عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم ... سورة آل عمران، الآية: 185 الخميس أبريل 11, 2013 3:00 am | |
| كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ.
(185) قولُه ـ سبحانه وتعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت} أي نازلٌ بها لا مَحالَةَ فكأنَّها ذائقتُه وهو وعْدٌ ووَعيدٌ للمُصدِّقِ والمُكذِّبِ وفيه تأكيدٌ للتَسْلِيَةِ له ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ لأنَّ تَذَكُّرَ الموتِ واسْتِحضارَه ممّا يُزيلُ الهُمومَ والأشجانَ الدِنيويَّةَ. وَهَذَا مِمَّا لَا مَحِيصَ عَنْهُ لِلْإِنْسَانٍ، وَلَا مَحِيدَ عَنْهُ لِحَيَوَانٍ. وَقَدْ قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:مَنْ لَمْ يَمُتْ عَبْطَةً يَمُتْ هَرَمًا ................ للموت كأس والمرء ذَائِقُهَاوَقَالَ آخَرُ:الْمَوْتُ بَابٌ وَكُلُّ النَّاسِ دَاخِلُهُ ......... فَلَيْتَ شَعْرِيَ بَعْدَ الْبَابِ مَا الدَّارُوفي الخبرِ (أَكثِروا ذِكرَ هازِمِ اللذَّاتِ فإنَّه ما ذُكِرَ في كَثيرٍ إلَّا وقلَّلَهُ ولا في قليلٍ إلَّا وَكثَّره). وكذا العِلمُ بأنَّ وراءَ هذه الدارِ داراً أُخرى يَتميَّزُ فيها المُحسِنُ عنِ المُسيءِ ويَرى كلٌّ منهُما جَزاءَ عملِه، وهذه القَضيَّةُ الكُلِّيَّةُ لا يُمكِنُ إجْراؤها على عمومِها لِظاهِرِ قولِه ـ تعالى: {فَصَعِقَ مَن فِي السمواتِ وَمَنْ فِي الأرضِ إِلاَّ مَن شَاء اللهُ} الزمر: 68. وإذا أُريدَ بالنفسِ الذاتُ كَثُرَتْ المُستثنياتُ جِدّاً، والجُمهورُ على دخولِ المَلائكةِ في هذا العُمومِ. فعن ابنِ عبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ أنَّه قال: لمَّا نَزَلَ قولُه ـ تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} الرحمن: 26. قالت الملائكةُ: ماتَ أهلُ الأرضِ فلمّا نَزَلَ قولُه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموتِ} قالتِ المَلائكةُ: مِتْنا، ووُقوعُ الموتِ للأنفُسِ في هذه النَّشْأةِ الحَيَوانيَّةِ الجِسمانيَّةِ مما لا ريْبَ فيه إلَّا أنَّ الحُكَماءَ بَنَوْا ذلك على أنَّ هذه الحياةَ لا تَحصُلُ إلَّا بالرُّطوبةِ والحَرارةِ الغَريزيَّتيْن. ثمَّ إنَّ الحرارةَ تؤثِّرُ في تَحليلِ الرُّطوبةِ، فإذا قَلَّتِ الرُّطوبةُ ضَعُفَتِ الحَرارةُ ولا تَزالُ هذه الحالُ مُستمِرَّةً إلى أنْ تَفنى الرُّطوبةُ الأصليَّةُ فتَنطفئُ الحرارةُ الغَريزيَّةُ ويَحصُلُ الموتُ، ومِنْ هُنا قالوا: إنَّ الأرواحَ المُجرَّدةَ لا تَموتُ ولا يُتَصوَّرُ موتُها إذْ لا حَرارةَ هناك ولا رُطوبةَ، وقد ناقَشَهم المُسلمون في ذلكَ والمَدارُ عندَهم على حرارةِ الـ "كافِ" ورُطوبَةِ "الـ "نونِ"، ولعلَّهم يُفرِّقون بيْنَ موتٍ وموتٍ، وقد اسْتُدِلَّ بالآيةِ على أنَّ المَقتولَ مَيْتٌ، وعلى أنَّ النفسَ باقيَةٌ بعدَ البدنِ لأنَّ الذائقَ لا بُدَّ أنْ يَكونَ باقياً حالَ حصولِ المَذُوقِ.ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ لِلْمَوْتِ أَسْبَابًا وَأَمَارَاتٍ، فَمِنْ عَلَامَاتِ مَوْتِ الْمُؤْمِنِ عَرَقُ الْجَبِينِ. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْمُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ الْجَبِينِ". فَإِذَا احْتُضِرَ لُقِّنَ الشَّهَادَةَ، لِقَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)). لِتَكُونَ آخِرَ كَلَامِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِالشَّهَادَةِ، وَلَا يُعَادُ عَلَيْهِ مِنْهَا لِئَلَّا يَضْجَرَ. وَيُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ "يس" ذَلِكَ الْوَقْتَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((اقْرَءُوا يس عَلَى مَوْتَاكُمْ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَذَكَرَ الْآجُرِيُّ فِي كِتَابِ النَّصِيحَةِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((مَا مِنْ مَيِّتٍ يُقْرَأُ عِنْدَهُ سُورَةُ يس إِلَّا هُوِّنَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ)). فَإِذَا قُضِيَ وَتَبِعَ الْبَصَرُ الرُّوحَ ـ كَمَا أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ـ وَارْتَفَعَتِ الْعِبَادَاتُ وَزَالَ التَّكْلِيفُ، تَوَجَّهَتْ عَلَى الْأَحْيَاءِ أَحْكَامٌ، مِنْهَا: تَغْمِيضُهُ. وَإِعْلَامُ إِخْوَانِهِ الصُّلَحَاءِ بِمَوْتِهِ. وَكَرِهَهُ قَوْمٌ وَقَالُوا: هُوَ مِنَ النَّعْيِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَمِنْهَا الْأَخْذُ فِي تَجْهِيزِهِ بِالْغُسْلِ وَالدَّفْنِ لِئَلَّا يُسْرِعَ إِلَيْهِ التَّغَيُّرُ، قَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِقَوْمٍ أَخَّرُوا دَفْنَ مَيِّتِهِمْ: ((عَجِّلُوا بِدَفْنِ جيفتكم)). وقال: ((أسرِعوا بالجنازة)) الحديث.فَأَمَّا غُسْلُهُ فَهُوَ سُنَّةٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ حَاشَا الشهيدَ على ما تقدَم. وقيل: غُسْلُهُ وَاجِبٌ. قَالَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ. وَالْأَوَّلُ: مَذْهَبُ الْكِتَابِ، وَعَلَى هَذَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْعُلَمَاءُ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ قَوْلُهُ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ ـ لِأُمِّ عَطِيَّةَ فِي غُسْلِهَا ابْنَتَهُ زَيْنَبَ، عَلَى مَا فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ. وَقِيلَ: هِيَ أُمُّ كُلْثُومٍ، عَلَى مَا فِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ: ((اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ))، الْحَدِيثَ. وَهُوَ الْأَصْلُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فِي غَسْلِ الْمَوْتَى. فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْأَمْرِ بَيَانُ حُكْمِ الْغُسْلِ فَيَكُونُ وَاجِبًا. وَقِيلَ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَعْلِيمُ كَيْفِيَّةِ الْغُسْلِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ. قَالُوا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ((إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ)). وَهَذَا يَقْتَضِي إِخْرَاجَ ظَاهِرِ الْأَمْرِ عَنِ الْوُجُوبِ، لِأَنَّهُ فَوَّضَهُ إِلَى نَظَرِهِنَّ. قِيلَ لَهُمْ: هَذَا فِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ رَدَّكَ ((إِنْ رَأَيْتُنَّ)) إِلَى الْأَمْرِ، لَيْسَ السَّابِقَ إِلَى الْفَهْمِ بَلِ السَّابِقُ رُجُوعُ هَذَا الشَّرْطِ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَهُوَ ((أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ))، أَوْ إِلَى التَّخْيِيرِ فِي الْأَعْدَادِ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ مَشْرُوعٌ مَعْمُولٌ بِهِ فِي الشَّرِيعَةِ لَا يُتْرَكُ. وَصِفَتُهُ كَصِفَةِ غُسْلِ الْجَنَابَةِ عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَلَا يُجَاوِزُ السَّبْعَ غَسَلَاتٍ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ بِإِجْمَاعٍ، عَلَى مَا حَكَاهُ أَبُو عُمَرَ. فَإِنْ خَرَجَ منه شيءٌ بَعْدَ السَّبْعِ غَسَلَ الْمَوْضِعَ وَحْدَهُ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْجُنُبِ إِذَا أَحْدَثَ بَعْدَ غُسْلِهِ. فَإِذَا فَرَغَ من غسله كفنه في ثيابِه وهي: وَالتَّكْفِينُ وَاجِبٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَمِنْ رَأْسِ مَالِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ: مِنَ الثُّلُثِ كَانَ الْمَالُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا. فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مِمَّنْ تَلْزَمُ غَيْرَهُ نَفَقَتُهُ فِي حَيَاتِهِ مِنْ سَيِّدٍ ـ إِنْ كَانَ عَبْدًا ـ أَوْ أَبٍ أَوْ زَوْجٍ أَوِ ابْنٍ، فَعَلَى السَّيِّدِ بِاتِّفَاقٍ، وَعَلَى الزَّوْجِ وَالْأَبِ وَالِابْنِ بِاخْتِلَافٍ. ثُمَّ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ أَوْ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكِفَايَةِ. وَالَّذِي يَتَعَيَّنُ مِنْهُ بِتَعْيِينِ الْفَرْضِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعُمُّ جَمِيعَ الْجَسَدِ غُطِّيَ رَأْسُهُ وَوَجْهُهُ، إِكْرَامًا لِوَجْهِهِ وَسَتْرًا لِمَا يَظْهَرُ مِنْ تَغَيُّرِ مَحَاسِنِهِ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا قِصَّةُ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، فَإِنَّهُ تَرَكَ يَوْمَ أُحُدٍ نَمِرَةً كان إِذَا غُطِّيَ رَأْسُهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غُطِّيَ رِجْلَاهُ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ضَعُوهَا مِمَّا يَلِي رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الْإِذْخِرِ)). أَخْرَجَ الْحَدِيثَ مُسْلِمٌ. وَالْوِتْرُ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ فِي الْكَفَنِ، وَكُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَدٌّ. وَالْمُسْتَحَبُّ مِنْهُ الْبَيَاضُ قَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَكُفِّنَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ. وَالْكَفَنُ فِي غَيْرِ الْبَيَاضِ جَائِزٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَرِيرًا أَوْ خَزًّا. فَإِنْ تَشَاحَّ الْوَرَثَةُ فِي الْكَفَنِ قُضِيَ عَلَيْهِمْ فِي مِثْلِ لِبَاسِهِ فِي جُمُعَتِهِ وَأَعْيَادِهِ قَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. إِلَّا أَنْ يُوصِيَ بِأَقَلِّ مِنْ ذَلِكَ. فَإِنْ أَوْصَى بِسَرَفٍ قِيلَ: يَبْطُلُ الزَّائِدُ. وَقِيلَ: يَكُونُ فِي الثُّلُثِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِقَوْلِهِ تعالى: {وَلا تُسْرِفُوا} الأنعام: 141. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّهُ لِلْمُهْلَةِ. فَإِذَا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ وَوُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ وَاحْتَمَلَهُ الرِّجالُ على أعناقِهم فَالْحُكْمُ الْإِسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ وَإِنْ تَكُنْ غَيْرَ ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ)). وقراءةُ القرآنِ. رَوَى النَّسَائِيُّ: عُيَيْنَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: شَهِدْتُ جِنَازَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ وَخَرَجَ زِيَادٌ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيِ السَّرِيرِ، فَجَعَلَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَوَالِيهِمْ يَسْتَقْبِلُونَ السَّرِيرَ وَيَمْشُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ وَيَقُولُونَ: رُوَيْدًا رُوَيْدًا، بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمْ! فَكَانُوا يَدِبُّونَ دَبِيبًا، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ طَرِيقِ المريد لَحِقَنَا أَبُو بَكْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ عَلَى بغلةٍ فلمّا رَأَى الَّذِينَ يَصْنَعُونَ حَمَلَ عَلَيْهِمْ بِبَغْلَتِهِ وَأَهْوَى إِلَيْهِمْ بِالسَّوْطِ فَقَالَ: خَلُّوا! فَوَالَّذِي أَكْرَمَ وَجْهَ أَبِي الْقَاسِمِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَقَدْ رأينا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَإِنَّهَا لِنَكَادَ نَرْمُلُ بِهَا رَمْلًا، فَانْبَسَطَ الْقَوْمُ. وَرَوَى أَبُو مَاجِدَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ سَأَلْنَا نَبِيَّنَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ عَنِ الْمَشْيِ مَعَ الْجِنَازَةِ فَقَالَ: ((دُونَ الْخَبَبِ إِنْ يَكُنْ خَيْرًا يُعَجَّلُ إِلَيْهِ وَإِنْ يَكُنْ غَيْرَ ذَلِكَ فَبُعْدًا لِأَهْلِ النَّارِ)). الْحَدِيثَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَالَّذِي عَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ الْإِسْرَاعُ فَوْقَ السَّجِيَّةِ قَلِيلًا، وَالْعَجَلَةُ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْإِبْطَاءِ. وَيُكْرَهُ الْإِسْرَاعُ الَّذِي يَشُقُّ عَلَى ضَعَفَةِ النَّاسِ مِمَّنْ يَتْبَعُهَا. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: بَطِّئُوا بِهَا قَلِيلًا وَلَا تَدِبُّوا دَبِيبَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَقَدْ تَأَوَّلَ قَوْمٌ الْإِسْرَاعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ تَعْجِيلَ الدَّفْنِ لَا الْمَشْيِ، وَلَيْسَ بشيءٍ لِما ذكرنا. وبالله التوفيق. وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَيْهِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ كَالْجِهَادِ. هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ: مالك وغيره، لقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي النَّجَاشِيِّ: ((قُومُوا فَصَلُّوا عَلَيْهِ)). وَقَالَ أَصْبَغُ: إِنَّهَا سُنَّةٌ.وَأَمَّا دَفْنُهُ فِي التُّرَابِ وَدَسُّهُ وَسَتْرُهُ فَذَلِكَ وَاجِبٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} المائدة: 31. وَهُنَاكَ يُذْكَرُ حُكْمُ بُنْيَانِ الْقَبْرِ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ، وَكَيْفِيَّةُ جَعْلِ الْمَيِّتِ فِيهِ. وَيَأْتِي فِي "الْكَهْفِ" حُكْمُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَلَيْهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ أَحْكَامِ الْمَوْتَى وَمَا يَجِبُ لَهُمْ عَلَى الْأَحْيَاءِ. وَعَنْ عَائِشَةَ ـ رضي الله عنها ـ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ عَنْهَا أَيْضًا قَالَتْ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هَالِكٌ بِسُوءٍ فَقَالَ: ((لا تذكروا هلكاكم إلَّا بخيرٍ)).وقولُه: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمُ القيامة} أيْ تُعطَوْنَ أَجْزِيَةَ أعمالِكم وافيَةً تامَّةً "يَوْمُ القيامة" أي وقتَ قيامِكم منَ القُبورِ، فالقِيامَةُ مصدرُ والوحدةِ لقيامِهم دُفعةً واحدةً، وفي لفظِ التوفيَةِ إشارةٌ إلى أنَّ بعضَ أُجورِهم مِنْ خيرٍ أو شَرٍّ تَصِلُ إليْهم قبلَ ذلك اليومِ، ويُؤيِّدُه ما أَخرَجَه التِرمِذِيُّ عن أبي سعيدٍ الخِدرِيِّ والطَبَرانيُّ في "الأوسط" عن أبي هُريرةَ مَرفوعاً ((القبرُ روضةٌ مِن رياضِ الجنَّةِ أو حُفرةٌ مِن حُفَرِ النيران)).وقولُه: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النارِ} أيْ بَعُد يومئذٍ عن نارِ جهنَّم، وأصلُ الزَحْزَحةِ تكريرُ الزَحِّ، وهو الجذبُ بعَجَلةٍ، وقد أُريدَ هنا المَعنى اللازمُ. ويفهم من هذه الآية الكريمةِ أنَّ الأصلَ دخولُ النارِ بالنظر إلى عمل الخلق، والزحزحةُ عنها ودخولُ الجنَّةِ إنَّما هو الاستثناءُ من ذلك بمحض الكرم الإلهي لقوله تبارك وتعالى في سورة مريم: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} مريم: 71، 72. ولقوله عليه الصلاةُ والسلام فيما أخرجه الطبرانيُّ وغيرهُ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ))، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ بِرَحْمَةٍ، أَوْ يَسَعَنِي مِنْهُ مُعَافَاةٌ)). وقد قيلَ إنَّ مِنْ فضلِ اللهِ عليكَ أنْ خَلَقَ ونَسَبَ إليك، وهي عبارةٌ لابنِ عطاءٍ السكندريِّ رضي اللهُ عنه طالَما سمعتُ شيخَنا العارفَ باللهِ، الشيخ عبد الرحمن الشاغوري رضيَ الله عنه يُردِّدُها، فالطاعةُ والعباداتُ كلُّها هي فضلٌ منه ـ سبحانَه ـ ومِنَّةٌ فبِمَ تَدخُلُ الجنَّةَ إلَّمْ يَكنْ بِفَضْلِهِ؟ بالصلاةِ وهي نعمةٌ منه عظيمةٌ أنْ دَعاكَ لِتَقِفَ بيْنَ يَديْهِ وتَتَصِلَ بِه أمْ بالزَكاةِ وقدْ أعكاكَ الكَثيرَ لِتُعطيَ أَخاك جُزءً يسيراً منْه، أمْ بالصِيامِ الذي هو صِحَّةٌ لكَ، أمْ بماذا؟ هذا إذا أحسنتَ ولم تُسِئِ الأَدَبَ مع مولاكَ فيه، كأنْ تَغفُلَ عمَّنْ تُخاطِبُ في صلاتِك فإذا أنتَ تُخاطِبُ زَوجَكَ أوْ وَلَدَك أو صديقَك أو... وأنتَ تقولُ إيَّاكَ نعبُدُ وإيَّاكَ نَستعينُ، و قد تَرى أنَّكَ المُتَصدِّقُ على غيرِك، ومَولاكَ هو الذي أعطاكَ عَشْراً وأَمْرَكَ أنْ تُعطيَ أخاكَ واحدةً منها، فإذا بِنَفْسِكَ يُداخِلُها العُجْبُ أنَّك أنتَ غنيٌّ وهذا فقيرٌ يَحتاج لمساعدتِك، وهكذا ... وعلى هذا فطاعتك تحتاج إلى توبةٍ وإنابةٍ فماذا تدخل الجنة إلم يكن بمحضِ فضلِه سبحانه وتعالى؟. وقولُه: {وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} قال ابنُ عبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما ـ أي سَعِدَ ونَجا، وأصلُ الفوزِ الظَفَرُ بالبُغْيَةِ، وبعضُ الناسِ قدَّرَ له هُنا متعلِّقاً أيْ فازَ بالنَّجاةِ ونَيْلِ المُرادِ، ويُحتَمَلُ أنَّه حُذِفَ للعُمومِ أيْ بكلِّ ما يُريدُ، وفي الخبر (لَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكم في الجَنَّةِ خيرٌ مِن الدُنيا وما فيها ثمَّ قَرَأَ رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ هذه الآية). وأخرجَ أحمد ومسلم عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَر قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أَحَبَّ أنْ يُزحزَحَ عن النارِ ويُدخَلَ الجنَّةَ فلْتُدْرِكْه مَنيَّتُه وهو يُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ ويأتي إلى الناسَ ما يُحِبُّ أنْ يُؤتى إليه)). وذَكَرَ دُخولَ الجنَّةِ بعدَ البُعْدِ عن النَّارِ لأنَّه لا يَلزَمُ مَن البُعدِ عنها دُخولُ الجَنَّةِ كما هو ظاهر.قولُه: {وَمَا الحياة الدنيا إِلاَّ متاعُ الغرورِ} متاعُ الحياةِ: لَذّاتُها وشَهواتُها وزينتُها "إِلاَّ متاع الغرور" المتاع ما يُتَمَتَّعُ بِه ويُنتَفَعُ بِه مما يُباعُ ويُشْتَرى وقد شبَّهها سبحانَه بذلك المَتاعِ الذي يُدَلَّسُ بِه الشاري ويُغَرُّ حتّى يَشتريهِ إشارةً إلى غايةِ رَداءتِها عندَ مَنْ أَمعنَ النَظَرَ فيها يقول أبو نواسٍ:إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ............ له عن عدو في ثياب صديقوَلَقَدْ أَحْسَنَ أبو العتاهية إذ قَالَ:هِيَ الدَّارُ دَارُ الْأَذَى وَالْقَذَى .................... وَدَارُ الْفِنَاءِ وَدَارُ الْغِيَرْفَلَوْ نِلْتَهَا بِحَذَافِيرِهَا ....................... لَمُتَّ وَلَمْ تَقْضِ مِنْهَا الْوَطَرْأَيَا مَنْ يُؤَمِّلُ طُولَ الْخُلُودْ ..................... وَطُولُ الْخُلُودِ عَلَيْهِ ضَرَرْإِذَا أَنْتَ شِبْتَ وَبَانَ الشَّبَابْ ............. فَلَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَ الْكِبَرْوعن قَتادةُ هي مَتاعٌ متروكٌ أوشكتْ واللهِ أنْ تَضمَحِلَّ عن أهلِها فخُذوا مِن هذا المَتاعِ طاعةَ اللهِ ـ تعالى ـ إنِ اسْتطعتم ولا قوَّةَ إلَّا بالله، وعن عليٍّ ـ كرَّمَ اللهُ وجهَهُ ـ هي لَيِّنٌ مَسُّها قاتلٌ سُمُّها، وقيلَ: الدُنيا ظاهرُها مَظَنَّةُ السرورِ وباطنُها مَطيَّةُ الشُرورِ، وذَكَرَ بعضُهم أنَّ هذا التشبيهَ بالنِسبةِ لِمن آثرَها على الآخرةِ، وأمَّا مَن طَلَبَ بِها الآخرةَ فهي له متاعُ بَلاغٍ، وفي الخبرِ (نِعمَ المالُ الصالحُ للرجلِ الصالحِ)، والمُرادُ بالنفسِ ـ هنا ـ الروحُ، والحاملُ له على تفسيرِها بذلك التأنيثُ في قولِه ذائقةُ لأنَّها بِمعنى الروحِ مؤنَّثةً وتُطلَقُ أيْضاً على مَجموعِ الجَسَدِ والروحِ الذي هو الحيوانُ، وهي بهذا المعنى مُذكَّرٌ، وهذا المعنى الثاني تَصِحُّ إرادتُه ـ هنا ـ أيضاً بلْ هو الأقربُ المُتَبادِرُ إلى الفَهمِ.قوله ـ تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموتِ} مبتدأٌ وخبرٌ، وسَوَّغَ الابتداءَ بالنكرةِ العمومُ أو الإِضافةُ. والجمهورُ على "ذَائِقَةُ الموت". بخفض "الموت" بالإِضافة، وهي إضافةُ غيرُ محضةٍ لأنَّها في نِيَّةِ الانْفصالِ. وقرأ اليزيديُّ: "ذائقةٌ الموتَ" بالتنوين والنصبِ في "الموت" على الأصل. وقرأ الأعمشُ بعدمِ التنوين ونصبِ "الموت"، وذلك على حذف التنوين لالتقاء الساكنين وإرادتِه، وهو كقولِ الآخَرِ: فألفَيْتُه غيرَ مُسْتَغْتِبٍ ............................ ولا ذاكرَ اللهَ إلا قليلابنصب الجلالةِ، وقراءةُ منْ قرأ: {قل هو الله أحدُ اللهُ} بحذف التنوين من "أحد" لالتِقاء الساكنين.ونقل أبو البقاء فيها قراءةً غريبةً وتخريجاً غريباً قال: ويُقْرأ أيضاً شاذاً: "ذَائِقَةُ الموت" على جعل الهاء ضمير "كل" على اللفظ، وهو مبتدأ أو خبر". انتهى. وإذا صَحَّتْ هذه قراءةً فيكونُ "كل" مبتدأً، و"ذائقُةُ" خبرٌ مقدَّمٌ، و"الموتُ" مبتدأ مؤخَّرٌ، والجملةُ خبرُ "كل"، وأُضيفَ "ذائق" إلى ضمير "كل" باعتبارِ لفظِها، ويكون هذا من باب القلبِ في الكَلامِ؛ لأنَّ النفسَ هي التي تَذوقُ الموتَ وليس الموتُ يذوقُها، وهنا جَعَلَ الموتَ هو الذي يَذوقُ النفسَ قلْباً للكلامِ لِفهمِ المعنى، كقولِهم: "عَرَضْتُ الناقة على الحوضِ"، ومنه: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار} الأحقاف: 20. و"أَدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ في رأسي. وقوله: مثلُ القنافِذِ هَدَّاجون قد بلغَتْ .......... نجرانُ أو بُلِّغَتْ سواءِتهمْ هَجَرُالأصلُ: عَرَضْتُ الحوض على الناقةِ، ويَوْم تُعْرَضُ النارُ عليهم، وأدخلت رأسي في القَلَنْسوة، وبُلِّغَتْ سوءاتُهم هجراً، فَقَلب، وسيأتي خلاف الناس في القلب بأشبعَ من هذا عند موضعِه، وكان أبو البقاء قد قَدَّم قبل هذا أنَّ التأنيثَ في "ذائقة" إنَّما هو باعتبار معنى "كل"، وقال: لأنَّ كلَّ نفسٍ نفوسُ، ولو ذُكِّر على لفظِ "كل" جاز، يعني أنَّه لو قيلَ: "كلُّ نفس ذائقٌ كذا" جازَ، وقد تقدَّم لك أوَّلَ البقرةِ أنَّه يَجِبُ اعتبارُ لفظِ ما تُضاف إليه "كل" إذا كان نَكِرةً، ولا يَجوزُ أن تَعْتَبِر "كلَ"، وتحقيقُ هذه المسألةِ هناك.قوله: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ} ما: كافةٌ لـ "إنَّ" عن العملِ وقد تقدَّم مثلُها. وقال مكيّ: ولا يجوزُ أَنْ تكونَ "ما" بمعنى الذي لأنَّه يَلزَمُ رفعُ "أُجورَكم"، ولم يَقْرأ به أحدٌ؛ لأنَّه يصيرُ التقديرُ: وإنَّ الذي تُوَفَّوْنَه أجورُكم، كقولك: "إنَّ الذي أكرمتموه عمروٌ" وأيضاً فإنك تفرِّق بين الصلةِ والموصولِ بخبرِ الابتداءِ يَعني لو كانت "ما" موصولةً لكانت اسمَ "إنَّ" فيلزمُ حينئذٍ رفعُ "أجوركم" على خبرِها كقولِه تعالى: {إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ} طه: 69، فـ "ما" هنا يجوزُ أن تكونَ بمعنى الذي أو مصدريةً تقديرُه: إنَّ الذي صَنَعوه أو: إنَّ صُنْعَهم، ولذلك رُفِع "كيدُ" خبَراً لها. وقولُه: "وأيضاً فإنَّك تفرِّقُ" يعني أن "يوم القيامة" متعلِّقٌ بـ "تُوَفَّوْن" فهو من تمامِ الصِلَةِ، فلو كانتْ "ما" موصولةً لفَصَلْتَ بالخبرِ الذي هو "أجوركم" بيْن أبعاضِ الصلةِ التي هي الفعلُ ومعمولُه، ولا يُخْبَر عن موصولٍ إلَّا بعد تَمامِ صِلتِه، وهذا وإنْ كانَ من الواضحاتِ إلا أنَّ فيه تنبيهاً على أصولِ العلمِ.وأَدغَمَ أبو عَمْرٍو الحاءَ مِنْ "زُحْزِحَ" في العينِ هنا خاصَّة، قالوا: لِطولِ الكلمةِ وتكريرِ الحاءِ، دونَ قولِه: {ذُبِحَ عَلَى النُصُبِ} المائدة: 3. {المسيح عِيسَى} آل عمران: 45. ونُقِل عنه الإِدغامُ مطلقاً وعدمُه مطلقاً، والنحويون يمنعون ذلك، ولا يُجيزونه إلَّا بعد أنْ يَقْلبوا العينَ حاءً، ويُدْغِمون الحاءَ فيها قالوا: لأنَّ الأقوى لا يُدْغَمُ في الأضعفِ، وهذا عكسُ الإِدغامِ، لأنَّ الإِدغامَ أَنْ تَقْلِبَ فيه الأولَ للثاني، إلّا في مسألتين إحداهما: هذه، والثانية الحاء في الهاء نحو: امدحْ هذا "لا تُقْلَبُ الهاء حاء أيضاً"، ولذلك طَعَنَ بعضُهم على قراءةِ أبي عَمْرٍو، ولا يُلْتَفتُ إليْه.والغُرورُ: يَجوزُ أَنْ يكون مصدراً وأَنْ يكونَ جمعاً. وقرأ عبدُ اللهِ بفتحِ الغين، وفُسِّر بالشيطانِ، ويَجوزُ أَنْ يكونَ فَعولاً بمعنى مَفْعول أي: مَتاع المَغرورِ، أي: المَخْدوع، وأصلُ الغَرَرِ: الخَدْعُ. | |
|