عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم ... سورة آل عمران، الآية: 181 الثلاثاء أبريل 09, 2013 2:58 am | |
| َقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ مَا قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ.
(181) قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ} ذَكَرَ تَعَالَى قَبِيحَ قَوْلِ الْكُفَّارِ لا سِيَّمَا الْيَهُودُ. وَقَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} البقرة: 24. قَالَ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ ـ مِنْهُمْ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ: هُوَ فِنْحَاصُ بْنُ عَازُورَاءَ ـ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ يَقْتَرِضُ مِنَّا. وَإِنَّمَا قَالُوا هَذَا تَمْوِيهًا عَلَى ضُعَفَائِهِمْ، لَا أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ هَذَا، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ. وَلَكِنَّهُمْ كَفَرُوا بِهَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا تَشْكِيكَ الضُّعَفَاءِ مِنْهُمْ وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَكْذِيبَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَيْ إِنَّهُ فَقِيرٌ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ اقْتَرَضَ مِنَّا. وعن ابنِ عبّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ قال: دخلَ أبو بَكرٍ الصديقُ ـ رضيَ اللهُ عنه ـ بيتَ المِدْراسِ، فوجدَ مِن يَهودَ ناسًا كثيرًا قد اجْتَمعوا إلى رجلٍ منهم يُقالُ له فِنحاص، كان من عُلمائهم وأحبارِهم، ومعَه حَبْرٌ يُقالُ له أَشيْعَ. فقالَ أبو بكرٍ لفنحاص: ويْحَكَ يا فِنحاص، اتَّقِ اللهَ وأَسْلِمْ، فواللهِ إنَّكَ لَتَعلَمُ أنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللهِ، قدْ جاءَكمْ بالحقِّ مِنْ عندِ اللهِ، تَجدونَه مَكتوبًا عندَكم في التوراةِ والإنجيلِ! قالَ فِنحاص: والله يا أبا بكرٍ، ما بِنا إلى اللهِ مِنْ فقرٍ، وإنَّه إليْنا لَفقيرٌ! وما نَتَضَرَّعُ إليْه كما يَتضرَّعُ إلينا، وإنَّا عنْه لأَغنياءُ، ولو كان عنَّا غَنيًّا ما استقرضَ منّا كما يَزعم صاحبُكم! يَنهاكُم عنِ الرِّبا ويُعطيناهُ! ولَو كان عنّا غنيًّا ما أعطانا الربا! فغضِبَ أبو بَكرٍ فَضرَبَ وجهَ فِنحاص ضربةً شديدةً، وقال: والذي نفسي بيدِه، لَولا العهدُ الذي بَينَنا وبينَك لَضَربْتُ عُنُقَك يا عدوَّ اللهِ! فأكْذِبونا ما استطعتم إنْ كنتم صادقين. فذَهبَ فِنحاصُ إلى رسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ فقال: يا محمّدُ، انْظُرْ ما صَنَعَ بي صاحبُك! فقال رسولُ الله لأبي بَكرٍ: ما حَملَك على ما صنعتَ؟ فقال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ عدُوَّ اللهِ قالَ قولًا عَظيمًا، زَعمَ أنَّ اللهَ فقيرٌ وأنَّهم عنْه أَغنياءُ! فلمَّا قالَ ذلكَ غَضِبْتُ للهِ ممّا قالَ، فضربتُ وجهَه. فجَحَدَ ذلك فِنحاص وقال: ما قلتُ ذلك! فأنْزَلَ اللهُ تبارك وتعالى فيما قالَ فِنحاص، ردًّا عليْه وتصديقًا لأبي بكرٍ: "لقد سَمِع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقيرٌ ونحن أغنياء سنكتبُ ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق" وفي قولِ أبي بَكرٍ وما بَلَغَه في ذلك من الغضبِ: {لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ} سورة آل عمران: 186.وقولُه: {سَنَكْتُبُ مَا قالُوا} سَنُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: سَنَكْتُبُهُ فِي صَحَائِفِ أَعْمَالِهِمْ، أَيْ نَأْمُرُ الْحَفَظَةَ بِإِثْبَاتِ قَوْلِهِمْ حَتَّى يَقْرَءُوهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي كُتُبِهِمُ الَّتِي يُؤْتَوْنَهَا، حَتَّى يَكُونَ أَوْكَدَ لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ} الأنبياء: 94. وَقِيلَ: مَقْصُودُ الْكِتَابَةِ الْحِفْظُ، أَيْ سَنَحْفَظُ مَا قالوا لِنجازيهم. وكَتْبُ ذلك قيل: هو على الحقيقةِ، وقيل: هو على طريقِ المَثَلِ، عبارةً عن حفظِهِ، وأنَّه لا يُنسى. وقد جعلَ لنا اللهُ ـ سبحانه وتعالى ـ الكتابةَ عوناً لحفظِنا، وذاك أنَّ اللفظَ لا يُفهم إلَّا القريبُ دون البعيدِ، وإلّا الشيءَ بعدَ الشيءِ، ويُسرِعُ إليْه ـ مع ذلك ـ الاضمحلالُ، فربَّما لا يَعيه السمعُ، وإذا وعاه فربَّما لم يَتصوَّرْه، وإذا تصوَّرَه فربَّما أَخَلَّ بِه الحفظُ، فأعانَه اللهُ بالكِتابةِ، لِتَكونَ تَكمِلَةً لِقوَّةِ النُطْقِ، وواعيةً لِما يَضيعُ مِن الفهمِ، فعُلِمَ مِن ذلك أنَّنا احتجْنا إلى الكتابةِ لِجبرِ نَقصِنا وتَكميلِ أفهامِنا، فَمن حَمَلَ الكتابةَ على الحقيقةِ قال: كَتَبَ الملأُ الأعلى أعمالَنا، لا لِجُبران نَقصِهم وضَعفِ فهمِهم وخوفِ نِسيانِهم؛ ولكن لِجبرِ نَقيصةِ البَشَرِ، ولِيتذكَّرَوا بِها ما نُسِيَ، ولِيَرى الإنسانُ صورةَ أَعمالِه المُتفرِّقةِ دفعةً واحدةً، ومَنْ حَمَلَه على التشبيه فإنَّه ذَكر أنَّ نقصَ القَريحةِ والسهوَ والنِسيانَ المَوجودةَ فينا في الدُنيا مَعدومةٌ عنَّا في الآخرةِ؛ فلا حاجةَ بِنا إلى الكِتابةِ، وحينئذٍ قال: وعلى ذلك وصَفَ الكتابةَ بالنُطق في قولِه: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ}. وقولِه: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} وعلى هذا سَمّى الوحيَ كتابًا، فقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ}، ومعلوم أنَّ المُنْزَلَ لم يَكُنْ وقتَ الإِنزالِ مكتوبًا، وعلى هذا معنى قولِه تعالى: {كِرَامًا كَاتِبِينَ} أي حافظين، وقال: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ}. أي كَتَبَةٍ، وعلى هذا قولُ الشاعرِ يزيد بن الطثرية:صحائف عندي للعتاب طويتها .............. ستُنشر يوماً والعتابُ يَطولُوهذا القولُ وإنْ كان لَه مساغٌ في مَجازِ اللَّغةِ، فأهلُ الأَثَرِ على الوجهِ الأوَّلِ، واللهُ أعلمُ بحقائق أحوالِ القيامةِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} أيْ ونكتُبُ قتلَهم الأنبياءَ، أيْ رضاهم بِالْقَتْلِ. وَالْمُرَادُ قَتْلُ أَسْلَافِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ، لَكِنْ لَمَّا رَضُوا بِذَلِكَ صَحَّتِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِمْ. وَحَسَّنَ رَجُلٌ عِنْدَ الشَّعْبِيِّ، قَتْلَ عُثْمَانَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ فَقَالَ لَهُ الشَّعْبِيُّ: شَرِكْتَ فِي دَمِهِ. فَجَعَلَ ـ رضيَ اللهُ عنْه ـ الرضا بالقتلِ قتلًا.وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ عُظْمَى، حَيْثُ يَكُونُ الرِّضَا بِالْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةً. فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ، الْعُرْسِ بْنِ عُمَيْرَةَ الْكِنْدِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((إِذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الْأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا ـ وَقَالَ مَرَّةً فَأَنْكَرَهَا ـ كَمَنْ غَابَ عَنْهَا وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا)). وَهَذَا نَصٌّ. وقيل بأنّ معنى قوله: "وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ" أنَّهم ارتكبوا من المعاصي ما هو مثلُ هذا القولِ، أوْ أكثر منه، وقولُه: "بغيرِ حقٍّ" لا يَعني أنَّ في قتلِ بعضِ الأنبياءِ حقًّا، ولكنْ جعلَ ذلك حالَهم على العمومِ، أيْ هو في كلِّ حالٍ على غيرِ حقٍّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ} أَيْ يُقَالُ لَهُمْ هَذَا فِي جَهَنَّمَ، أَوْ عِنْدَ الْمَوْتِ، أَوْ عِنْدَ الْحِسَابِ. ثُمَّ هَذَا الْقَوْلُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، قَوْلَانِ. و"وَنَقُولُ ذُوقُوا" أي نُذَوِّقهم ذلك، ونُوجِبُه لهم.قولُه تعالى: {قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ } العاملُ في "إنَّ" هو "قالوا" فـ "إنَّ" وما في حَيِّزِها مَنصوبُ المَحَلِّ بـ "قالوا" لا بالقول. وأجاز أبو البقاء أن تكونَ المسألة من بابِ التَنازُعِ أَعني بيْن المَصدرِ وهو "قول" وبيْن الفعلِ وهو "قالوا" تنازعًا في "أَنْ" وما في حَيِّزها، قال: ويجوزُ أنْ يكونَ معمولاً لـ "قول" المضافِ لأنّه مصدرٌ، وهذا تخريجٌ على قولِ الكُوفيّين في إعمالِ الأوَّلِ وهو قولٌ ضَعيفٌ، ويَزدادُ هنا ضَعْفاً بأنَّ الثاني فعلٌ والأوَّلُ مصدرٌ، وإعمالُ الفعل أقوى. وظاهرُ كلامِه أنَّ المَسألةَ مِن التَنَازُعِ، وإنَّما الضَعفُ عندَه مِنْ جهةِ إعمالِ الأوَّلِ فلو قَدَّرْنا إعمالَ الثاني كان يَنبغي أنْ يَجوزَ عندَه، لكنَّه يَمنعُ مِن ذلكَ مانعٌ آخرُ وهو: أنّه إذا احتاجَ الثاني إلى ضميرِ المُتنازَعِ فيه أَخذَهُ ولا يَجوزُ حذفُه، وهو هُنا غيرُ مَذكورٍ، فدَلَّ هذا على أنَّها عندَه لَيْستْ مِنَ التَنازُعِ إلَّا على قولِ الكُوفيّين، وهو ضَعيفٌ كما ذُكِرَ. وانْظُرْ كيف أَكَّدوا الجُملةَ المُشتَمِلَةَ على ما أَسندوه إليْه ـ تعالى ـ وإلى عدمِ ذلك فيما أَسندوه لأنفسِهم كأنَّه عندَ الناسِ أمرٌ مَعروفٌ.قولُه: {سَنَكْتُبُ} قرأَ حمزة بالياءِ مَبنِيّاً لِما لم يُسَمَّ فاعلُه، و"ما" وصِلتُها قائمٌ مقامَ الفاعلِ. و"قَتْلُهُمُ" بالرفعِ عَطْفاً على المَوصولِ، و"يقول" بياءِ الغَيبَةِ. والباقون بالنُونِ للمُتكلِّمِ العظيمِ، فـ "ما" منصوبةُ المَحَلِّ، و"قتلَهُمُ" بالنصبِ عطفاً عليْها، و"نقولُ" بالنونِ أيضاً. وقرأَ طلحةُ: "سَتُكْتب" بتاءِ التأنيث على تأويلِ "ما قالوا" بمقالتهم. وقرأ ابنُ مسعودٍ، وكذلك هي في مصحفه: "سنكتب ما يقولون ويُقال". والحسنُ والأعرج: "سَيَكْتب" بالغيبة مبنيّاً للفاعل أي: الله تعالى أو المَلَك، و"ما" في جميعِ ذلك يَجوزُ أَنْ تَكونَ موصولةً اسْمِيَّةً، وهو الظاهرُ، وحُذِفَ العائِدُ لاستكمالِ شروطِ الحذفِ، تقديرُه: سنكتب الذي يقولونه. ويَجوزُ أنْ تَكونَ مَصدريَّةً أيْ: قولَهم، ويُرادُ بِه إذْ ذاك المَفعولُ بِه، أيْ: مقولَهم، كقولِهم: "ضَرْبُ الأمير". | |
|