عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم ... سورة آل عمران، الآية: 81 الأحد ديسمبر 23, 2012 11:12 am | |
| وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ
(81) تعرِّفنا هذه الآيةُ الكريمةُ بأسبابِ إرسالِ الحقِّ سبحانَه مَوكِبَ الرسلِ عليهمُ السلامُ، فالمِنهَجَ الأوَّلَ قد أَنزلَه اللهُ على آدمَ ـ عليه السلام ـ متضمِّنًا كلَّ ما يَجعلُ الحياةَ على أتمِّ انسجامٍ، وقد بلَّغ آدمُ أولادَه هذا المِنهَجَ كما علَّمهم أمورَ حياتِهم، وتواصل البلاغُ من جيلٍ إلى جيلٍ، ولكن مع توالي الزمنِ وتتابُعِه نجدُ أنَّ خللًا يطرأ على هذا المنهج بسبب نسيان بعض تعاليمه، فيرسلُ الله سولاً من عباده ليذكر بهذه المبادئ، وليجدد مسيرة الإصلاح والصلاحِ، وهكذا...قولُه سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ ...} قال أبو جعفر: يعني بذلك جلَّ ثناؤه: واذكروا، يا أهل الكتاب،"إذ أخذ الله ميثاق النبيين"، يعني: حين أخذ الله ميثاق النبيين" وميثاقهم، ما وثَّقوا به على أنفسِهم طاعةَ اللهِ فيما أمرهم ونهاهم. والآيةُ على ظاهرِها، يؤيِّدُ ذلك ما أخرجه ابنُ جريرٍ عن عليٍّ كرَّمَ اللهُ تعالى وجهَه قال: لم يبعثِ اللهُ تعالى نبيًا، آدم فمن بعده إلَّا أخذَ عليه العهدَ في محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لئن بُعِثَ وهو حَيٌّ ليؤمِنَنَّ به ولَيَنصُرَنَّه، ويأمرُه فيأخذُ العهدَ على قومِه، ثمَّ تلا الآية. والمعنى وإذْ أخذَ اللهُ الميثاقَ الذي وثَّقَه النبيُّون على أُمَمهم، فقد أخرج ابنُ المنذرِ، وغيرُه عن سعيدٍ بنِ جبيرٍ أنَّه قال: قلتُ لابنِ عبّاسٍ: إنَّ أصحابَ عبدِ اللهِ يقرؤون: {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَمَا آتَيْتُكُم} الخ ونحن نقرأ ميثاقَ النبيين فقالَ ابنُ عبّاسٍ إنَّما أخذَ اللهُ تعالى ميثاقَ النبيِّينَ على قومِهم، وأشارَ بذلك رضيَ اللهُ تعالى عنه إلى أنَّه لا تَناقُضَ بيْن القراءتيْن كما تُوُهِّمَ. أخرج أبو يعلى عن جابرٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسألوا أهلَ الكتابِ عن شيءٍ فإنهم لن يَهدوكم وقد ضلُّوا فإمَّا أنْ تُصدِّقوا بباطلٍ، وإمَّا أنْ تُكذِّبوا بحَقٍ وإنَّه والله لو كان موسى حيًّا بيْن أظهُرِكم ما حلَّ لَه إلَّا أنْ يتَّبِعَني)). وذلك لأن رسالته صلى اللهُ عليه وسلَّمَ هي خاتمةُ الرسالاتِ، وما أنزله اللهُ عليه من شرعٍ هو الأتمُّ الأكملُ ولأنَ الدين الذي أرسله اله آبه هو الصالحُ لكل زمان ومكان، بينما كانت رسالات الأنبياء السابقين صلوات الله عليهم وسلامه موجهةً لأقوامهم، وهي صالحةٌ للأزمان التي بعثوا فيها. ومن هنا ذهب العارفون إلى أنَّه صلى الله عليه وسلَّمَ هو النبيُّ المُطلَقُ والرسولُ الحقيقيُّ والمُشَرِّعُ الاستقلاليُّ، وأنَّ مَنْ سِواهُ مِن الأنبياءِ عليهمُ الصلاةُ والسلامُ في حُكمِ التَبَعِيَّةِ لَه صلى الله عليه وسلم.قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ} في العامل في هذا الظرف أوجهٌ، أحدُها: "اذكر" إنْ كانَ الخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم. والثاني: "اذكروا" إن كان خطابًا لأهل الكتاب. الثالث: أنَّ العامل فيه "قال" من قولِه: "قال أأقررتم" وهو واضح جداً.و{مِيثَاقَ} يَجوزُ أَنْ يكونَ مضافاً لفاعِلِهِ أو لِمفعولِه. وفي مُصحَفِ أُبيٍّ وعبدِ اللهِ وقراءاتِهما: "ميثاقَ الذين أوتوا الكتاب" مثلَ ما آخر السورة، وعن مجاهدٍ بنِ جَبْرٍ كذلك، وقال: "أخطأ الكاتب" وهذا خطأٌ مِن قائلِه كائناً مَنْ كان، ولا أظنُّه يَصِحُّ عن مجاهد، فإنِه قرأ عليه مثلُ ابنِ كثيرٍ وأبي عَمْرٍو ابنِ العلاء، ولم ينقلْ واحدٌ منهما عنه شيئًا من ذلك. والمعنى على القراءةِ الشهيرةِ صحيحٌ، وقد ذَكَر الناسُ فيها أوجهاً، أحدُها: أنَّ الكلامَ على ظاهرِه وأنَّ اللهَ تعالى أخذَ على الأنبياءِ مواثيقَ أنَّهم يُصَدِّقون بعضَهم بعضًا ويَنصرُ بعضُهم بعضًا، بمعنى أنَّه يُوصي قومَه أنْ يَنصروا ذلك النبيَّ الذي بعدَه ولا يَخْذُلوه، وهذا مَرْوِيٌّ عن جماعة. الثاني: أنَّ الميثاقَ مضافٌ لِفاعِلِهِ والمُوثَقُ عليْه غيرُ مَذكورٍ لِفَهْمِ المعنى، والتقديرُ: ميثاقَ النبيِّين على أُمَمِهم ، ويؤيدُه قراءةُ أُبيٍّ وعبدِ الله، ويؤيِّدُه أيضاً قولُه: {فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك}. الثالث: أنَّه على حذفِ مُضافٍ تقديرُهُ: ميثاقُ أممِ الأنْبياءِ أوْ أَتباعِهم، ويؤيِّدُه ما أَيَّدَ ما قبلَه أيضاً وقولُه: {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ}. الرابع: قال الزمخشري: أَنْ يُرادَ أهلُ الكتاب، وأَنْ يَرُدَّ على زَعْمهم تَهَكُّمًا بِهم لأنَّهم كانوا يقولون: نحن أَوْلى بالنُبُوَّةِ مِن محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، لأنَّا أهلُ كتابٍ ومنَّا كان النَبيُّون. وهذا الذي قالَه بعيدٌ جداً، كيف يُسَمِّيهم أنبياءً تهَكُّمًا بهم، ولم يكن ثَمَّ قرينةٌ تُبيِّنُ ذلك؟قوله: {لَمَا آتَيْتُكُم} العامةُ: "لَما" بفتح اللامِ وتخفيفِ الميم، وحمزةُ وحدَه على كسرِ اللامِ، وسعيد بن جُبَيْرٍ والحسنُ: لَمَّا بالفتح والتشديد.فأمَّا قراءةُ العامَّةِ ففيها أوْجُهٌ: أحدُها: أنْ تكون "ما" موصولةً بمعنى الذي وهي مفعولةٌ بفعلٍ محذوفٍ، وذلك الفعلُ هو جوابُ القسم، والتقدير: واللهِ لَتُبَلِّغُنَّ ما آتيناكم من كتابٍ، قال هذا القائل: لأنَّ لامَ القسم إنَّما تقع على الفعل، فلَما دَلَّت هذه اللامُ على الفعل حُذِف، ثمَّ قال تعالى: "ثم جاءكم رسولٌ وهو محمَّدٌ صلى الله عليه سلم" قال: وعلى هذا التقدير يستقيم النظم. وهذا الوجهُ لا ينبغي أنْ يُجوَّزَ البَتَّةَ، إذْ يَمتنعُ أنْ تقولَ في نظيرِه من الكلام: "واللهِ لَزَيْداً" تريد: واللهِ لَتَضْرِبَنَّ زيداً. الوجهُ الثاني: وهو قولُ أبي عليٍّ الفارسيِّ وغيرِه أنْ تكونَ اللامُ في "لَما" جوابَ قولِه: {مِيثَاقَ النبيين} لأنَّه جارٍ مَجْرَى القسم، فهي لامُ الابْتِداءِ المُتَلَقَّى بها القسمُ، و"ما" مبتدأةٌ موصولة و"آتيناكم" صلتُها، والعائد محذوفٌ تقديرُه: آتيناكموه، فَحُذِفَ لاستكمالِ شروطِه، و"من كتاب" حال: إمَّا من الموصولِ وإمَّا من عائدِه، وقولُه: {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} عطفٌ على الصلة، وحينئذٍ فلا بُدَّ من رابطٍ يربطُ هذه الجملةَ بما قبلَها فإنَّ المعطوفَ على الصلةِ صلةٌ، واختلفوا في ذلك: فذهبَ بعضُهم إلى أنَّه محذوفٌ تقديرُه: "ثم جاءكم رسول به" فَحُذِف "به" لطول الكلامِ ولدَلالةِ المعنى عليه، وهذا لا يجوزُ؛ لأنَّه متى جُرَّ العائدُ لم يُحْذَفْ إلَّا بِشروطٍ تقدَّمت، هي مفقودةٌ هنا، وزَعَم هؤلاءِ أنَّ هذا مذهبُ سِيبَوَيْهِ، وفيه ما قد عرفتَه، ومنهم مَنْ قال: الربطُ حصل هنا بالظاهر، لأنَّ هذا الظاهر وهو قولُه: "لِما معكم" صادقٌ على قولِه: "لِما آتيناكم" فهو نظيرُ: "أبو سعيد الذي رَوَيْتُ عن الخِدْريّ، والحَجَّاج الذي رأيتُ ابنُ يوسف، وقال: فيا رَبَّ ليلى أَنْتَ في كلِّ موطن ......... وأنت الذي في رحمةِ اللهِ أَطْمَعُ يريدون: عنه ورأيته وفي رحمته ، وقد وَقَع ذلك في المبتدأ والخبر نحو قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} الكهف: 30 وهذا رأي أبي الحسن وتقدَّم فيه بحث. ومنهم مَنْ قال: إنَّ العائدَ يكون ضميرَ الاستقرارِ العامل في "مع"، و"لتؤمِنُنَّ به" جوابُ قسمٍ مقدرٍ، وهذا القسمُ المقدَّرُ وجوابهُ خبرٌ للمبتدأ الذي هو "لَما آتيتكم"، والهاء في به تعود على المبتدأ ولا تعودُ على "رسول"، لئلا يلزَمَ خُلُوُّ الجملةِ الواقعةِ خبراً من رابطٍ يَرْبِطُها بالمبتدأ.سأل سيبويهِ الخليلَ عن هذه الآية فأجابَ بأنَّ "ما" بمنزلةِ الذي، ودَخَلَتِ اللامُ على "ما" كما دخلت على "إنْ" حين قلت: واللهِ لَئِنْ فَعَلْتَ لأفعلنَّ، فاللامُ التي في "ما" كهذه التي في إنْ، واللام التي في الفعل كهذه التي في الفعل هنا، هذا نصٌّ الخليل. قال أبو عليٍّ الفارسيُّ: لم يُرِدْ الخليلُ بقوله "إنَّها بمنزِلَةِ الذي" كونَها موصولةً بل أنَّها اسمٌ كما أنَّ الذي اسمٌ، وقرَّرَ أنْ تكونَ حَرْفاً كما جاءت حَرْفاً في قولِه: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} هود: 111 {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة} الزخرف: 35 وقال سيبويه: ومثلُ ذلك: {لَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} الأعراف: 18 إنَّما دَخَلَتْ اللامُ على نِيَّة اليمين. وإلى كونِها شرطيَّةً ذهبَ جماعةٌ كالمازنيِّ والزجَّاجِ والزمخشريِّ والفارسيِّ. الثالث: أنَّ أصلَها "لَمَّا » بتشديدِ الميم فخففت ، وهذا قول ابن أبي إسحاق، وسيأتي توجيهُ قراءة التشديد فَتُعْرَفُ مِنْ ثَمَّة. وقرأ حمزةُ: "لِما" بكسرِ اللامِ خفيفةَ الميم أيضاً، وفيها أربعةُ أوجه، أحدهما: وهو أغربُها أن تكونَ اللام بمعنى "بعد" كقوله النابعة: تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفْتُها .................. لِسِتَةِ أعوامٍ وذا العامُ سابعُيريد: فَعَرَفْتُها بعد ستة أعوام، وهذا منقولٌ عن صاحب النظم، ولا أدري ما حَمَله على ذلك؟ وكيف يَنْتظم هذا كلاماً، إذْ يَصيرُ تقديرُه: وإذْ أخذَ اللهُ ميثاقَ النبيِّين بعدَما آتيناكم، ومَنِ المخاطبُ بذلك؟ الثاني: أنَّ اللامَ للتعليل، وهذا الذي ينبغي ألاَّ يُحادَ عنه وهي متعلقة بـ "لتؤمِنُنَّ"، و"ما" حينئذٍ مصدريَّةٌ، قال الزمخشريُّ: ومعناه لأجلِ إيتائي إياكم بعضَ الكتابِ والحكمة، ثمَّ لِمَجيءِ رسولٍ مصدِّقٍ لِتؤمِنُنَّ به، على أنَّ "ما" مصدريَّةٌ، والفعلان معها أعني: "آتيناكم" و"جاءكم" في معنى المصدرين، واللامُ داخلةٌ للتعليلِ، والمعنى: أخَذَ اللهُ ميثاقَهم لَتؤمِنُنَّ بالرسولِ ولَتَنْصُرُنَّه لأجلِ أنْ آتيتُكم الحِكمَة، وأنَّ الرسولَ الذي أمركم بالإِيمانِ ونُصرتِه مُوافِقٌ لَكم غيرُ مخالِفٍ. والثالثُ: أنْ تتعلَّقَ اللامُ بأخذِ أي: لأجلِ إيتائي إيَّاكم كيتَ وكيتَ أخذْتُ عليكم الميثاق، وفي الكلامِ حذفُ مضافٍ تقديرُه: لِرعايةِ ما أتيتُكم. الرابع: أنْ تتعلَّقَ بالميثاقِ لأنَّه مصدرٌ، أي تَوَثَّقْنا عليهم لذلك. هذه الأوجهُ بالنسبة إلى اللام، وأمَّا "ما" ففيها ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أَنْ تكونَ مصدريَّةً وقد تقدَّم تحريرُه عند الزمخشري. والثاني: أنها موصولة بمعنى الذي وعائدُها محذوفٌ و"ثم جاءكم" عطفٌ على الصِلَةِ، والرابطُ لها بالموصول: إمَّا محذوفٌ تقديره: "به" وهو رأيُ سيبويْه، وإمَّا لِقيامِ الظاهرِ مقامَ المُضمَرِ وهو رأيُ الأخفشِ، وإِمَّا ضميرُ الاستقرارِ الذي تضمَّنه "معكم" وقد تقدَّم تحقيق ذلك. والثالث: أنَّها نَكِرةٌ مَوصوفةٌ، والجملةٌ بعدَها صفتُها وعائدُها محذوف، و"ثم جاءكم" عطفٌ على الصفة، والكلامُ في الرابطِ كما تقدَّم فيها وهي صلة، إلَّا أنَّ إقامةَ الظاهرِ مُقامَ الضميرِ في الصِفَةِ ممتَنِعٌ، لو قلت: "مَرَرْتُ برجلٍ قام أبو عبدُ الله "على أن يكون قام أبو عبد الله صفةً لرجل، والرابطُ أبو عبد الله، إذ هو الرجل في المعنى لم يَجُز ذلك، وإن جاز في الصلة والخبر عند مَنْ يرى ذلك، فيتعيَّن عَوْدُ ضمير محذوف. وجوابُ قوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ} قوله: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} كما تقدَّم، والضميرُ في "به" عائدٌ على "رسول"، ويجوز الفصلُ بين القَسَمِ والمُقْسَمِ عليه بمثلِ هذا الجارِّ والمَجرورِ لو قلت "أقسمتُ للخير الذي بلغني عن عمرٍو لأحْسِنَنَّ إليه" جاز.وقوله: {مِن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} إمَّا حالٌ من الموصولِ أو مِن عائدِه، وإمَّا بيانٌ له فامتَنَعَ في قراءةِ حمزةَ أنْ تكونَ "ما" شرطيَّةً كما امتَنَع في قراءةِ الجُمهورِ أنْ تكونَ مَصْدَرِيَّةً. وأمَّا قراءةُ سعيدٍ والحسنِ ففيها أوجه، أحدها: أَنَّ "لَمَّا" هنا ظرفيةٌ بمعنى حين فتكونُ ظرفية. ثمَّ القائلُ بظرفيَّتِها اختلفَ تقديرُه في جوابها، فذهب الزمخشريُّ إلى أنَّ الجوابَ مقدَّرٌ من جِنسِ جوابِ القَسَمِ فقال: "لَمَّا" بالتشديد بمعنى حين، أي: حين آتيتكم بعضَ الكِتاب والحِكمةِ ثمَّ جاءكم رسولٌ مصدِّقٌ وَجَبَ عليكم الإِيمانُ به ونصرتُه. وقال ابن عطيَّة: ويظهر أنَّ "لمَّا" هذه الظرفيَّةُ أي: لَمَّا كنتم بهذه الحالِ رؤساءَ الناس وأماثِلَهم أُخِذَ عليكم المِيثاقُ، إذْ على القادةِ يُؤْخَذُ، فيجيءُ على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزة، فقدَّر ابنُ عطيَّةَ جوابَها مِن جنسِ ما سبَقَها، وهذا الذي ذهبا إليه مذهبٌ مرجوحٌ قال به الفارسيُّ، والجمهورُ: سيبويهِ وأتباعُه على خلافه، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا الخلافِ فلا حاجةَ لذِكْرِه. وقال الزجَّاجُ: أي لَمَّا آتاكم الكتابَ والحكمةَ أَخذَ عليكمُ الميثاقَ، وتكون "لمَّا" تَؤُول إلى الجزاء كما تقول: لَمّا جِئْتَني أكرمتُك. وهذه العبارةُ لا يؤخذ منها كونُ "لَمّا" ظرفيَّةً ولا غير ذلك، إلَّا أنَّ فيها عاضداً لتقديرِ ابنِ عطيَّةَ جوابَها مِن جنسِ ما تقدَّمها بخلافِ تقديرِ الزمخشري. الثاني: أن "لَمَّا" حرفُ وجوبٍ لوجوبٍ، وقد تقدَّم دليله وأنه مذهب سيبويه، وجوابُها كما تقدَّم مِنْ تقديري ابنِ عطيَّة والزمخشريِّ. وفي قولِ ابنِ عطيَّة: فيجيء على المعنى كالمعنى في قراءة حمزة، نظر؛ إذ قراءة حمزة فيها تعليل وهذه القراءةُ لا تعليل فيها، اللهم إلَّا أنْ يُقال: لَمَّا كانت "لَمَّا" تحتاجُ إلى جوابٍ أَشْبَهَ ذلك العِلَّةَ ومعلولَها، لأنَّك إذا قلتَ: لَمَّا جِئْتَني أكرمتُك. في قوَّةِ: أكرمتُك لأجلِ مجيئي إليك، فهي من هذه الجهةِ كقراءة حمزة. والثالثُ: أنَّ الأصلَ: "لَمِنْ ما" فأدغمت النون في الميم لأنّها تقاربُها، والإِدغامُ هنا واجب، ولما اجتمع ثلاثُ ميماتٍ، ميمِ "مِنْ"، وميمِ "ما" والميمِ التي انقلبت من نون "من" لأجلِ الإِدغامِ فحَصَلَ ثِقَلٌ في اللفظ. فحذفوا إحداها. وقد عَيَّنها ابنُ عطيَّةَ بأنَّ المحذوفةَ هي الأولى، وفيه نظر، لأنَّ الثقلَ إنَّما حصل بما بعد الأُولى، ولذلك كان الصحيحُ في نَظائره إنَّما هو حَذْفُ الثواني نحو: "تَنَزَّل" و"تَذَكَّرون"، والمحذوفة هي الثانيةُ، لضَعْفِها بكونِها بدلاً وحصولِ التكريرِ بها. الرابع: أنَّ الأصلَ أيضاً: "لَمِنْ ما"، فَفُعِل به ما تقدَّمَ من القلب والإِدغام ثمَّ الحذفِ، إلَّا أنَّ "مِنْ" ليست زائدةً بل هي تعليليَّةٌ، ومعناه لَمِنْ أجل ما آتيتكم لتؤمنُنَّ به، وهذا نحوٌ من قراءةِ حمزةَ في المعنى، وهذا الوجه أوجهُ ممَّا تقدَّمه لسلامتِه مِن ادِّعاءِ زيادة "مِنْ" ولِوُضوحِ معناه. وقرأ نافعٌ: "آتيناكم" بضميرِ المعظِّمِ نفسَه، والباقون: "آتيتُكم" بضميرِ المتكلِّمِ وحدَه، وهو موافقٌ لما قبلَه وما بعدَه من صيغةِ الإِفرادِ في قولِه: {وَإِذْ أَخَذَ الله}، وجاء بعده "إصري".وفي قوله "آتيتكم" أو "آتيناكم" على كلا القراءتيْن التفاتان أحدُهما: الخروجُ من الغيبة إلى التكلم في قولِه آتينا أو آتيتُ، لأنَّ قبلَه ذِكْرَ الجلالةِ المُعَظَّمَةِ في قولِه: {وَإِذْ أَخَذَ الله}، والثاني: الخروجُ من الغَيْبَة إلى الخطاب في قوله: "آتيناكم" لأنَّه قد تقدَّمه اسمٌ ظاهرٌ وهو "النبيين"، إذْ لو جَرَى على مُقتَضى تَقَدُّمِ الجَلالَةِ والنَّبيِّين لَكان التركيب: وإذْ أخذَ اللهُ ميثاقَ النَّبيِّينَ لَما آتاهمْ من كتابٍ كذا، وفيهِ نظرٌ لأنَّ مثلَ هذا لا يسمى الْتِفاتاً في اصطلاحِهم، وإنَّما يُسمَّى حِكايَةَ الحالِ، ونَظيرُه قولُك: حلف زيدٌ لَيَفْعَلَنَّ ولأفعلن، فالغَيْبَةُ مراعاة لتقدُّم الاسم الظاهر، والتكلُم حكاية لِكلامِ الحالفِ، والآية الكريمة من هذا. وأصلُ لتؤمِنُنَّ به ولتنصُرُنَّه: لَتُؤمنونَنّ ولَتَنْصُرُونَنَّ، فالنون الأولى علامةُ الرَّفعِ، والمشدَّدةُ بعدَها للتوكيدِ، فاستُثْقِلَ توالي ثلاثةِ أمثالٍ فحَذفوا نونَ الرفع لأنَّها ليست في القوة كالتي للتوكيد، فالتَقى بحذفِها ساكنان، فَحُذِفَت الواوُ لالتِقاءِ الساكنين.وقرأ عبدُ اللهِ: "مُصَدِّقاً" نصبٌ على الحالِ مِنَ النَّكِرَةِ، وقد قاسَه سيبويهِ وإنْ كان المَشهورُ عنْه خِلاَفُهُ، وحَسَّنَ ذلك هُنا كونُ النَّكِرةِ في قوَّةِ المَعرِفةِ مِن حيثُ إنَّه أُريدَ بها شخصٌ مُعَيَّنٌ وهو محمَّدٌ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ. واللامُ في "لَما" زائدةٌ لأنَّ العاملَ فرعٌ وهو "مُصَدِّقٌ" والأصلُ: مُصَدِّقٌ ما معكم.قولُه: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ} فاعلُ "قال" يَجوز أنْ يكونَ ضميرَ اللهِ تعالى وهو الظاهر، وأنْ يكونَ ضَميرَ النَّبِيِّ الذي هو واحدُ النَبيِّين، خاطب بذلك أمَّتَه، ومتعلِّقُ الإِقرارِ محذوفٌ، أي: أأقرتم بذلك كلِّه، والاستفهامُ على الأولِ مجازٌ، إذِ المُرادُ به التقريرُ والتوكيدُ عليهم لاستحالتِهِ في حقِّ الباري تعالى، وعلى الثاني هو استفهامٌ حقيقةً، و"إصْري" على الأوَّلِ الياءُ للهِ تعالى وعلى الثاني للنبيِّ.وقرأ العامَّةُ "إصري" بكسرِ الهمزةِ وهي الفُصحى، وقرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ في رواية: "أُصْري" بضمِّها، ثمَّ المَضمومُ يُحتَمَلُ أنْ يكونَ لُغةً في المَكسورِ وهو الظاهر، ويُحتَمَلُ أنْ يَكونَ جمعَ إصار، ومثلُه أُزُرٌ في جمعِ إزارٍ، وقد تَقَدَّم في أواخرِ البَقرةِ الكلامُ عليه مُشْبَعًا.وقوله: {أَقْرَرْنَا} أي: بالإِيمان به وتبصرتِه. وفي الكلامِ حذفُ جُمْلَةٍ أيضاً، حُذِفَتْ لدَلالةِ ما تقدَّم عليها، إذِ التقديرُ: قالوا: أقررنا وأخذنا إصْرَكَ على ذلك كله.وقوله: {فاشهدوا} هذه الفاءُ عاطفة على جملة مقدرةٍ تقديره، قال: أأقررتم فاشهدوا، ونظيرُ ذلك: "أَلقِيتَ زيداً"؟ قال: "لَقِيتُه"، قال: "فَأَحسِنْ إِليه"، والتقدير: أَلَقِيتَ زيداً فأحسن إليه، فما فيه الفاءُ بعضُ المقول، ولا جائز أن يكونَ كلَّ المقولِ لأجل الفاء، ألا ترى قولَه، قال: "أأقررتم" وقوله: "قالوا: أقررنا" لَمَّا كان كلَّ المقول لم يُدْخِلِ الفاء، والمعنى واضح بدونه.قولُه: {مِنَ الشاهدين} هذا هو الخبرُ لأنَّه مَحَطُّ الفائدة، وأمَّا قوله: "معكم" فيجوزُ أن يكون حالاً أي: وأنا من الشاهدين مصاحباً لكم، ويجوزُ أنْ يكونَ منصوباً بالشاهدين ظرفاً له عند مَنْ يرى تجويز ذلك، ويمتنع أن يكونَ هو الخبرَ إذ الفائدةُ به غيرُ تامة في هذا المقام، والجملةُ من قوله: {وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} يجوزُ ألاَّ يكونَ لها محلٌّ لاستئنافِها، ويجوزُ أنْ تكونَ في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ مِن فاعلِ "فاشْهدوا". | |
|