عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم ... سورة آل عمران، الآية: 193 الثلاثاء أبريل 16, 2013 3:41 am | |
| رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ. (193) قولُه ـ تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا}. المنادي هو مُحَمَّد ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَلَيْسَ كُلُّهُمْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. دَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِي الْجِنِّ إِذْ قَالُوا: {إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} الجن: 1 ـ 2. وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ فَقَالُوا: مَنْ سَمِعَ الْقُرْآنَ فَكَأَنَّمَا لَقِيَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا صحيح معنى. و"للإيمان" أَيْ بِأَنْ آمِنُوا. وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ سَمِعْنَا مُنَادِيًا لِلْإِيمَانِ يُنَادِي، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى، أَيْ إِلَى الْإِيمَانِ، كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ} المجادلة: 8. وقوله: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها} الزلزلة: 5. وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا} الأعراف: 43. أَيْ إِلَى هَذَا، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَقِيلَ: هِيَ لَامُ أَجْلٍ، أَيْ لِأَجْلِ الْإِيمَانِ. والآيةُ مِنْ تَمامِ الحِكايَةِ عن المُتفكِّرين في خلقِ السمواتِ والأرضِ. والمُنادي هو الرسولُ أوِ القرآنُ الكريمُ، وإذا كان ذكرُ اللهِ يُربّي القلبَ، والتَفَكُّرُ يَهديه، وهما معا يَرفعان المؤمنَ إلى مَرتبةِ الخوفِ منَ اللهِ، فإنَّ التَذَكُّرَ للهِ والتَفَكُّرَ في خلقِه يَفتَحُ أيضًا القلبَ للتصديقِ والإذْعانِ للحقائقِ، ولذلك كان من ثمراتِ التَفَكُّرِ إجابةُ نداءِ الحقِّ، والإيمانِ باللهِ ورسولِه والغيبِ، وأسند السمعَ إلى الشخصِ لِكمالِ الانتِباهِ إليْه، ولأنَّ شخصَ المُنادي لَه أثرٌ في حُسْنِ الاسْتِماعِ لأنَّه رسولٌ مِن عندِ اللهِ، فما اقتَنعوا بالحقِّ لذاتِ الحَقِّ فقط، بل لأنَّ الداعيَ صادقٌ أَمينٌ.وأَطلَقَ المُنادي، ثمَّ ذَكرَ بعد ذلك أنَّه يُنادِي بالإيمانِ وذَلكَ لِما فيه مِنْ إبْهامٍ بعدَه بيانٌ، فيكونُ البيانُ أكثرَ ثَباتًا، ولأنَّ الإطلاقَ أَعطى المُنادي تَفخيمًا وتكبيرًا، ولأنَّ النِّداءَ إلى الحَقِّ اعتُبِرَ كالعُنوانِ له.وذَكرَ الإيمانَ مُطلَقًا على أنَّه إيمانٌ بالرَبِّ، وذلك للدَلالَةِ على الإذعانِ المُطلَقِ للهِ وللحقِّ والهُدى، وقد أجابوا نِداءَ الإيمانِ فقالوا: "فآمنا". وسماعُ النِّداءِ لَا يَلزَمُ أنْ يكونَ مِنْ شخصِ المُنادي، بل يَعُمُّ السَماعَ مِن شَخصِه وتتبُّعِ رسالتَه مِن بعدِه.قولُه: {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُئوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنَا وَتَوَفَنَا مَعَ الأَبْرَارِ} لقد كان التفكُّر والتَذَكُّرُ للهِ سببًا في قوَّةِ إحساسِهم بِهَفواتِهم ونِسيانِهم حسناتِهم وخشوعِهم لِربِّهم وخضوعهم، ولذلك طلبوا ثلاثةَ أُمورٍ: أوَّلُها: الغُفرانُ إحساسًا بتَقصيرِهم وفضلِ ربِّهم. وثانيها: تكفيرُ السيئاتِ، أيْ الأمورِ التي تُسيءُ في ذاتِها، والفَرقُ بيْن الذنبِ والسيئةِ، أنَّ السيئةَ عصيانٌ فيه إساءةٌ، والذنبُ فيه تقصيرٌ وتباطؤٌ عن الخيرِ والغُفران، والتَكفيرُ سَتْرٌ، ولكنَّ الأوَّلَ يَتضمَّنُ معنى عدمِ العِقابِ، والثاني يتضمَّن ذَهابَ أثرِ الإساءةِ. والمَطلَبُ الثالثُ الذي طَلبوه هو أنْ يتوفاهمُ اللهَ معَ الأبرارِ، أي يُميتُهم معَ الأبرارِ بأنْ يَسْلُكوا طريقَ الاستقامةِ في الدُنيا حتَّى يَخرُجوا منها مع المُسْتَقيمين الأبرارِ الأخيارِ.قوله ـ تعالى : {سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي} سمع: إنْ دَخَلَتْ على ما يَصِحُّ أن يُسْمع نحو: "سمعتُ كلامَك وقراءتَك" تعدَّت لواحدٍ، وإنْ دخلتْ على ما لا يَصِحُّ سماعُه بأنْ كان ذاتاً فلا يَصِحُّ الاقتصارُ عليه وحدَه، بل لا بدَّ مِن الدَلالةِ على شيءٍ يُسْمَعُ نحو: "سمعتُ رجلاً يَقولُ كذا، وسمعتُ زيداً يتكلَّم".وللنَّحْويّين في هذه المسألةِ قولان، أحدُهما: أنَّها تتعدَّى فيه أيضاً إلى مفعولٍ واحدٍ، والجملةُ الواقعةُ بعدَ المَنصوبِ صفةٌ إنْ كان قبلَها نكرةٌ، وحالاً إنْ كان معرفة. والثاني: قولُ الفارسيِّ وجَماعةٌ تتعدَّى لاثنين الجُملةُ في محلِّ الثاني منهما. فعلى قولِ الجُمهورِ يَكونُ "يُنادي" في محلِّ نصبٍ لأنَّه صِفةٌ لِمنصوبٍ قبلَه، وعلى قول الفارسي يكونُ في محلِّ نصبٍ على أنَّه مفعولٌ ثانٍ. وقال الزمخشريُّ: "تقول: سمعتُ رجلاً يقول كذا، وسمعتُ زيداً يتكلَّمُ، فَتُوْقِعُ الفعلَ على الرجلِ، وتَحْذِفُ المَسموعَ لأنَّك وَصَفْتَه بما يُسمَعُ أو جَعَلْتَه حالاً مِنْه فأغناكَ عن ذِكرِهِ ، ولولا الوَصْفُ أوِ الحالُ لم يكنْ منه بدٌّ، وأن تقولَ: سَمِعْتُ كلامَ فلانٍ أو قولَه". وهذا قولُ الجمهورِ الذي قَدَّمْتُ لك ذكرَه. إلاَّ أنَّه اعتُرضَ عليْه فقيل: "قولُه: ولولا الوصفُ أوِ الحالُ إلى آخرِه ليس كذلك، بلْ لا يكونُ وصفٌ ولا حالٌ ومعَ ذلك تَدْخُل "سمع" على ذاتٍ لا على "مسموعٍ" كقولِه ـ تعالى: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} الشعراء: 72. فأغنى ذِكْرُ ظَرْفِ الدُعاءِ مِن المسموعِ".وأجازَ أبو البَقاءِ في "يُنادي" أنْ يَكونَ في مَحَلِّ نَصبٍ على الحالِ مِنَ الضَميرِ المُستَكِنِّ في "منادياً".فإنْ قيلَ: فما الفائدةُ في الجَمْعِ بيْنَ "مُنادٍ" و"ينادي"؟ فأجابَ الزَمخشريُّ بأنَّه ذَكَرَ النِداءَ مُطلَقاً ثمَّ مقيَّداً بالإِيمان تَفخيماً لشأنِ المُنادي لأنَّه لا مُناديَ أعظمُ مِن منادٍ للإِيمان، وذلك أنَّ المنادِيَ إذا أطلق ذَهَبَ الوَهْمُ إلى منادٍ للحَربِ أو لإِطفاءِ الثائرةِ أو لإِغاثةِ المكروبِ أوْ لِكِفايَةِ بعضِ النَوازِلِ أوْ لِبعضِ المَنافِعِ، فإذا قلتَ: "ينادِي للإِيمان" فقد رَفَعْتَ من شأنِ المُنادي وفَخَّمْتَه.وأجابَ أبو البَقاءِ عنْه بثلاثةِ أَجوِبَةٍ أحدُها: التوكيدُ نحو: قُمْ قائماً. الثاني: أنَّه وُصِلَ بِه ما حَسَّنَ التَكريرَ وهو "للإِيمان". الثالثُ: أنَّه لوِ اقْتُصِرَ على الاسْمِ لَجازَ أنْ نَسمَعَ مَعروفاً بالنِداءِ يَذْكُرُ ما ليْسَ بِنِداءٍ فلمَّا قال "يُنادِي" ثبَتَ أنَّهم سَمِعوا نداءَه في هذه الحالِ.ومفعولُ "ينادي" محذوفٌ أي: يُنادي الناسَ. ويَجوزُ ألاَّ يرادَ مَفعولٌ نحو: {أَمَاتَ وَأَحْيَا} النَّجمُ: 44. و"نادى" و"دعا" يتعدَّيان باللامِ تارةً وبـ "إلى" أُخرى، وكذلك "نَدَبَ". قالَ الزمخشريُّ: "وذلك أنَّ معنى انتهاءِ الغايةِ ومعنى الاختصاصِ واقعان جميعاً" فاللامُ في موضِعِها، ولا حاجةَ إلى أَنْ يقال: إنَّها بمعنى "إلى" ولا إنها بمعنى الباء، ولا إنها لام العِلَّةِ أي: لأجلِ الإِيمانِ كما ذهبَ إلى ذلك بعضُهم.قوله: {أَنْ آمِنُواْ} في "أَنْ" قولان، أحدُهما: أنَّها تفسيريَّةٌ لأنَّها وَقَعتْ بعد فعلٍ بمعنى القولِ لا حُروفِه، وعلى هذا فلا موضعَ لها من الإِعراب. والثاني: أنَّها المصدريَّةُ وُصِلَتْ بفعلِ الأمرِ، وفي وصلها به نظرٌ مِن حيثُ إنَّها إذا انْسَبَكَ منها ومِمَّا بعدَها مصدرٌ تفوتُ الدَلالةُ على الأَمريَّة، واستدلُّوا على وَصْلِها بالأمر بقولهم: "كَتَبْتُ إليه بأنْ قُمْ" فهي هنا مِصريَّةٌ ليس إلا، وإلاَّ يَلزمْ تعليقُ حرفِ الجَرِّ. وإذ قيلَ بأنَّها مَصدرِيَّةٌ فالأصلُ التَعدِّي إليْها بالباء أي: بأنْ آمنوا، فيكونُ فيها المذهبان المشهوران: الجَرُّ والنَصْبُ.وقولُه: {فَآمَنَّا} عطفٌ على "سَمِعْنا"، والعطفُ بالفاءِ مؤذِنٌ بتَعجيلِ القَبُولِ وتَسَبُّبِ الإِيمانِ عن السَّماعِ من غيرِ مُهْلَةٍ، والمَعنى: فآمَنَّا بربنا.قولُه: {مَعَ الأبرار} ظرفٌ متعلِّق بما قبلَه، أيْ: تَوَفَّنا مَعدودين في صُحْبَتِهم. وقيل: تُجُوَّزَ بِه هُنا عَنِ الزَّمانِ. ويَجوزُ أنْ يَكونَ حالاً مِنَ المَفعولِ فيتعلَّقُ بِمحذوفٍ، وأجازَ مَكيّ وأبو البَقاءِ أنْ تَكونَ صِفَةً لِمحذوفٍ أيْ: أبراراً مَع الأبرارِ كقولِ النابغة: كأنَّك مِنْ جِمالِ بني أُقَيْشٍ ................... يُقَعْقَعُ خلفَ رِجْلَيْه بشَنِّأي: كأنَّك جَمَلٌ مِنْ جِمالِ. ويكونُ "أبراراً" حالاً، ولا حاجةَ إلى دَعوى ذلك. والأبرارُ يَجوزُ أنْ يَكونَ جمعَ "بارٍّ" كصاحِبٍ وأَصْحابٍ، أو بَرّ بِزِنَةِ "كَتِف" نحو: كَتِف وأكتاف. | |
|