعوا خَبَرَه
بِوساطةِ الرُواةِ لا في حَقِّ مَنْ شاهدَ النبيَّ وسَمِعَ مِنْه بِلا
واسطةٍ، فخبَرُ ((نحنُ مَعَاشِرَ الأنْبِياءِ لا نُوَرِّثْ)) عندَ أَبي
بَكْرٍ قَطْعِيٌّ لأنَّه في حَقِّهِ كالمُتواتِرِ بَلْ أَعلى كَعْباً منه،
والقطعيُّ يُخَصِّصُ القَطْعِيَّ اتِّفاقاً، ولا تَعَارُضَ بيْنَ هذا
الخَبَرِ والآياتِ التي فيها نِسْبَةُ الوِراثَةِ إلى الأنبياءِ ـ عليْهِمُ
السلامُ ـ لِما عَلِمْتَ، ودَعوى الزَّهراءِ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنها ـ
بحَسَبِ الوِراثَةِ لا تَدُلُّ على كَذِبِ الخَبَرِ بَلْ على عَدَمِ
سَمَاعِهِ، وهو غيرُ مُخِلٍّ بِقَدْرِها ورِفْعَةِ شأنِها ومَزيدِ
عِلْمِها، وكذا أخذُ الأزْواجِ المُطهَّراتِ حُجُراتِهنَّ لا يَدُل على ذلك
لِما مَرَّ، وعُدولُها إلى دعوى الهِبَةِ غيرُ مُتَحَقِّقٍ عندنا، بلِ
المُتحقِّقُ دَعوى الإرْثِ، ولئن سَلَّمْنا أنَّه وَقَعَ مِنْها دَعوى
الهِبَةِ فلا نُسَلِّمُ أنَّها أَتَتْ بأولئكَ الأَطهارَ شُهوداً، وذَلكَ
لأنَّ المُجْمَعَ عليْه أنَّ الهِبَةَ لا تَتِمُّ إلَّا بالقَبْضِ ولم
تَكنْ فَدْكُ في قَبضةِ الزَهراءِ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنها ـ في وقتٍ فلم
تَكنِ الحاجةُ ماسَّةً لِطلَبِ الشُهودِ، ولئنْ سَلَّمْنا أنَّ أُولئكَ
الأَطهارَ شَهِدوا فلا نُسَلِّمُ أنَّ الصِدِّيقَ رَدَّ شهادتِهم بَلْ لَم
يَقْضِ بها، وفَرْقٌ بيْنَ عدمِ القَضاءِ هُنا والرَدِّ، فإنَّ الثاني
عبارةً عنْ عدمِ القبولِ لِتُهمةِ كَذِبٍ مَثَلاً، والأوَّلُ عبارةً عن
عدمِ الإمضاءِ لفقدِ بعضِ الشُروطِ المُعتَبَرِ بعدَ العَدالةِ، وانحرافُ
مزاجها كان مِنْ مُقْتَضَياتِ البَشَرِيَّةِ، فقد غَضِبَ موسى ـ عليه
السلامُ ـ على أخيه الأَكْبَرِ هارون حتَّى أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ ورَأسِهِ
ولم يُنْقِصْ ذلك مِنْ قَدْرَيْهِما شيئاً، على أنَّ أبا بَكْرٍ استَرْضاها
ـ رضيَ اللهُ تعالى عنها ـ مُسْتَشْفِعاً إليْها بِعَلِيٍّ ـ كَرَّمَ
اللهُ تعالى وجهَه ـ فَرَضِيَتْ عنْه كَما في “مدارج النُبُوَّةِ” و”كتاب
الوفاء” و”شرحِ المِشْكاةِ” للدهْلَوِيِّ وغيرها، وفي “محاجِّ السالكين”.
وغيرِه مِنْ كُتُبِ الإماميَّةِ المُعتَبَرَةِ ما يُؤيِّدُ هذا الفصلَ حيثُ
رَوَوْا أنَّ أبا بَكرٍ لَمّا رَأى فاطمةَ رضي الله تعالى عنهما
انْقَبَضَتْ عنْه وهَجَرَتْهُ ولَمْ تتكلَّمْ بَعدَ ذلكَ في أمْرِ “فَدْك”
كَبُرَ ذلكَ عندَه فأرادَ اسْتِرْضاءَها فأَتاها فقال: صَدَقْتِ يا بِنْتَ
رسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ فيما ادَّعيْتِ ولَكنْ رأيتُ رسولَ
اللهِ ـ صلى الله عليْه وسلَّمَ يَقْسِمُها فيُعطي الفُقراءَ والمساكينَ
وابنَ السبيلِ بعدَ أنْ يُؤتي منها قُوتَكم فما أَنتُمْ صانعونَ بِها؟
فقالت: افْعَلْ فيها كما كان أَبي ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ ـ يَفْعَلُ
فيها، فقالَ لكِ اللهُ ـ تعالى ـ أنْ أَفْعَلَ فيها ما كان يَفعلُ أَبوكِ،
فقالتْ: واللهِ لَتَفْعَلَنّ؟ فقال: واللهِ لَأَفعَلَنَّ ذلك، فقالت:
اللهُمَّ اشْهَدْ ورَضِيَتْ بِذلك، وأَخَذَتِ العهدَ عليْه فكان أبو بَكْرٍ
يُعطيهم منها قوتَهم ويَقْسِمُ الباقي بين الفقراءِ والمَساكينِ وابنِ
السَبيلِ، وبَقيَ الكلامُ في سببِ عدمِ تَمكينِها ـ رَضيَ اللهُ تعالى عنها
ـ من التَصَرُّفِ فيها، وقد كان دفعُ الالْتِباسِ وسَدُّ بابِ الطلَبِ
المُنْجَرِّ إلى كَسْرِ كثيرٍ مِنَ القلوبِ، أو تضييقِ الأمرِ على
المُسلمينَ. وقد وَرَدَ (المؤمنُ إذا ابتُليَ بِبَليَّتيْنِ اختارَ
أَهونَهُما) على أنَّ رضا الزهراءِ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنها ـ بَعْدُ على
الصِدِّيقِ سَدَّ بابَ الطَعْنِ عليْهِ أصابَ في المَنْعِ أَمْ لَمْ
يُصِبْ.
وَهَذِهِ
الْآيَةُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَعُمْدَةٌ مِنْ عُمَدِ
الْأَحْكَامِ، وَأُمٌّ مِنْ أُمَّهَاتِ الْآيَاتِ، فَإِنَّ الْفَرَائِضَ
عَظِيمَةُ الْقَدْرِ حَتَّى إِنَّهَا ثُلُثُ الْعِلْمِ، وَرُوِيَ نِصْفُ
الْعِلْمِ. وَهُوَ أَوَّلُ عِلْمٍ يُنْزَعُ مِنَ النَّاسِ وَيُنْسَى.
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((تَعَلَّمُوا
الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ فَإِنَّهُ نِصْفُ الْعِلْمِ وَهُوَ
أَوَّلُ شيْءٍ يُنسى، وهو أوَّلُ شيءٍ يُنْتَزَعُ مِنْ أُمَّتِي)).
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ لِي
رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَعَلَّمُوا
الْقُرْآنَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ وَتَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ
وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ وَتَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ
فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ وَإِنَّ الْعِلْمَ سَيُقْبَضُ وَتَظْهَرُ
الْفِتَنُ حَتَّى يَخْتَلِفَ الِاثْنَانِ فِي الْفَرِيضَةِ لَا يَجِدَانِ
مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا)). وإذا ثبت هذا فاعلم أنَّ الفرائضَ كان جُلَّ
عِلْمِ الصَّحَابَةِ، وَعَظِيمَ مُنَاظَرَتِهِمْ، وَلَكِنَّ الْخَلْقَ
ضَيَّعُوهُ. وَقَدْ رَوَى مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ عبدُ اللهِ ابنُ
مَسْعُودٍ: مَنْ لَمْ يَتَعَلَّمِ الْفَرَائِضَ وَالطَّلَاقَ وَالْحَجَّ
فَبِمَ يَفْضُلُ أَهْلَ الْبَادِيَةِ؟ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ:
كُنْتُ أَسْمَعُ رَبِيعَةَ يَقُولُ: مَنْ تَعَلَّمَ الْفَرَائِضَ مِنْ
غَيْرِ عِلْمٍ بِهَا مِنَ الْقُرْآنِ مَا أَسْرَعَ مَا يَنْسَاهَا. قَالَ
مَالِكٌ: وَصَدَقَ.
رَوَى
أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
الْعَاصِ أنَّ رسولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قال:
((الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ فَضْلٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ
أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ)). قَالَ الْخَطَّابِيُّ
أَبُو سُلَيْمَانَ: الْآيَةُ الْمُحْكَمَةُ هِيَ كِتَابُ اللَّهِ
تَعَالَى: وَاشْتَرَطَ فِيهَا الْإِحْكَامَ، لِأَنَّ مِنَ الْآيِ مَا هُوَ
مَنْسُوخٌ لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَإِنَّمَا يُعْمَلُ بِنَاسِخِهِ.
وَالسُّنَّةُ الْقَائِمَةُ هي الثابتةُ مما جاء عَنْهُ ـ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ. وَقَوْلُهُ: ((أَوْ
فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ)) يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ مِنَ التَّأْوِيلِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَدْلِ فِي الْقِسْمَةِ، فَتَكُونُ
مُعَدَّلَةً عَلَى الْأَنْصِبَاءِ وَالسِّهَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ تَكُونَ
مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمِنْ مَعْنَاهُمَا،
فَتَكُونُ هَذِهِ الْفَرِيضَةُ تَعْدِلُ مَا أُخِذَ مِنَ الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ إِذْ كَانَتْ فِي مَعْنَى مَا أُخِذَ عَنْهُمَا نَصًّا.
رَوَى
عِكْرِمَةُ قَالَ: أَرْسَلَ ابنُ عباسٍ إلى زيدٍ بنِ ثابتٍ يَسألُه عَنِ
امْرَأَةٍ تَرَكَتْ زَوْجَهَا وَأَبَوَيْهَا. قَالَ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ،
وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ. فَقَالَ: تَجِدُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ
أَوْ تَقُولُ بِرَأْيٍ؟ قَالَ: أَقُولُهُ بِرَأْيٍ، لَا أُفَضِّلُ أُمًّا
عَلَى أَبٍ. قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: فَهَذَا مِنْ بَابِ تَعْدِيلِ
الْفَرِيضَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَصٌّ، وَذَلِكَ أنّه اعتبَرها
بالمنصوصِ عليه، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}.
فَلَمَّا وَجَدَ نَصيبَ الْأُمِّ الثُّلُثَ، وَكَانَ بَاقِي الْمَالِ هُوَ
الثُّلُثَانِ لِلْأَبِ، قَاسَ النِّصْفَ الْفَاضِلَ مِنَ الْمَالِ بَعْدَ
نَصِيبِ الزَّوْجِ عَلَى كُلِّ الْمَالِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ
الْوَالِدَيْنِ ابْنٌ أَوْ ذُو سَهْمٍ، فَقَسَمَهُ بَيْنَهُمَا عَلَى
ثَلَاثَةٍ، لِلْأُمِّ سَهْمٌ وَلِلْأَبِ سَهْمَانِ وَهُوَ الْبَاقِي.
وَكَانَ هَذَا أَعْدَلَ فِي الْقِسْمَةِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ الْأُمَّ مِنَ
النِّصْفِ الْبَاقِي ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ، وَلِلْأَبِ مَا بَقِيَ
وَهُوَ السُّدُسُ، فَفَضَّلَهَا عَلَيْهِ فَيَكُونُ لَهَا وَهِيَ
مَفْضُولَةٌ فِي أَصْلِ الْمَوْرُوثِ أَكْثَرَ مِمَّا لِلْأَبِ وَهُوَ
الْمُقَدَّمُ وَالْمُفَضَّلُ فِي الْأَصْلِ. وَذَلِكَ أَعْدَلُ مِمَّا
ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ تَوْفِيرِ الثُّلُثِ عَلَى الْأُمِّ،
وَبَخْسِ الْأَبِ حَقَّهُ بِرَدِّهِ إِلَى السُّدُسِ، فَتَرَكَ قَوْلَهُ
وَصَارَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إِلَى زَيْدٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي زَوْجٍ
وَأَبَوَيْنِ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ،
وَلِلْأَبِ مَا بَقِيَ. وَقَالَ فِي امْرَأَةٍ وَأَبَوَيْنِ: لِلْمَرْأَةِ
الرُّبُعُ، وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ.
وَبِهَذَا قَالَ شُرَيْحٌ القاضي ومحمَّد بنُ سيرين وداود ابن عَلِيٍّ،
وَفِرْقَةٌ مِنْهُمْ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْفَرَضِيُّ الْمِصْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ اللَّبَّانِ فِي
الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا. وَزَعَمَ أَنَّهُ قِيَاسُ قَوْلِ عَلِيٍّ فِي
الْمُشْتَرَكَةِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّهُ قَدْ رُوِيَ ذَلِكَ
عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا. قَالَ أَبُو عُمَرَ: الْمَعْرُوفُ الْمَشْهُورُ عَنْ
عَلِيٍّ وَزَيْدٍ وَعَبْدِ اللَّهِ وَسَائِرِ الصَّحَابَةِ وَعَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ مَا رَسَمَهُ مَالِكٌ. وَمِنَ الْحُجَّةِ لَهُمْ عَلَى ابْنِ
عَبَّاسٍ: أَنَّ الْأَبَوَيْنِ إِذَا اشْتَرَكَا فِي الْوِرَاثَةِ، لَيْسَ
مَعَهُمَا غَيْرُهُمَا، كَانَ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَلِلْأَبِ
الثُّلُثَانِ. وَكَذَلِكَ إِذَا اشْتَرَكَا فِي النِّصْفِ الَّذِي يَفْضُلُ
عَنِ الزَّوْجِ، كَانَا فِيهِ كَذَلِكَ عَلَى ثُلُثٍ وَثُلُثَيْنِ.
وَهَذَا صَحِيحٌ فِي النَّظَرِ وَالْقِيَاسِ.
وَاخْتَلَفَتِ
الرِّوَايَاتُ فِي سَبَبِ نُزُولِ آيَةِ الْمَوَارِيثِ، فَرَوَى
التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ امْرَأَةَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ
قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ سَعْدًا هَلَكَ وَتَرَكَ بِنْتَيْنِ
وَأَخَاهُ، فَعَمَدَ أَخُوهُ فَقَبَضَ مَا تَرَكَ سَعْدٌ، وَإِنَّمَا
تُنْكَحُ النِّسَاءُ عَلَى أَمْوَالِهِنَّ، فَلَمْ يُجِبْهَا فِي
مَجْلِسِهَا ذَلِكَ. ثُمَّ جَاءَتْهُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
ابْنَتَا سَعْدٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: ((ادْعُ لِي أَخَاهُ)) فَجَاءَ فَقَالَ لَهُ: ((ادْفَعْ إِلَى
ابْنَتِهِ الثُّلُثَيْنِ وَإِلَى امْرَأَتِهِ الثُّمُنَ وَلَكَ مَا
بَقِيَ)). لَفْظُ أبي داود. في روا التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ: فَنَزَلَتْ
آيَةُ الْمَوَارِيثِ. قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى جَابِرٌ
أَيْضًا قَالَ: عَادَنِي رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو
بَكْرٍ فِي بَنِي سَلِمَةَ يَمْشِيَانِ، فَوَجَدَانِي لَا أَعْقِلُ،
فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَشَّ عَلَيَّ مِنْهُ فَأَفَقْتُ.
فَقُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَنَزَلَتْ “يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ“.
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَفِيهِ
(فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَيْفَ أَقْسِمُ مَالِي بَيْنَ وَلَدِي؟
فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ شَيْئًا فَنَزَلَتْ “يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ”
الْآيَةَ. قَالَ: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ). وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نُزُولَ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْمَالَ
كَانَ لِلْوَلَدِ، وَالْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنُسِخَ ذَلِكَ
بِهَذِهِ الْآيَاتِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي أمِّ
كُحَّة، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا. وقال السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ بَنَاتِ
عَبْدِ الرحمن بن ثابت أخي حسان ابن ثَابِتٍ. وَقِيلَ: إِنَّ أَهْلَ
الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا لَا يُوَرِّثُونَ إِلَّا مَنْ لَاقَى الْحُرُوبَ
وَقَاتَلَ الْعَدُوَّ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ تَبْيِينًا أَنَّ لِكُلِّ
صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ حَظَّهُ. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا
لِلْجَمِيعِ، وَلِذَلِكَ تَأَخَّرَ نُزُولُهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ
وَرَدَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّ مَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ
تَفْعَلُهُ مِنْ تَرْكِ تَوْرِيثِ الصَّغِيرِ كَانَ فِي صَدْرِ
الْإِسْلَامِ إِلَى أَنْ نَسَخَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ
فِي وَرَثَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ
عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ. فَاسْتَرْجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِيرَاثَ مِنَ الْعَمِّ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ
ثَابِتًا مِنْ قَبْلُ فِي شَرْعِنَا مَا اسْتَرْجَعَهُ. وَلَمْ يَثْبُتْ
قَطُّ فِي شَرْعِنَا أَنَّ الصَّبِيَّ مَا كَانَ يُعْطَى الْمِيرَاثَ
حَتَّى يُقَاتِلَ عَلَى الْفَرَسِ وَيَذُبَّ عَنِ الْحَرِيمِ. قُلْتُ:
وَكَذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيُّ قَالَ: وَدَلَّ
نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى نُكْتَةٍ بَدِيعَةٍ، وَهُوَ أَنَّ مَا
كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ مِنْ أَخْذِ الْمَالِ لَمْ
يَكُنْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ شَرْعًا مَسْكُوتًا مُقَرًّا عَلَيْهِ،
لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرْعًا مُقَرًّا عَلَيْهِ لَمَا حَكَمَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَمِّ الصَّبِيَّتَيْنِ بِرَدِّ
مَا أَخَذَ مِنْ مَالِهِمَا، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ إِذَا مَضَتْ وَجَاءَ
النَّسْخُ بَعْدَهَا إِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا
يُنْقَضُ بِهِ مَا تَقَدَّمَ وَإِنَّمَا كانت ظلامة
رفعت.
وقالت الشافعيَّة المعنيُّ بقولُه تَعَالَى “يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ”
هم أولادُ الصُلب، فأمَّا من يدخُلُ فيه بطريق المجاز، فإذا حَلَفَ أنْ لا
وَلَدَ لَهُ وَلَهُ وَلَدُ ابْنٍ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِذَا أَوْصَى لِوَلَدِ
فُلَانٍ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ وَلَدُ وَلَدِهِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ:
إِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ صُلْبٌ. ومعلومٌ
أنَّ الألفاظ لَا تَتَغَيَّرُ بِمَا قَالُوهُ.
لَمَّا قَالَ تَعَالَى “يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ”
فَكَانَ الَّذِي يَجِبُ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ الْمِيرَاثُ
لِجَمِيعِ الْأَوْلَادِ، الْمُؤْمِنِ مِنْهُمْ وَالْكَافِرِ، فَلَمَّا
ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ: ((لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ)). عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ
أَرَادَ بَعْضَ الْأَوْلَادِ دُونَ بَعْضٍ، فَلَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ
الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ.
وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: “فِي أَوْلادِكُمْ” دَخَلَ فِيهِمُ
الْأَسِيرُ فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ، فَإِنَّهُ يَرِثُ مَا دَامَ تُعْلَمُ
حَيَاتُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ،
إِلَّا النَّخَعِيَّ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَرِثُ الْأَسِيرُ. فَأَمَّا
إِذَا لَمْ تُعْلَمْ حَيَاتُهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَفْقُودِ. وَكَذَلِكَ
لَمْ يَدْخُلِ الْقَاتِلُ عَمْدًا لِأَبِيهِ أو جدِّه أَوْ أَخِيهِ أَوْ
عَمِّهِ بِالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يَرِثُ مِنْ
مَالِ مَنْ قَتَلَهُ وَلَا مِنْ دِيَتِهِ شَيْئًا. فإن قتَلَه خطأً فَلَا
مِيرَاثَ لَهُ مِنَ الدِّيَةِ، وَيَرِثُ مِنَ الْمَالِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ،
وَلَا يَرِثُ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَسُفْيَانَ
وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، مِنَ الْمَالِ وَلَا مِنَ الدِّيَةِ شَيْئًا،
حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْبَقَرَةِ. وَقَوْلُ مَالِكٍ أَصَحُّ،
وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَمُجَاهِدٍ وَالزُّهْرِيِّ
وَالْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، لِأَنَّ مِيرَاثَ مَنْ وَرَّثَهُ
اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ ثَابِتٌ لَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ إِلَّا
بِسُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ. وَكُلُّ مُخْتَلَفٍ فِيهِ فَمَرْدُودٌ إِلَى
ظَاهِرِ الْآيَاتِ الَّتِي فيها المواريث.
وكَانَ
الْمِيرَاثُ يُسْتَحَقُّ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بِأَسْبَابٍ: مِنْهَا
الْحِلْفُ وَالْهِجْرَةُ وَالْمُعَاقَدَةُ، ثُمَّ نُسِخَ عَلَى مَا يَأْتِي
بَيَانُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ
جَعَلْنا مَوالِيَ} إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ
عَلَى أَنَّ الْأَوْلَادَ إِذَا كَانَ مَعَهُمْ مَنْ لَهُ فَرْضٌ مُسَمًّى
أُعْطِيَهُ، وَكَانَ مَا بَقِيَ مِنَ الْمَالِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((أَلْحِقُوا
الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا)). رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ. يَعْنِي الْفَرَائِضَ
الْوَاقِعَةَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهِيَ سِتَّةٌ: النِّصْفُ
وَالرُّبُعُ وَالثُّمُنُ وَالثُّلُثَانِ وَالثُّلُثُ وَالسُّدُسُ.
فَالنِّصْفُ فَرْضُ خَمْسَةٍ: ابْنَةِ الصُّلْبِ، وَابْنَةِ الِابْنِ،
وَالْأُخْتِ الشَّقِيقَةِ، وَالْأُخْتِ لِلْأَبِ، وَالزَّوْجِ. وَكُلُّ
ذَلِكَ إِذَا انْفَرَدُوا عَمَّنْ يَحْجُبُهُمْ عَنْهُ. وَالرُّبُعُ فَرْضُ
الزَّوْجِ مَعَ الْحَاجِبِ، وَفَرْضُ الزَّوْجَةِ وَالزَّوْجَاتِ مَعَ
عَدَمِهِ. وَالثُّمُنُ فَرْضُ الزَّوْجَةِ وَالزَّوْجَاتِ مَعَ الْحَاجِبِ.
وَالثُّلُثَانِ فَرْضُ أَرْبَعٍ: الِاثْنَتَيْنِ فَصَاعِدًا مِنْ بَنَاتِ
الصُّلْبِ، وَبَنَاتِ الِابْنِ، وَالْأَخَوَاتِ الْأَشِقَّاءِ، أَوْ
لِلْأَبِ. وَكُلُّ هَؤُلَاءِ إِذَا انْفَرَدْنَ عَمَّنْ يَحْجُبُهُنَّ
عَنْهُ. وَالثُّلُثُ فَرْضُ صِنْفَيْنِ: الْأُمِّ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ،
وَوَلَدِ الِابْنِ، وَعَدَمُ الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا مِنَ الْإِخْوَةِ
وَالْأَخَوَاتِ، وَفَرْضُ الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ.
وَهَذَا هُوَ ثُلُثُ كُلِّ الْمَالِ. فَأَمَّا ثُلُثُ مَا يَبْقَى فَذَلِكَ
لِلْأُمِّ فِي مَسْأَلَةِ زَوْجٍ أَوْ زَوْجَةٍ وَأَبَوَانِ، فَلِلْأُمِّ
فِيهَا ثُلُثُ مَا يَبْقَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَفِي مَسَائِلِ
الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ إِذَا كَانَ مَعَهُمْ ذُو سَهْمٍ وَكَانَ ثُلُثُ
مَا يَبْقَى أَحْظَى لَهُ. وَالسُّدُسُ فَرْضُ سَبْعَةٍ: الْأَبَوَانِ
وَالْجَدُّ مَعَ الْوَلَدِ وَوَلَدُ الِابْنِ، وَالْجَدَّةُ وَالْجَدَّاتُ
إِذَا اجْتَمَعْنَ، وَبَنَاتُ الِابْنِ مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ،
وَالْأَخَوَاتُ لِلْأَبِ مَعَ الْأُخْتِ الشَّقِيقَةِ، وَالْوَاحِدُ مِنْ
وَلَدِ الْأُمِّ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى. وَهَذِهِ الْفَرَائِضُ
كُلُّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا فَرْضَ
الْجَدَّةِ وَالْجَدَّاتِ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّنَّةِ.
وَالْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لِهَذِهِ الْفُرُوضِ بِالْمِيرَاثِ ثَلَاثَةُ
أَشْيَاءٍ: نَسَبٌ ثَابِتٌ، وَنِكَاحٌ مُنْعَقِدٌ، وَوَلَاءُ عَتَاقَةٍ.
وَقَدْ تَجْتَمِعُ الثَّلَاثَةُ الْأَشْيَاءُ فَيَكُونُ الرَّجُلُ زَوْجَ
الْمَرْأَةِ وَمَوْلَاهَا وَابْنَ عَمِّهَا. وَقَدْ يَجْتَمِعُ فِيهِ
مِنْهَا شَيْئَانِ لَا أَكْثَرُ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا
وَمَوْلَاهَا، أَوْ زَوْجُهَا وَابْنُ عَمِّهَا، فَيَرِثُ بِوَجْهَيْنِ
وَيَكُونُ لَهُ جميع المال إذا انفرد: نصفُه بِالزَّوْجِيَّةِ
وَنِصْفُهُ بِالْوَلَاءِ أَوْ بِالنَّسَبِ. وَمِثْلَ أَنْ تَكُونَ
الْمَرْأَةُ ابْنَةَ الرَّجُلِ وَمَوْلَاتَهُ، فَيَكُونُ لَهَا أيضا جميع
الْمَالُ إِذَا انْفَرَدَتْ: نِصْفُهُ بِالنَّسَبِ وَنِصْفُهُ
بِالْوَلَاءِ.
وَلَا
مِيرَاثَ إِلَّا بَعْدَ أَدَاءِ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ، فَإِذَا مَاتَ
الْمُتَوَفَّى أُخْرِجَ مِنْ تَرِكَتِهِ الْحُقُوقُ الْمُعَيَّنَاتُ، ثُمَّ
مَا يَلْزَمُ مِنْ تَكْفِينِهِ وَتَقْبِيرِهِ، ثُمَّ الدُّيُونُ عَلَى
مَرَاتِبِهَا، ثُمَّ يُخْرَجُ مِنَ الثُّلُثِ الْوَصَايَا، وَمَا كَانَ فِي
مَعْنَاهَا عَلَى مَرَاتِبِهَا أَيْضًا، وَيَكُونُ الْبَاقِي مِيرَاثًا
بَيْنَ الْوَرَثَةِ. وَجُمْلَتُهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ. عَشَرَةٌ مِنَ
الرِّجَالِ: الِابْنُ وَابْنُ الِابْنِ وَإِنْ سَفُلَ، وَالْأَبُ وَأَبُ
الْأَبِ وَهُوَ الْجَدُّ وَإِنْ عَلَا، وَالْأَخُ وَابْنُ الْأَخِ،
وَالْعَمُّ وَابْنُ الْعَمِّ، وَالزَّوْجُ وَمَوْلَى النِّعْمَةِ. وَيَرِثُ
مِنَ النِّسَاءِ سَبْعٌ: الْبِنْتُ وَبِنْتُ الِابْنِ وَإِنْ سَفُلَتْ،
وَالْأُمُّ وَالْجَدَّةُ وَإِنْ عَلَتْ، وَالْأُخْتُ وَالزَّوْجَةُ،
وَمَوْلَاةُ النِّعْمَةِ وَهِيَ الْمُعْتَقَةُ.
[b]لَمَّا قَالَ تَعَالَى: “فِي أَوْلادِكُمْ”
يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَلَدٍ كَانَ مَوْجُودًا أَوْ جَنِينًا فِي بَطْنِ
أُمِّهِ، دَنِيًّا أَوْ بَعِيدًا، مِنَ الذُّكُورِ أَوِ الْإِنَاثِ مَا
عَدَا الْكَافِرَ كَمَا تَقَدَّمَ. قال بعضهم: ذلك حقيقة في الأذنين
مَجَازٌ فِي الْأَبْعَدَيْنَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ حَقِيقَةٌ فِي
الْجَمِيعِ، لِأَنَّهُ مِنَ التَّوَلُّدِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ يَرِثُونَ
عَلَى قَدْرِ الْقُرْبِ مِنْه، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ}.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ))
وقَالَ: ((يَا بَنِي إِسْمَاعِيلَ ارْمُوا فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ
رَامِيًا)) إِلَّا أَنَّهُ غَلَبَ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ فِي إِطْلَاقِ
ذَلِكَ عَلَى الْأَعْيَانِ الْأَدْنَيْنَ عَلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ،
فَإِنْ كان فِي وَلَدِ الصُّلْبِ ذَكَرٌ لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِ
الولدِ شيءٌ، وَهَذَا مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ. وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ فِي وَلَدِ الصُّلْبِ ذَكَرٌ وَكَانَ فِي وَلَدِ الْوَلَدِ
بُدِئَ بِالْبَنَاتِ لِلصُّلْبِ، فَأُعْطِينَ إِلَى مَبْلَغِ
الثُّلُثَيْنِ، ثُمَّ أُعْطِيَ الثُّلُثُ الْبَاقِي لِوَلَدِ الْوَلَدِ
إِذَا اسْتَوَوْا فِي الْقُعْدُدِ، أَوْ كَانَ الذَّكَرُ أَسْفَلَ مِمَّنْ
فَوْقَهُ مِنَ الْبَنَاتِ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. هَذَا
قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَبِهِ قَالَ
عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ، إِلَّا مَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ
كَانَ الذَّكَرُ مِنْ وَلَدِ الْوَلَدِ بِإِزَاءِ الولد الْأُنْثَى رُدَّ
عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ أَسْفَلَ مِنْهَا يُرَدُّ عَلَيْهَا، مُرَاعِيًا
فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ}
فَلَمْ يَجْعَلْ لِلْبَنَاتِ وَإِنْ كَثُرْنَ إِلَّا الثُّلُثَيْنِ.
ذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ هَذَا التَّفْصِيلَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ،
وَالَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَاجِيُّ عَنْهُ: أَنَّ مَا
فَضَلَ عَنْ بَنَاتِ الصُّلْبِ لِبَنِي الِابْنِ دُونَ بَنَاتِ الِابْنِ،
وَلَمْ يُفَصِّلَا. وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ.
وَنَحْوَهُ حَكَى أَبُو عُمَرَ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ
ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: وَإِذَا اسْتَكْمَلَ الْبَنَاتُ الثُّلُثَيْنِ
فَالْبَاقِي لِبَنِي الِابْنِ دُونَ أَخَوَاتِهِمْ، وَدُونَ مَنْ
فَوْقَهُمْ مِنْ بَنَاتِ الِابْنِ، وَمَنْ تَحْتَهُمْ. وَإِلَى هَذ