عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم ... سورة آل عمران، الآية: 49 الأربعاء ديسمبر 05, 2012 7:23 am | |
| وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
(49) قولُه تعالى: {وَرَسُولُا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي ويجعله أو يَبعثُه رسولًا إلى بني إسرائيل، وكان ذلك بعد ثلاثين سنةً. وذُكر بنو إسرائيل خاصَّةً مع أنَّ دعوتَه كانت تعمُّ كلَّ الذين عَلِموها من اليهودِ والرومان وغيرِهم حتَّى يَجيء مِن السماءِ ما يَنسَخُها أو يُكَمِّلُها، وهي الرسالةُ العامَّةُ الخالدةُ، رسالةُ محمدٍ بنِ عبدِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ؛ وخصَّ بني إسرائيل بالذكر لأنَّ عيسى ـ عليه السلامُ ـ خرج من بينهم، فهو منهم، وقد كانوا يَدَّعون أنَّهم أوْلى النَّاسِ بِعِلمِ الرسائلِ الإلهيَّة، فكان في تخصيصُهم بالذكر إشارةٌ إلى حقيقةٍ واقعةٍ وتوبيخٌ لهم؛ لأنَّهم مع عِلمِهم برسالات الأنبياءِ كفروا برسولٍ مبعوثٍ منهم، وقد أُوتي معجزاتٍ لَا تترك للعقل أي مجالٍ لإنكارِ بعثتِه. فقد ذكر ـ سبحانَه ـ في هذه الآيات معجزات عيسى التي أيَّده اللهُ بها لإثبات صدقه في رسالتِه، فقال سبحانه: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبكُمْ} وفي الكلام التفاتٌ وانتقالٌ من خطاب اللهِ لِـ "مريم"، إلى بيانِ رِسالةِ بِشارةِ اللهِ إليْها، وجاء بيانُ الرسالة على لسانِه هو، وابتدأ ببيان إثباتها بالمعجزة، وكأن المعجزة جزء من الرسالة؛ لأنَّها ركنُها ودعامتُها التي قامت عليها، ولأنَّ معجزة عيسى كانت تومئ إلى معانٍ من رسالته؛ ذلك بأنَّ عصرَه كان عصرًا مادِّيًّا، لَا يؤمن بالإرادة المختارة لله تعالى، ويؤمنون بالأسباب التي تجري في الحياة على أنَّها المُؤثرات في إيجادِ الأَشياء، فأتت معجزاته عليه السلام إعلانًا لبُطلان تأثير الأسباب، بدليلِ خرْقِها، بإحياء الموتى؛ وقد جَرَتْ الأسبابُ المادِّيَّةُ على أنَّ مَنْ مات لَا يَحيا ثانيةً في هذه الدنيا، وأنَّ الأَكْمَهَ الذي وُلِدَ أعمى لَا يُبصر، وأن إخراج كائنٍ حيٍّ لا يكون مِن الطين مباشرة ، فجاء عيسى عليه السلام بكل هذه المعجزات حيٍّ لا يكون مِن الطين مباشرة الخوارق للعادة، فكان بيانًا واضحًا بأنَّ اللهَ فاعلٌ مختارٌ، وكان هذا هو المقصود بالرسالة.والآيةُ هنا هي المُعجزةُ، وهي في أصلِها العَلامةُ، والمُرادُ بها هنا العلامةُ الدالَّةُ على الرسالةِ، وأُطلِقَ على الجُزْءِ مِنَ القُرآنِ آيةٌ؛ لأنَّ كلَّ آيةٍ في كتابِ اللهِ تعالى معجزةٌ في ذاتِها، دالَّةٌ بوَحدَتِها على رسالةِ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم. ولقد ذَكر بعد ذلك سبحانَه آياتٍ، وكانتْ الآياتُ المَذكورةُ في هذا المَقامِ أربعًا؛ وعبَّرَ عنها بآيةٍ؛ لأنَّ مَجموعَها دالٌّ على رسالتِه، وإنْ كانتْ كلُّ واحدةٍ منها تَصلُحُ حُجَّةً قائمةً بذاتِها؛ فذَكَرَها بِلَفظِ المُفردِ للإشارةِ إلى أنَّها جميعًا كانت آيتَه.والآياتُ الأَربعُ: هي أنَّه يَخلُقُ مِنَ الطِّينِ كهيئةِ الطيرِ، فيَنْفُخُ فيه فيكونُ طيْرًا بإذنِ اللهِ، وأنَّه يُبْرِئُ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ، ـ وهي أمراضٌ مستعصيةٌ على الأطباءِ مع أنَّ الطبَّ كان آنذاك في قمَّةِ ازدهارِه ـ وأَنَّه يُحيِ المَوتى؛ وأنَّه يُنَبِّئُهم بما يأكُلون وما يَدَّخِرون في بُيُوتِهم مما لم يطلع عليه سواهم؛ فهذه آياتٌ أربع. وقد ذُكِرت جميعُها مُضافةً إلى السَّيِّدِ المَسيحِ عليه السَّلامُ؛ لأنَّها كانت تَجْري على يديْهِ، ولأنَّها هي التي كان يُقيمُ بها الدليلَ على رسالتِه، وقد خاطب بها بَني إسرائيلَ، ومَنْ اسْتَمَعَ إليْه مِن الرومانِ وغيْرِهم. وأوَّلُ هذه الآياتِ تصويرُ الطينِ ثمَّ النَّفخُ فيه ليكونَ طيْرًا، فصوَّرَ لَهُم خفّاشاً فَقَالُوا هَذَا سِحْرٌ فَهَل عنْدك غَيرُه؟ قَالَ نعم {وأبرئ الأكمه} الَّذِي وُلِدَ أعْمى فتعود إليه حاسَّةُ البصر، {والأبرص} أشفيه أيضًا، {وأحيي الْمَوْتَى بِإِذْنِ الله} باسمِ اللهِ الْأَعْظَمِ "يَا حَيُّ يَا قيُّومُ"، فَلَمَّا فعلَ ذَلِك قَالُوا هَذَا أيضًا سِحْرٌ، فَهَل عنْدك غَيرُه؟ قَالَ نعم: {وَأُنَبِّئُكُمْ} أخْبِرُكُم {بِمَا تَأْكُلُونَ} غُدْوَةً وَعَشِيَّةً {وَمَا تَدَّخِرُونَ} تَرفَعون مِن غَداءٍ لِعَشاءٍ وَمِن عَشَاءٍ لِغَداءٍ {فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِك} وإنَّ في هذا {لآيَةً} علامة {لَّكُمْ} على نبوَّتي {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} مُصدِّقين. والمُرادُ بالخلقِ هنا التصويرُ، أيْ أنَّه صَوَّرَ مِن الطينِ شكْلَ طائرٍ ثمَّ نَفَخَ فيه، فكان طيْرًا بإذنِ اللهِ تعالى. وقد كان في ذلك أعمالٌ ثلاثةٌ؛ اثْنان منها لـ "عيسى" ـ عليه السلامُ، والثالثُ للهِ جَلَّ جلالُه وعَظُمتْ قُدْرتُه، أمَّا اللّذان لـ "عيسى" فهما: تشكيلُ الطينِ كهيئةِ طيرٍ، والنفخُ فيه، وأمَّا الثالثُ الذي هو مِن عملِ اللهِ تعالى وحدَه، فهو خَلْقُ الحياة في هذه الصورةِ التي صوَّرَها "عيسى" ـ عليه السلامُ؛ ولذلك قال: "بِإذنِ اللَّهِ" أيْ بأمرِه، والكونُ كلُّه بأمرِه ـ سبحانَه {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. وهذا يَعني أنَّه لم يَكن في "عيسى" أُلُوهيَّةٌ، ولا أيُّ معنًى مِنْ مَعانيها. ثمَّ بيَّنَ ـ سبحانه ـ الآيتين الثانية والثالثة بقوله: {وَأُبْرِئُ الأَكْمَة وَالأبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} فأجرى الله تعالى بُرءَه على يَدِ عيسى ـ عليه السلام. والأبرص الذي يكون في جلده بياضٌ مَشوبٌ بحُمْرَةٍ تُنَفِّرُ الناسَ منه، وهما من الأمراضِ التي اسْتَعْصَتْ على الطبِّ حتّى زماننا هذا.وإحياءُ الموتى وحدَه برهانٌ قاطعٌ على أنَّ الأسبابَ العاديَّةَ ليستْ المؤثرةَ وإنَّما الخالقُ المُكوِّنُ هو المُؤثِّرُ، وأَنَّ الأشياءَ لمْ تُخْلَقْ بالعِلِّيَّةِ، أي أنَّ وجودَ بعضها علَّةُ وجود بعضها الآخرِ، إنَّما خُلِقتْ بالإرادةِ المُختارةِ المُبدِعةِ المُنشِئةِ المُكوِّنةِ، عَبَّرَ عن ذلك قولُه: {بِإِذْنِ اللَّهِ}. والآيةُ الرابعةُ بيَّنَها ـ سبحانَه وتعالى ـ بقولِه: {وَأُنَبّئُكُم بمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخرونَ فِي بُيوتِكُمْ}. والإنباءُ هو الإخبار بالخبرِ العظيمِ، إما لِمَوْضوعِه، وإما لِعِظَمِ شأنِ الإخْبارِ نفسِه، والإخْبارُ عن شيءٍ مِن غيرِ رؤيَتِه، أَمْرٌ عَظيم في ذاتِ شأنِه، ولقد كان عيسى لِفرْطِ روحانيَّتِه، ولِما أكرمَه اللهُ به مِنْ إجراءِ الخارِقِ لِلعادةِ على يَديْه تأييدًا لرِسالتِه، يُخبِرُ مَنْ بُعِثَ إليهم بِما يأكُلون، وما يَدَّخِرون في بيوتِهم، وهذا نوعٌ مِنَ الكَشْفِ النَفسيِّ أَعطاه اللهُ لنبيِّهِ عيسى ـ عليه السلام، ليس مِن قبيلِ الإخبارِ عن المستقبل، إنَّما مِن قبيلِ الإخْبارِ عن الحاضِرِ الواقِعِ ممَّا لَا يَراه. أمّا النبيُّ محمَّدٌ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد أخبرَ عنْ بعضِ الأُمورِ المستقبَليَّةِ، كما أَعلَمَه اللهُ تعالى، كقولِه تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ}. وكإخباره عليه الصلاة والسلام عما يَحدُث لأمتِه في الأزمان المستقبَلَةِ، بقوله: ((يأتي على الناسِ زمانٌ يأكلون فيه الرِّبا)) قيل: الناس كلُّهم يا رسول الله؟! قال: ((مَنْ لم يأكلْه ناله غبارُه)). قولُه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. أي إنَّ في هذه الأًمورِ التي أَجراها اللهُ على يَدِ السيِّدِ المَسيحِ عليهِ السلامُ لآيةٌ، أي لَعَلامةٌ واضحةٌ بَيِّنةٌ تدُلُّ على صِدْقِ رسالتِه، وتُثبتُ دعوتَه، ويَقتنعُ بها مَنْ يُريدُ الاقتِناعَ. وقولُه: "إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" إيماءٌ إلى أنَّ الذين يَقتنِعون بالحُججِ والآياتِ همُ الذين مِن شأنِهم أنْ يُذعِنوا للحقِّ، ويَخضعوا له؛ فالناس قسمان: قسمٌ يُذعِنُ للحقِّ ويُؤمِنُ به إن قام الدليلُ عليه، وأولئك همُ الذين مِن شأنِهمُ الإيمانُ والإذْعانُ للحَقِّ، وقِسمٌ لا يَزيدُه الدَّليلُ إلَّا عِنادًا واسْتِكْبارًا، وأُولئكَ هُمُ الذين من شأنِهم أنْ الجحود فلا يذعنون للحق إذا دُعُوا إليه؛ ولذلك قال: "إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" أي إن كان الإيمان والإذعانُ مِنْ شؤونِكم، ووصْفًا ذاتيًا لكم.وإنَّ هذه المُعجزاتِ الباهرةِ القاهرةِ التي صدَّق بها مَنْ صدَّقَ، وكَفَرَ بعدها مَنْ كَفَرَ، دليلٌ على أنَّ الدليلَ مهما كان قويًّا لَا يكفي للإيمان، بلْ لا بُدَّ مِن استعدادٍ نفسيٍّ لِطَلَبِ الحَقِّ وتوفيقٍ قبل ذلك وهدايةٍ من الذي خلق النفس وسوّاها فألْهَمَها فُجورَها وتقواها. وقد أوضح ـ سبحانَه ـ أنَّ الآياتِ الكُبْرى التي أَجراها على يديْ السيِّدِ المسيحِ ـ عليه السلام ـ تتلخَّصُ في أمرين: أوَّلُهُما أنَّها مصدِّقَةٌ لِما جاء في التوراة مع إحلالٍ لبعضٍ الذي حُرِّمَ على اليَهودِ فيها، وثانيهما: أنَّه يَدْعو إلى الإيمانِ بأنَّه خالقُ كلِّ شيءٍ ومُبْدِعُهُ ومُنْشِئُهُ بإرادتِهِ المُختارَةِ، وهذا ما تضمَّنَه قولُه تعالى: "وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ".قولُه تعالى: {وَرَسُولاً}: في "رسول" وجهان، أحدُهما: أنَّه صفةٌ بمعنى مُرْسَل فهو صفةٌ على فُعُول كالصبورِ والشَّكور. والثاني: أنَّه في الأصلِ مصدرٌ، ومن مَجيءِ "رسول" مصدراً قولُ كُثيِّرُ عَزَّة: لقد كَذَبَ الواشُون ما بُحْتُ عندَهم ............ بِسِرٍّ ولا أَرْسَلْتُهمْ برسولِأي: برسالة.ومنه قولُه تعالى: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين} الشعراء: 16 على أحدِ التأويليْن، أيْ: إنَّا ذوا رسالةِ ربِّ العالمين، وعلى الوجهين يترتَّبُ الكلامُ في إعراب "رسول": فعلى الأولِ يكونُ في نصبهِ ستةُ أوجهٍ، أحدُها: أنْ يَكونَ مَعطوفاً على "يُعَلِّمه" إذا أَعربناه حالاً معطوفاً على "وجيهاً" إذ التقديرُ: وجيهًا ومُعَلِّماً ومُرْسَلاً. الثاني: أن يكونَ نسقاً على "كَهْلاً" الذي هو حالٌ من الضميرِ المستتر في "ويُكَلِّم" أي: يُكَلِّم الناسَ طفلاً وكهلاً ومُرْسَلاً إلى بني إسرائيل. ويظهرُ أنَّ ذلك لا يجوز من حيث المعنى، إذ يصيرُ التقديرُ: يُكَلِّمُ الناسَ في حالِ كونِه رسولاً إليهم، وهو إنَّما صار رسولاً بعد ذلك بأزمنةٍ.الثالث: أنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ مضمرٍ لائقٍ بالمعنى، تقديرُه: ونجعلُه رسولاً، لَمَّا رأَوه لا يَصِحُّ عَطْفُه على مفاعيلِ التعليم أضمروا له عاملاً يناسبه، وهذا كما قالوا في قوله تعالى: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} الحشر: 9. وقول لبيد بن ربيعة: يا ليتَ زوجَك قد غدا .............................. متقلِّداً سيفاً ورمحاوقول الآخر : عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً .......................... حتى شَتَتْ هَمَّالةً عَيْناها وقول الراعي: إذا ما الغانياتُ بَرَزْنَ يوماً .................... وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعُيوناأي: واعتقدوا الإِيمانَ، ومعتقلاً رمحاً، وسَقَيْتُها ماءً بارداً، وكَحَّلْنَ العيونَ، وهذا على أحدِ التأويلين في هذه الأمثلةِ.الرابع: أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلٍ من لفظِ "رسول"، ويكون ذلك الفعلُ معمولاً لقولٍ مضمر أيضاً هو من قولِ عيسى .الخامس: أنَّ الرسولَ فيه معنى النطق، فكأنه قيل: وناطقاً بأني قد جئتكم. ويُوَضِّح هذين الوجهين الأخيرين ما قاله الزمخشري، قاله رحمه الله: فإنْ قلت: علامَ تَحْمِلُ "ورسولاً" و"مصدقاً" من المنصوبات المتقدمة وقوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} و{لمَا بَيْنَ يَدَيَّ} يأبى حَمْلَه عليها؟ قلت: هو من المُضايِق، وفيه وجهان، أحدهما: أن تُضْمِرَ له "وأُرْسِلْتُ" على إرادة القول، تقديرُه: ويُعَلِّمه الكتابَ والحكمة ويقول: أُرْسِلْتُ رسولاً باني قد جئتكم ومُصَدِّقاً لِما بين يديَّ. والثاني: أنَّ الرسولَ والمُصَدِّق فيهما معنى النطق، فكأنَّه قيل: وناطقاً بأني قد جئتكم ومصدقاً لما بين يديّ. إنَّما احتاج إلى إضمار ذلك كلِّه تصحيحاً للمعنى واللفظ، وذلك أنَّ ما قبله من المنصوبات لا يَصِحُّ عطفُه عليه في الظاهر؛ لأنَّ الضمائر المتقدمة غيبٌ، والضميران المصاحبان لهذين المنصوبين للمتكلم، فاحتاج إلى ذلك التقدير لتتناسَبَ الضمائرُ. السادس: أن يكونَ حالاً من مفعولِ "ويُعَلِّمه" وذلك على زيادة الواو، كأنَّه قيل: ويُعَلِّمه الكتابَ حالَ كونِه رسولاً، قالَه الأخفشُ، وهذا على أصلِ مذهبهِ من تجويزِه زيادةَ الواوِ، وهو مذهبُ مرجوحٌ.وعلى الثاني في نصبِه وجهان، أنه مفعولٌ به عطفاً على المفعولِ الثاني ليُعَلِّمه أي: ويُعَلِّمه الكتابَ ورسالةً أي: يعلمه الرسالة أيضاً، والثاني: أنَّه مصدرٌ في موضع الحال، وفيه التأويلاتُ المشهورةُ في: رجلٌ عَدْلٌ.وقرأ اليزيديُّ: "ورسولٍ" بالجرِّ، وخَرَّجها الزمخشريُّ على أنَّها منسوقةٌ على قوله: "بكلمةٍ" أي: نُبَشِّرك بكلمة وبرسولٍ. وفيه بُعْدٌ لكثرةِ الفصلِ بين المتعاطِفَيْنِ، ولكن لا يَظْهَر لهذه القراءةِ الشاذة غيرُ هذا التخريجِ.وقوله: {إلى بني إِسْرَائِيلَ} فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يتعلَّقَ بنفس "رسولاً" إذ فعلُه يتعدَّى بـ "إلى"، والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لـ "رسولاً"، فيكونَ منصوبَ المحلِّ في قراءةِ الجمهور، مجرورَه في قراءة اليزيدي.قوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} قرأ العامَّة: "أني" بفتح الهمزة وفيها ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُهما: أنَّ موضعَها جر بعد إسقاطِ الخافض، إذ الأصل: بأني، فـ "بأني" متعلِّقٌ بـ "رسولاً"، وهذا مذهبُ الشيخين: الخليلِ والكَسائي. والثاني: أنَّ موضعَها نصبٌ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، الأول: أنَّه نصبٌ بعد إسقاط الخافض، وهو الباء، وهذا مذهب التلميذين: سيبويهِ والفرَّاء. الثاني: أنَّه منصوبٌ بفعل مقدر أي: يذكر أني، فيذكرُ صفةٌ لـ "رسولاً"، حُذِفَتِ الصفةُ وبقي معمولُها. الثالث: أنه منصوب على البدل من "رسولاً" أي: إذا جعلته مصدراً مفعولاً به، تقديرُه: ويُعَلِّمه الكتابَ ويعلِّمه أني قد جئتكم، جَوَّزه أبو البقاء وهو بعيد في المعنى.الثالث: من الأوجِهِ الأُوَلِ: أنَّ موضعَه رفعٌ على خبرِ متبدأٍ محذوفٍ أي: هو أني قد جِئْتُكم.وقرأ بعضُ القرَّاء بكسر هذه الهمزة وفيها تأويلان، أحدهما: أنَّها على إضمارِ القول أي: قائِلاً إني قد جئتكم، فَحَذَفَ القولَ الذي هو حالٌ في المعنى وأَبْقَى معمولَه. | |
|