عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم ... سورة آل عمران، الآية: 129 الخميس مارس 07, 2013 7:06 pm | |
| وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) قولُه ـ تعالى شأنُه: {وللهِ ما في السمواتِ وما في الأرضِ} كلامٌ مستأنَفٌ سِيقَ لبيانِ اختِصاصِ مُلْكِيَّةِ جميعِ الكائناتِ بِه ـ تعالى ـ من المَوجودات خلْقًا ومُلْكًا لا مَدْخِلَ فيه لأحدٍ أصلًا، فلَه الأمرُ كلُّه وسُلْطانُه في هذا مُطلَقٌ لَا قَيْدَ يُقَيِّدُه، لأنَّه الحَكَمُ المُطلَقُ الذي لَا يُرَدُّ حُكْمُه، والقادرُ المُهيْمِنُ القاهرُ فوق عِبادِهِ، وهذه الآيةُ تأكيدٌ للنَفْيِ السابقِ في قولِه تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} إثْرَ بيانِ اختِصاصِ طَرَفٍ مِن ذلك بِه ـ عَزَّ شأنُه ـ تقريراً لِما سَبَقَ وتَكْمِلَةً لَه. قولُه: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء: أنْ يَغفِرَ له مِنَ المؤمنين فلا يُعاقِبُه على ذنبه فضلاً منْه "وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء" أنْ يعذِّبَه عَدْلاً منه، وإيثارُ كلمةِ "مَنْ" في الموضعيْن لاختِصاصِ المَغفِرَةِ والتعذيبِ بالعُقَلاءِ، وتقديمُ المَغْفِرَةِ على التعذيبِ للإيذانِ بِسَبْقِ رحمتِه ـ تعالى شأنُه ـ على غَضَبِه.وظاهرُ الآيةِ يَدُلُّ على أنَّ مغفرةَ اللهِ ـ تعالى ـ وتعذيبُه غيرُ مُقيَّديْن بشيءٍ، بلْ قدْ يُدَّعى أنَّ التَقييدَ مُنافٍ للسياقِ إذْ هو لإثباتِ أنَّه ـ سبحانَه ـ المالكُ على الإطلاقِ فلَه أنْ يَفعَلَ ما يَشاءُ لا مانعَ لَه مِنْ مَشيئتِه ولو كانت مَغفِرَتُه مُقَيَّدَةً بالتَوْبَةِ وتعذيبُه بالظلمِ لم يَكُنْ فاعِلاً لِما يَشاءُ بلْ لِما تَسْتَدْعيهِ التوبةُ أوِ الظُلْمُ، فالآيةُ ظاهرةٌ في نفيِ الوُجوبِ على اللهِ ـ تعالى ـ وأنَّه يَجوزُ أنْ يَغفِرَ ـ سبحانَه ـ للمُذنِبِ ويُعذِّب المُصْلِحَ وهو مَذْهَبُ الجَماعةِ. وذَهَبَ المُعتزِلَةُ إلى أنَّ المَغفِرَةَ مشروطَةٌ بالتَوبَةِ فمَن لم يَتُبْ لا يَجوزُ أنْ يُغفَرَ لَه أَصْلاً، وتَمَسَّكوا في ذلك بوجهيْن: الأوَّل: الآياتُ والأحاديثُ الناطقةُ بِوَعيدِ العُصاةِ، الثاني: أنَّ المُذْنِبَ إذا عَلِمَ أنَّه لا يُعاقَبُ على ذنْبِهِ كان ذلك تَقريراً لَه وإغراءً للغيْرِ عليْه وهذا يُنافي حِكْمَةَ إرْسالِ الرُسُلِ ـ صلواتُ اللهِ تعالى وسلامُه عليهم، وحَمَلوا هذه الآيةَ على التقييدِ وخَصُّوا أَمثالَها مِن المُطْلَقاتِ بالصَّغائرِ أوِ الكَبائرِ المَقرونَةِ بالتوبةِ، وقالوا: إنَّ المُرادَ يَغفِرُ لِمنْ يَشاءُ إذا تابَ وجعلوا القَرينَةَ على ذلك أنَّه ـ تعالى ـ أعْقَبَ قولَه ـ سبحانه: {أَوْ يُعَذّبَهُمْ} آل عمران: 128. بقولِهِ جَلَّ شأنُه: {فَإِنَّهُمْ ظالمون} آل عمران: 128. وهو دليلٌ على أنَّ الظُلْمَ هو السببُ المُوجِبُ فلا تَعذيبَ بِدونِه ولا مَغْفِرةَ معَ وُجودِه فهو مُفَسِّرٌ "لِمَن يَشَاء" وأَيَّدوا كوْنَ ذلك هو المُرادُ بِما رُويَ عنِ الحَسَنِ في الآية: "يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ" بالتوبةِ ولا يَشاءُ أنْ يَغْفِرَ إلَّا للتائبين "وَيُعَذّبُ مَن يَشَاءُ" ولا يَشاءُ أنْ يُعذِّبَ إلَّا للمُسْتَوْجِبين، وبما رُويَ عن عَطاء "يَغْفِرُ لِمَن" يَتوبُ عليْه "وَيُعَذّبُ مَنْ" لَقيَه ظالِماً؛ والجَماعةُ تَمَسَّكوا بإطلاقِ الآياتِ، أمَّا عن الأوَّلِ: فبأنَّ تلكَ الآياتِ والأحاديثَ على تقديرِ عُمومِها إنَّما تَدُلُّ على الوقوعِ دون الوُجوبِ والنِّزاعِ فيه، على أنَّ كَثْرَةَ النُّصوصِ في العَفْوِ تخصُّ الذنبَ المَغفورَ عن عمومات الوعيد، وأمَّا عن الثاني: فبأَنَّ مُجرَّدَ جَوازِ العَفْوِ لا يُوجِبُ ظَنَّ عدمِ العِقابِ فضْلاً عَنِ الجَزْمِ بِه، وكيف يُوجِبُ جَوازَ العفوِ العلم بعدم العقاب والعمومات الواردة في الوعيد المقرونة بغاية من التهديد ترجح جانب الوقوع بالنسبة إلى كلِّ واحدٍ وكفى به زاجراً فكيف يكون العِلمُ بجوازِ العفو تقريراً وإغراءً على الذنب مع هذا الزاجر.وأيضاً إن الكثير من المعتزلة خصوا مثل قوله تعالى: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً}، الزمر: 53. بالصغائر فلو كان جواز العفو مستلزماً كما زعموا للعلم بعدم العقاب لزم اشتراك الإلزام بأن يقال: إن المرتكب للصغائر إذا علم أنه لا يعاقب على ذنبه كان ذلك تقريراً له وإغراءً للغير عليه وفيه من الفساد ما فيه، وما جعلوه قرينة على التقييد معارض بما يدل على الإطلاق أعني قوله: "وَللَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض" فإنَّه معطوفٌ معنًى على قولِه جلَّ اسمُه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ} آل عمران: 128. ويَدُلُّ ذلك على أنَّ له ـ سبحانه ـ التصرُّفُ المُطلَقُ وهو على خلاف ما يقولون حيث جعلوا تصرُّفَه ومشيئتَه مقيَّداً بأنْ يَكونَ على مقتضى الحكمةِ والحكمةُ تقتضي عدمَ غفرانِ مَنْ لمْ يَتُبْ ولا يَخفى أنَّه في حيِّزِ المَنْعِ لأنَّ المَشيئةَ والحِكْمَةَ كلاهما من صفاتِه تعالى لا تتبع إحداهما الأخرى وبتقديرِ الاسْتِتباعِ لا نسلم أن الحكمة تقتضي عدم غفران من لم يتب على أن تعقيب أو يعذبهم بقوله عزَّ وجلَّ: {فَإِنَّهُمْ ظالمون}، آل عمران: 128. لا يّدُلُّ على أكثرِ مِنْ أنَّ الظُلْمَ مُفْضٍ إلى التعذيبِ ومَنْ يَمنعُ الإفضاءَ إنّما المنع على أن يكون تفسيراً "لِمَن يَشَاء" وأين الدلالةُ على أنَّ كلَّ ظلمٍ كذلك؟ ولا عمومَ للفظٍ ولا هو من قبيل مفهوم الصفةِ لِيصلحَ متمسَّكاً في الجملة، وما نقل عن الحسن وعطاء لا يُعرَفُ له سندٌ أصلاً ومَنِ ادَّعاه فليأتِ به إنْ كان من الصادقين، ومما يَدلُّ على كَذِبِه أنَّ فيه حَجْراً على الرحمة الواسعة وتضييقِ مَسالِكِها مِن غيرِ دليلٍ قطعيٍّ ولا يُظنُّ بمثلِ الحَسَنِ هذا القبيحُ، وما ذُكرَ من قول الحسن ونحوه لا يُترَكُ لهُ ظاهرُ الكتابِ والحقُّ أحَقُّ بالاتباع. على أنَّ هذه الآيةَ واردةٌ في الكفار على أكثر الروايات، ومعتَقَدُ الجماعةِ أنَّ المَغفِرةَ في حقِّهم مشروطةٌ بالتوبةِ مِن الكُفْرِ والرُجوعِ إلى الإيمان كما يُفصِحُ عنه قولُه تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}. النساء: 48. و{ليسوا} محلُّ خلافٍ بين الطائفتين فمن استدلَّ بها من المعتزلة على غرضِه الفاسد فقد ضلَّ سواءَ السبيل.قولُه: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تذييلٌ مقرِّرٌ لِمَضمونِ قولِه تعالى: "يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء" مع زيادة، وفي تخصيص التذييل به إشارة إلى ترجيح جهة الإحسان والإنعام، وفيه ما يؤيِّدُ مذهبَ الجماعةِ.قولُه ـ تعالى: {لله مَا في السموات والأرض} ما: عامَّةٌ للعُقَلاءِ وغيرِهم تَغْليباً، أي له ـ سبحانه ـ ما في هذين النوعين، أو ما في هاتين الجهتين مُلْكاً ومِلْكاً وخَلْقاً واقتِداراً لا مَدخِلَ لأحدٍ معه في ذلك فالأمرُ كلُّه لَه يَفعلُ ما يَشاءُ ويَحكُمُ ما يُريد، وهي مبتدأ مخَّرٌ، و"لله" خبرٌ مقدَّمٌ قُدِّم للقَصْرِ. | |
|