عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم ... سورة آل عمران، الآية: 79 الأحد ديسمبر 23, 2012 10:40 am | |
| مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) قولُهُ تبارك وتعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} أيْ ليس مِن صِفَةِ مَنْ اخترناه للنُبُوَّةِ واصطفيناهُ للوِلايةِ أنْ يَدْعُوَ الخلقَ إلى نَفسِه، لأن اختيارَه ـ سبحانه ـ إياهم للنبُوَّةِ يتضمَّنُ عِصمَتَهم عَمَّا لا يَجوزُ، فتجويزُ ذلك في وصفِهم مُنافٍ لِحالِهم، وإنَّما دُعاءُ الرُسُلِ الخلقَ إلى اللهِ وحدَهُ، وهو معنى قولِه تعالى: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} والربَّاني منسوبٌ إلى الربِّ، وهمُ العُلُماءُ بالله الحُلَماءُ في الله القائمون على شرعِ الله. الرَّبَّانِيُّونَ أَرْبَابُ الْعِلْمِ، وَاحِدُهُمْ رَبَّانُ، وَالرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ، وَكَأَنَّهُ يَقْتَدِي بِالرَّبِّ سُبْحَانَهُ فِي تَيْسِيرِ الْأُمُورِ. ولمَّا ماتَ ابنُ عبَّاسٍ قال محمَّدٌ بنُ الحَنَفِيَّةِ: ماتَ اليومَ رَبَّانيُّ هذه الأُمَّةِ. وقولُه "مَا كانَ" مَعْنَاهُ مَا يَنْبَغِي، كَمَا قَالَ: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} النساء: 92 وَ {مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} مريم: 35. وَ {مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا} النور: 16. يَعْنِي مَا يَنْبَغِي. وَالْبَشَرُ يَقَعُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا عِيسَى فِي قَوْلِ الضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ. وَالْكِتَابُ: الْقُرْآنُ. وَالْحُكْمُ: الْعِلْمُ وَالْفَهْمُ. وَقِيلَ أَيْضًا: الْأَحْكَامُ. أَيْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَصْطَفِي لِنُبُوَّتِهِ الْكَذَبَةَ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بَشَرٌ لَسَلَبَهُ اللَّهُ آيَاتِ النُّبُوَّةِ وَعَلَامَاتِهَا. وَنَصَبَ {ثُمَّ يَقُولَ} عَلَى الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ "أَنْ يُؤْتِيَهُ" وَبَيْنَ "يَقُولَ" أَيْ لَا يَجْتَمِعُ لِنَبِيٍّ إِتْيَانُ النُّبُوَّةِ وَقَوْلُهُ: "كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ". "وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ" أَيْ وَلَكِنَّ النبيَّ يقولَ للناسِ "كُونُوا رَبَّانِيِّينَ". وَهَذِهِ الْآيَةُ قِيلَ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ. وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا إِلَى قَوْلِهِ: "وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ" آل عمران: 121 كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا نَصَارَى نَجْرَانَ وَلَكِنْ مَزَجَ مَعَهُمُ الْيَهُودَ، لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا مِنَ الْجَحْدِ وَالْعِنَادِ فِعْلَهُمْ. قولُه تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ} "أَنْ يؤتيَه" اسمُ كان و"لبشر" خبرُها. وقولُه: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ} عطفٌ على "يؤتيه"، وهذا العطفُ لازمٌ من حيث المَعنى، إذ لو سَكَتَ عنه لم يَصِحَّ المعنى، لأنَّ الله تعالى قد آتى كثيرًا من البشرِ الكِتابَ والحكمَ والنُبوَّةَ، وهذا كما يقولون في بعض الأحوالِ والمفاعيلِ: إنَّها لازمة، فلا غروَ أيضًا في لُزومِ المَعطوف. ومعنى مجيء هذا النفي في كلام العرب نحوَ: ما كان لزيد أن يفعلَ، ونحوَه نفيُ الكونِ، والمُرادُ نفيُ خبرِه، وهو على قِسميْن: قسم يكونُ النفيُ فيه من جهة الفعل، ويُعَبَّر عنه بالنفيِّ التامِّ نحوَ هذه الآيةِ، لأنَّ اللهَ تعالى لا يُعْطي الكتابَ والحكمَ والنُّبوَّةَ لِمَنْ يقولُ هذه المَقالةَ الشَنْعاءَ، وقسم يكونُ النفيُ فيه على سبيلِ الانتقاءِ كقولِ أبي بَكْرٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ (ما كان لابنِ أبي قُحافةَ أنْ يُقدَّمَ فيُصلِّي بيْن يَدَيْ رَسولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم)، ويُعْرَفُ القسمانِ من السياق.وقرأ العامَّةُ: "يقولَ" بالنصبِ نسَقًا على "يؤتيَه"، وقرأ ابنُ كثيرٍ في روايةِ شبلٍ بنِ عبَّادٍ، وأبو عَمْرٍو في روايةِ محبوبٍ: "يقول" بالرفع، وخرَّجوها على القَطْعِ والاستئنافِ، وهو مُشْكِلٌ لِما قَدَّمتُه مِنْ أنَّ المَعنى على لُزومِ ذكرِ هذا المعطوف، إذْ لا يَستقِلُّ ما قبله لِفسادِ المَعنى فيَكونُ "يقولون" على القَطع والاستئناف.قوله: {عِبَاداً} مِنْ جموعِه أيضاً عَبيدٌ وعِبِدَّى. قالَ بعضُ اللُّغويِّين: هذه الجُموعُ كلُّها بمعنى، وقال بعضُهم: العِبادُ للهِ، والعبيدُ والعِبِدّى للبشرِ، وقال بعضُهم: العِبِدَّى إنَّما يُقالُ في العَبْدِ مِن العَبيدِ كأنَّه مُبالَغةٌ تقتضي الإِغراق في العبوديَّة، و"العِبادُ" جمعُ "عبدٍ" متى سيقت اللفظةُ في مِضمارِ الترَفُّعِ والدَّلالَةِ على الطاعةِ دونَ أَنْ يَقترِنَ بها مَعنى التَحقيرِ وتصغيرِ الشأنِ، وانظر قولَه: {والله رَؤُوفٌ بالعباد} البقرة: 207 و{عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} الأنبياء: 26 و{يا عبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} الزُمَر: 53، وقولَ عيسى في معنى الشفاعة والتعريض: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} المائدة: 118، وأمَّا ا ومنه: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} فصلت: 46لعبيدُ فيُستعملُ في التحقير، ومنه قولُه تبارك وتعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} فُصِّلت: 46. لأنَّه مَكانُ تَشفيقٍ وإعلامٍ بقلَّة انتصارِهم ومَقدِرتِهم، وأنَّه تعالى ليس بظلامٍ لهم مع ذلك، ولمَّا كانتْ لفظةُ العبادِ تقتضي الطاعةَ لم تقع هنا، ولذلك أُنِسَ بها في قولِه تعالى: {قُلْ يا عبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} الزُمَر: 53. فهذا النوعُ من النظر يَسْلُك بك سبيلَ العَجائب في فصاحةِ القرآن. ومنه قولُ امرئِ القيس: قولا لدودانَ عبيدِ العَصا ........................ ما غَرَّكم بالأسدِ الباسلِوقوله: "لي" صفةٌ لِعبادٍ، و"مِنْ دون" متعلِّقٌ بلفظِ "عباد" لِما فيه مِنْ معنى الفِعلِ، يَجوزُ أَنْ يَكونَ صفةً ثانيةً وأَنْ يكونَ حالاً لتخصُّصِ النَكِرَةِ بالوصف.قولُه: {ولكن كُونُواْ} أي: ولكن يقولُ كونوا، فلا بُدَّ مِن إضمارِ القولِ هنا. والرَّبَّانِيُّون جمع ربَّانِيّ ، وفيه قولان ، أحدهما أنه منسوب إلى الرَّبِّ، والألف والنون فيه زائدتان في النَسَبِ دَلالةً على المُبالغة كـ "رقبَاني وشَعْراني ولِحْياني" للغليظ الرقبَةِ والكثيرِ الشعرِ والطويلِ اللِّحْيَةِ، ولا تُفْردُ هذه الزيادةُ عن النَسَبِ، أَمَّا إذا نَسَبوا إلى الرقبة والشعر واللحية من غير مبالغة قالوا: رَقَبي وشَعْري ولَحَوي، هذا معنى قول سيبويهِ. والثاني: أنَّه منسوبٌ إلى رَبَّان والربَّان هو المُعَلِّمُ للخيْرِ ومَنْ يَسوسُ النَّاسَ ويُعَّرِّفهم أمرَ دينِهم، فالألفُ والنونُ دالَّتان على زيادةِ الوصفِ كهي في عَطْشان ورَيَّان وجَوْعَان ووَسْنان، وتكونُ النسبةُ على هذا في الوصفِ نحو أَحْمريّ، قال العجّاجُ: أطَرباً وأنت قِنَّسْرِيُّ ............................ والدهرُ بالإِنسانِ دَوَّارِيُّوقال سيبويه: زادوا ألفًا ونونًا في الرَّباني أرادوا تخصيصًا بعلمِ الرَّبِّ دونَ غيرِه من العلومِ. قولُه: {بِمَا كُنتُمْ} الباء سببيَّةٌ أي: كونوا علماءَ بِسبَبِ كونِكم. وفي متعلَّقِ هذه الباءِ حينئذٍ قولان معتبران الأول: أنَّه مُتعلِّقةٌ بـ "كونوا". والثاني: أنْ تتعلَّقَ بـ "ربانيين"، لأنَّ فيه معنى الفعل. و"ما » مصدريَّةٌ.وقرأ نافعٌ وابنُ كثيرٍ وأبو عَمْرٍو: "تَعْلَمُون" مفتوحٌ حرفُ المُضارَعَةِ، ساكنُ العينِ مفتوحُ اللّامِ من: عَلِمَ يَعْلَم، أي: تعرِفون فيتعدّى لِواحدٍ، وباقي السبعةِ بضمِّ حرفِ المُضارَعَةِ وفتحِ العينِ وتشديدِ اللَّامِ مَكسورةً، فيَتعدَّى لاثْنيْنِ أوَّلُهُما مَحذوفٌ، تقديرُه: تُعَلِّمون الناسَ الكِتابَ، ويجوزُ ألاَّ يُرادَ مفعولٌ، أي: كنتم مِن أهلِ تعليمِ الكِتابِ ، وهو نَظيرُ: أطعمِ الخُبْزَ، فالمقصودُ الأهمُّ إطعامُ الخُبْزِ مِن غيرِ نَظَرٍ إلى مَنْ يُطْعِمُه، فالتضعيفُ فيه للتعديَةِ.وقد رَجَّح جماعةٌ هذه القراءةَ على قراءةِ نافعٍ بأنَّها أَبْلَغُ؛ وذلك أَنَّ كلَّ مُعَلِّمٍ عالمٌ، وليس كلُّ عالمٍ مُعَلماً، فالوصفُ بالتعليم أبلغُ، وبأنَّ قبلَه ذِكْرَ الربَّانيِّينَ، والربَّانيُّ يَقتَضي أَنْ يَعْلَمَ ويُعَلِّمَ غيرَه، لا أنْ يَقْتَصِرَ بالعِلم على نفسِه.ورجَّحَ بعضُهم الأولى بأنَّه لم يُذْكَرْ إلَّا مفعولٌ واحدٌ والأصلُ عدمُ الحذفِ، والتَخفيفُ مُسَوِّغٌ لذلك بخِلافِ التَشديدِ، فإنَّه لا بُدَّ مِنْ تقديرِ مفعولٍ، وأيضًا فهو أوْفَقُ لِتَدْرُسون. والقراءتان متواترتان فلا يَنبغي تَرجيحُ إحداهُما على الأُخرى.وقرأ الحسنُ ومجاهدٌ: "تَعَلَّمون" فتَحَ التاءَ والعينَ واللامَ مشدَّدةً مِنْ "تعلَّم" والأصل: تتعلَّمون بتاءيْن فحُذِفَتْ إحداهما. {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} كالذي قبلَه. والعامَّةُ على "تَدْرُسون" بفتحِ التاءِ وضمِّ الراءِ مِن الدَّرْسِ وهو مُناسِبٌ لَتَعْلَمون مِنْ عَلِمَ ثُلاثِيًّا.وقرأ أبو حَيَوَةَ في إحدى الرِّوايتيْنِ عنه "تَدْرِسُون" بكسرِ الراءِ وهي لغةٌ ضعيفةٌ، يُقالُ: دَرَسَ العلم يَدْرِسه بكسر العيْن في المُضارِعِ وهما لُغتان في مُضارِعِ دَرَسَ، وقرأ هو أيضًا في روايةٍ: "تُدَرِّسون" مِنْ دَرَّسَ بالتَشديدِ، وفيه وجهان، أحدُهما: أنْ يكونَ التَضعيفُ فيه للتكثيرِ، فيكون موافقاً لقراءة تَعْلَمون بالتخفيف. والثاني: أنَّ التضعيفَ للتَعْدِيَةِ ويكون المفعولان محذوفيْن لِفهمِ المَعنى، والتقديرُ: تُدَرِّسون غيرَكم العلمَ أي: تَحْمِلُونَهم على الدَّرْسِ. وقُرئَ "تُدْرِسون" من أَدْرَسَ، كـ تُكْرِمُون مِنْ أَكْرَمَ على أنَّ أَفْعَلَ بمعنى فَعَّلَ بالتشديد، فأَدْرَسَ ودَرَّسَ واحدٌ كأكرَمَ وكَرَّمَ وأَنْزَلَ ونَزَّل.والدَّرْسُ: التَّكرارُ والإِمعانُ على الشيءِ ومنه: دَرَسَ زيدٌ الكتابَ والقرآنَ يَدْرُسُهُ ويَدْرِسُه أيْ كَرَّرَ عليه، ويُقالُ: دَرَسْتُ الكتابَ أي: تناوَلْتُ أثرَه بالحفظ.ولمَّا كانَ ذلك بمداومَةِ القرآنِ عَبَّرَ عنْ إِدامةِ القرآنِ بالدَّرْسِ، ودَرَسَ المنزلُ: ذَهَبَ أثرُهُ وطَلَلٌ عافٍ ودارسٌ بمعنًى. | |
|