عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم ... سورة آل عمران، الآية: 59 الخميس ديسمبر 13, 2012 5:28 pm | |
| إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) قولُه جَلَّ ذِكرُه: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ} خُصوصيَّةٌ لآدم وعيسى عليهما السلامُ بتطهير روحيْهِما عن التَقلُّبِ في الأَصلابِ، وأَفرَدَ آدمَ بصفَةِ البَدْءِ؛ وعيسى بنفخِ الروح فيه على وجهِ الإعْزازِ. فكان بذلك الخلق على أوجهٍ ثلاثةٍ، فقد خلق آدمَ دون أبٍ وأمُّ فلا مذكَّرَ ومؤنَّث إذ ذاك، ثمَّ خلق حواء من ضلع آدم، أي من مذكرٍ دون مؤنَّثٍ وخلق عيسى من أنثى دون ذَكرٍ فاكتملت بذلك كل الأوجه الممكنة للخلق والإيجاد.وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ في وَفْدِ نَجْرَانَ حِينَ أَنْكَرُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ: ((إِنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ)). فَقَالُوا: أَرِنَا عَبْدًا خُلِقَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((آدَمُ مَنْ كَانَ أَبُوهُ أَعَجِبْتُمْ مِنْ عِيسَى لَيْسَ لَهُ أَبٌ؟ فَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ لَهُ أَبٌ وَلَا أُمٌّ)). وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ قَالُوا: قَدْ كُنَّا مُسْلِمِينَ قَبْلَكَ. فَقَالَ: ((كَذَبْتُمْ يَمْنَعُكُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ ثَلَاثٌ: قَوْلُكُمُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَأَكْلُكُمُ الْخِنْزِيرَ، وَسُجُودُكُمْ لِلصَّلِيبِ)). فَقَالُوا: مَنْ أَبُو عِيسَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ" الآيةُ إلى قوله: {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ} آل عمران: 61. فَدَعَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ بعضُهم لِبَعْضٍ: إِنْ فَعَلْتُمُ اضْطَرَمَ الْوَادِي عَلَيْكُمْ نَارًا. فَقَالُوا: أَمَا تَعْرِضُ عَلَيْنَا سِوَى هَذَا؟ فَقَالَ: ((الْإِسْلَامُ أَوِ الْجِزْيَةُ أَوِ الْحَرْبُ)). فَأَقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ.وقد بيَّنَ اللهُ تعالى في هذه الآيةِ أنْ ليس أمرُ عيسى بأَعْجَبَ مِنْ أمرِ آدمَ. إذ هو لم يُخْلَقْ مِن ذَكَرٍ ولا أُنثى وعلى نحوِه دَلَّ قولُه: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ}. وقولُه: "عِنْدَ اللَّهِ". أي في حكمِهِ، وأنَّ ذلك لا يَشُقُّ عليه كما لم يَشُقَّ عليه أنْ خَلَقَ آدمَ مِنْ غيرِ أَبويْن. وقولُه لآدم "كُنْ" بعد أنْ خلَقَه مِن تُرابٍ، معناهُ كُنْ إنسانًا حيًّا ناطقًا، وهو لم يَكنْ كذلِك، بلْ كان دَهْرًا جَسَدًا مُلقًى لا روحَ فيه ـ وقد مرَّ تفصيلُ ذلك في سورة البقرة ـ على ما رُوي في الخبر، ثم جُعل فيه الرُّوحَ، و"كن" عبارةً عن إيجادِ الصورةِ التي بِها صار الإِنسانُ إنسانًا، وعلى هذا قال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فالمَقولُ لهُ الجَسَدُ، وقد تقدَّمَ الكلامُ في "كن". وإذا كان ـ سبحانه ـ قادرًا على خلقِ إنسانٍ حيٍّ مِن غيرِ أبٍ ولا أُمٍّ، ومِنْ مادَّةٍ ليس من شأنِها أنْ يَتكوَّن منْها إنسانٌ حيٌّ، فأَوْلى أَنْ يَكونَ قادرًا على خلقِ إنسانٍ مِنْ غيرِ أبٍ، ومِنْ أُمٍّ هي إنسانٌ يَلِدُ ويَحيا ويَموتُ، وهي وِعاءٌ لحياةِ الإنسانِ وهو جَنينٌ؛ وإذاً فلا غَرابةَ في خلقِ عيسى مِن غيرِ أبٍ، وما كان يَصِحُّ أنْ يَكونَ هذا دافعًا لهذا الضلالِ المُبين.والنَصُّ الكريمُ فوق ما تَضمَّنَه مِن حُجَّةٍ دامغةٍ تَقطعُ دعوى المُبطِلين، هو بَيانٌ لِقُدرَةِ اللهِ تعالى العَلِيِّ القديرِ في خلقِ الأَحياءِ وخلقِ الأشياءِ، مِن حيثُ إنَّها تُخلَقُ بإرادتِهِ المُختارةِ، وأنَّه بهذه الإرادةِ يُخلَقُ الحيُّ مِنْ غيرِ الحَيِّ، ويُخلَقُ الحَيُّ على غيرِ النِّظامِ الجاري مَجرى العادةِ في التكوين والتوالُدِ، ولا تَصدُرُ عنه الأشياءُ كما يَصدُرُ المَعلولُ عن عِلَّتِه، وإلَّا ما كان مِن الطينِ إنسانٌ حيٌّ ناطقٌ هو أبو الخليقةِ آدمُ عليه السلام. ولذا بيَّن ـ سبحانَه ـ عِظَمَ إرادتِه في خلق آدمَ بقولِه: "ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ". فليس الأمرُ إلَّا أنْ تتَّجِه الإرادةُ إلى تكوينِ شيءٍ فتكونَ الاستجابةُ التكوينيَّةُ، ويكونَ الأمرُ كما أرادَ سبحانه.قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى} المثلُ الشبيهُ والجملةُ مُستَأنَفَةٌ لا تَعَلُّقَ لها بما قبلَها تَعلُّقاً صناعيًاً بل معنوياً، وزَعَمَ بعضُهم أنَّها جوابٌ لَقَسَمٍ، وذلك القَسَمُ هو قولُهُ: {والذكر الحكيم} في الآيةِ السابقةِ، كأنَّه قيلَ: أٌقْسِمُ بالذِّكْرِ الحَكيمِ إِنَّ مَثَلَ عيسى، فيكونُ الكلامُ في الآيةِ السابقةِ قد تَمَّ عندَ قولِه: {من الآياتِ} ثمَّ استَأنَفَ قَسَماً، فتكون الواوُ ـ بحسب هذا الزعمِ ـ حرفَ جَرٍّ لا حَرفَ عَطفٍ لأنها عند ذلك ستكون الموطئةَ للقَسَمِ، وهذا بعيدٌ أو ممتنعٌ، إذْ فيه تفكيكٌ لِنَظْمِ القرآنِ وإذهابٌ لرونَقِه وفَصاحتِه.قولُه: {كَمَثَلِ آدَمَ} قال بعضُهم: إنَّ الكافَ زائدةٌ، وبعضُهم قال: إنَّ "مَثَل" زائد. فقد تحصَّل في الكاف ثلاثة أقوالٍ، أظهرُها: أنَّها على بابِها مِن الحَرْفيَّةِ وعدمِ الزِّيادة. وشُبِّه به وقد وُجِد هو بغيرِ أبٍ، ووُجِدَ آدمُ بغيرِ أبٍ ولا أُمٍّ لأنه هو مثلُه في أحدِ الطرفين، فلا يَمْنَعُ اختصاصُه دونَه بالطرفِ الآخرِ مِنْ تشبيهِه به، لأنَّ المماثلَة مشاركةٌ في بعضِ الأوصافِ، ولأنَّه شُبِّه به في أنَّه وُجِدَ وُجودًا خارجًا عن العادةِ المستمرَّةِ وهما في ذلك نظيران، ولأنَّ الوُجودَ مِن غيرِ أبٍ وأُمٍّ أغربُ وأَخرَقُ للعادةِ من الوُجودِ بغيرِ أبٍ، فَشَبَّه الغريبَ بالأغْرَبِ لِيَكونَ أَقْطَعَ للخَصْمِ وأَحْسَمَ لمادَّةِ شُبْهتِه.قولُه: {مِن تُرَابٍ} فيه وجهان، أظهرُهما: أنَّه متعلِّقٌ بـ "خلَقَه" أي: ابتداءُ خلقِه مِن هذا الجِنسِ، والثاني: أنَّه حالٌ مِن مفعولِ "خلقه" تقديرُه: خَلَقه كائناً مِنْ تراب، وهذا لا يساعِدُه المعنى.قولُه: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} في هذه الجملةِ وجهان، أَظهرُهُما: أنَّها مُفسِّرةٌ لِوَجْهِ التَّشبيهِ بيْن المَثَليْنِ، فلا مَحَلَّ لَها حينئذٍ مِنَ الإِعراب. والثاني: أنَّها في مَحَلِّ نصبٍ على الحالِ مِن آدمَ ـ عليه السلام ـ و"قد" معه مقدرةٌ، والعاملُ فيها معنى التشبيه، والهاءُ في "خَلَقه" عائدةٌ على آدمَ، ولا تعودُ على عيسى لِفَسادِ المعنى، ولا يجوزُ أن يكون "خَلَقَهُ" صلةً لآدمَ ولا حالاً منه، إذِ الماضي لا يكونُ حالاً أنتَ فيها، بل هو كلامٌ مقطوعٌ منه مُضَمَّنٌ تفسيرَ الشأن. وقولُه: {كُن فَيَكُونُ} اختلفوا في المَقولِ لَه: "كُنْ" فالأكثرون على أنَّه آدمُ عليه السلام، وعلى هذا يقعُ الإِشكالُ في لفظِ الآيةِ، لأنَّه إنَّما يقولُ له: "كن" قبلَ أنْ يَخلُقَه لا بعدَه، وههنا يقولُ: "خَلَقه" ثمَّ قالَ له: "كن"، والجواب: أنَّ اللهَ تعالى أخبرَنا أوَّلاً أنَّه خَلَقَ آدمَ مِنْ غيرِ ذَكَرٍ ولا أنثى، ثمَّ ابتدأَ خبَراً آخَرَ، أرادَ أَنْ يُخْبِرَنا به فقال: إنِّي مُخبِرُكم أيضًا بعد خبري الأوَّلِ أَنِّي قلتُ له: "كن" فكان، فجاء بـ "ثمَّ" لِمَعنى الخَبَرِ الذي تقدَّمَ والخَبَرُ الذي تأخَّرَ في الذِّكرِ، لأنَّ الخَلْقَ تقدَّم على قولِهِ "كن"، وهذا كما تقول: "أُخْبِرُك أني أُعطيك اليوم ألفاً، ثمَّ أُخبرك أني أعطتيك أمسِ قبلَه ألفاً فأمس متقدِّمَ على اليوم، وإنَّما جاءَ بثم لأنَّ خبرَ اليوم متقدِّمٌ خبرَ أمسِ، وجاءَ خبرُ أمس بعد مُضِيِّ خبرِ اليوم، ومثله قولُه: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} الزمر: 6 وقد خَلَقها بعد خَلْقِ زوجِها، ولكنَّ هذا على الخبرَ دون الخَلْقِ، لأنَّ التأويلَ: أخبرَكم أَنّي قد خلقتُكم مِنْ نفسٍ واحدةٍ؛ لأنَّ حَوَّاءَ قد خُلِقتْ مِنْ ضِلعِه، ثمَّ أُخبِرُكم أَنّي خَلَقتُ زوجَها منها، ومثلُ هذا مِمَّا جاء في الشعرِ قولُه: إنَّ مَنْ ساد ثمَّ سادَ أَبوهُ ..................... ثمَّ قد سادَ قبلُ ذلِك جَدُّهُومعلومٌ أنَّ الأبَ متقدِّمٌ لَه والجَدَّ متقدمٌ لِلأبِ، فالترتيبُ يعودُ إلى الخبرِ لا إلى الوُجودِ.وقولُه: {فَيَكُونُ} يَجوزُ أَنْ يَكونَ على بابِه مِنْ كونِه مُستَقبَلاً، والمَعنى: فيكونُ كما يأمُرُ اللهُ فيَكونُ حِكايَةً للحالِ التي يَكونُ عليها آدمُ، ويَجوزُ أنْ يَكونَ "فيكونُ" بمعنى "فكان"، وعلى هذا أكثرُ المفسرين والنحويين، وبهذا فَسَّره ابنُ عباسٍ رضيَ اللهُ عنه. وقال: "فيكون" لأنَّ "يكون" عبارةً عن حالِ كونِه. ولم يَقُلْ كنْ فكان، وهو المُناسِبُ للماضي، وذلك لأنَّ التعبيرُ بالمُضارعِ دائمًا فيه تصويرٌ وإحضارٌ للصورةِ الواقعةِ كما وَقَعَتْ، ومِنْ جهةٍ أُخرى فصيغَةُ المُضارِع في هذا المَقامِ تُنبئُ عمَّا كانَ، وتومِئُ إلى ما يَكونُ بالنِّسبَةِ لِخَلقِ اللهِ تعالى المُستَمِرِّ في المستقبلَ كما كان في الماضي. | |
|