عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم ... سورة آل عمران، الآية: 80 الأحد ديسمبر 23, 2012 10:42 am | |
| وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) قولُهُ تعالى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ} ذُكِرَ أَنَّ الْيَهُودَ لما نهاهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن اتخاذِ عيسى والعزير عليهما السلامُ أو غيرَهما من المخلوقات أرباباً من دون الله، قَالَوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُرِيدُ أَنْ نَتَّخِذَكَ يَا مُحَمَّدُ رَبًّا؟ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}، إِلَى قَوْلِهِ: {وَلا يَأْمُرَكُمْ...}. وَفِيهِ ضَمِيرُ الْبَشَرِ، أَيْ وَلَا يَأْمُرُكُمُ الْبَشَرُ يَعْنِي عِيسَى وعزيراً. {أَنْ تَتَّخِذُوا} أَيْ بِأَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا. وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي النَّصَارَى يُعَظِّمُونَ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمَلَائِكَةَ حَتَّى يَجْعَلُوهُمْ لَهُمْ أَرْبَابًا. {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} عَلَى طَرِيقِ استفهام الإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ، فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَتَّخِذُوا النَّاسَ عُبَّادًا يَتَأَلَّهُونَ لَهُمْ وَلَكِنْ أَلْزَمَ الْخَلْقَ حُرْمَتَهُمْ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ((لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي وَلَا يَقُلْ أَحَدَكُمْ رَبِّي وَلْيَقُلْ سَيِّدِي)). وفي التنزيل {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} يوسف: 42. وقد قالت قريشٌ والصابئةُ الملائكةُ بناتُ اللهِ، كما قالت اليهودُ عزيرٌ ابنُ اللهِ وقالت النصارى المسيحُ ابنُ الله. لكنَّ مَن آتاه اللهُ الكتابَ والحُكمَ والنُبوَّةَ يكونُ أعلمَ الناسِ وأفضلَهم فيمنعُه ذلك مِن ادِّعاءِ الأُلوهيَّةِ فانَّه تعالى لا يؤتي الوحيَ والكتابَ إلَّا أنفُسًا طاهرةً وأرواحًا طيِّبَةً فلا يَجمعُ بشرٌ بيْن النبوَّةِ وبيْن دُعاءِ الخلقِ إلى عبادةِ غيرِ اللهِ. وفي الآية هذه والتي سبقتها إشارةٌ شفيفةٌ إلى وُجوبِ اتِّخاذِ العلم سبيلاً للتقوى، ووجوب أن يعمل العالمُ بما علم. قال سيدُنا عليٌّ رضي الله عنه وكرَّم وجهَهُ: قَصَمَ ظهريَ رجلان، عالمٌ مُتَهَتِّكٌ وجاهلٌ مُتَنَسِّكٌ، لأنَّ العالِمَ يُنَفِّرُ الناسَ عن العِلْمِ بتَهَتُّكِهِ، والجاهلَ يُرَغِّبُ الناسَ في الجهلِ بِتنسُّكِهِ. وقال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((اللهم إني أعوذُ بك مِن عِلمٍ لا يَنْفَعُ وقَلْبٍ لا يَخْشَعُ ..)). رواه مسلم. وروى الإمام أحمد رضي الله عنه في مسنده عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، قَالَ: قُلْتُ مَنْ هَؤُلَاءِ قَالُوا خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُون)). فعلى المُعلِّمِ والمُتَعَلِّمِ أنْ يطلبَ بعِلمِه مَرضاةَ اللهِ وبعملِه الرَّبانيَّةَ فمَنِ اشتغلَ بالتَعَلُّمِ والتَعْليمِ لِغيرِ هذا المَقْصِدِ ضاع سعيُه وخاب عملُه.قولُه تعالى: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ} قرأ ابنُ عامرٍ وعاصمٌ وحمزةُ بنصبِ "يأمركم" والباقون بالرفع، وأبو عَمْرٍو على أصلِهِ من جَوازِ تسكينِ الراءِ والاختلاسِ، وهي قراءةٌ واضحةٌ سهلةُ التخريجِ والمعنى، وذلك أنَّها على القطعِ والاستئنافِ، أخبرَ تعالى بأنَّ ذلك الأمرَ لا يَقعُ. والفاعلُ فيه احتمالان، أحدُهما: أنَّه ضميرُ الله تعالى، والثاني: أنَّه ضميرُ "بَشَرٍ" الموصوفُ بما تقدَّم، والمعنى على عَوْدِهِ على "بَشَرٍ" أنَّه لا يَقعُ مِنْ بَشَرٍ موصوفٍ بما وُصِف به أَنْ يَجْعَلَ نفسَه ربًّا فيُعْبَدَ، ولا يأمرَ أيضًا أنْ تُعْبَدَ المَلائكةُ والأنبياءُ مِن دون اللهِ، فانتقى أنْ يدعوَ الناسَ إلى عبادةِ نفسِه وإلى عبادةِ غيرِه. والمعنى على عَوْدِه على اللهِ تعالى أنَّه أخبرَ أنَّه لم يَأمُرْ بذلك فانتَفى أمرُ اللهِ وأمرُ أنبيائه بعبادَةِ غيرِهِ تعالى.وأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها أوجهٌ، أحدُها: قولُ أبي عليٍّ وغيرِه، وهو أنْ يكونَ المعنى: ولا لَه أنْ يأمرَكم، فقدَّروا "أَنْ" تُضْمر بعد "لا" وتكون "لا" مؤكِّدةً لمعنى النفيِ السابِقِ كما تقول: ما كان من زيدٍ إتيانٌ ولا قيام. وأنت تريدُ انتفاءَ كلِّ واحدٍ منهما عن زيد، فلا للتوكيدِ لِمعنى النفيِ السابق، وبقيَ معنى الكلامِ: ما كانَ من زيدٍ إتيانٌ ولا منه قيام. الثاني: أنْ يكونَ نصبُه لِنَسَقِهِ على "يُؤْتِيَه" قال سيبويه: والمعنى: وما كان لبشرٍ أن يأمرَكم أنْ تتَّخِذوا الملائكةَ. قال الواحدي: ويُقَوِّي هذا الوجهَ ما ذَكَرْنا أنَّ اليهودَ قالتْ للنَبي صلى الله عليه وسلم: أتريدُ يا مُحمَّدُ أنْ نتَّخِذَكَ ربًّا فَنَزَلَت. وقد تقدم. الثالث: أنْ يكونَ معطوفاً على "يقولَ" في قراءةِ العامَّةِ قالَه الطَبريُّ. وتابعَ الزمخشريُّ الطبريَّ في عطفِ "يَأْمركم" على "يقول" وجَوَّز في "لا" الداخلةِ عليه وجهيْن، أَحدُهما: أَنْ تكونَ لِتأسيسِ النفيِ، والثاني: أنَّها مَزيدةٌ لِتأكيدِه، فقال: وقُرئَ "ولا يأمركم" بالنصبِ عطفاً على "ثم يقول"، وفيه وجهان، أحدُهُما: أَنْ تَجْعَلَ "لا" مزيدةً لِتأكيدِ معنى النَّفْيِ في قولِه: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} والمعنى: ما كان لِبشَرٍ أنْ يَسْتَنْبِئَهُ اللهُ ويُنَصِّبَه للدُعاءِ إلى اختصاصِ اللهِ بالعِبادةِ وتَركِ الأَنْدادِ، ثمَّ يأمُرَ الناسَ بأنْ يكونوا عبادًا له ويأمرَكم أنْ تتَّخِذوا المَلائكةَ والنَّبيِّينَ أرْبابًا كقولِكَ: ما كان لِزَيْدٍ أنْ أُكْرِمَهُ ثمَّ يُهينَني ويستَخِفَّ بي. والثاني: أن تَجْعَلَ "لا" غيرَ مَزيدةٍ، والمَعنى: أنَّ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ كان يَنْهى قُريْشًا عن عبادةِ المَلائكةِ، واليهودَ والنصارى عن عبادةِ عُزيرٍ والمسيح، فلمَّا قالوا له: أَنتَخِذُكَ رَبًّا قيلَ لهم: ما كانَ لِبشَرٍ أنْ يَسْتَنْبِئَهُ اللهُ ثمَّ يأمُرُ النَّاس بِعبادَتِهِ ويَنهاكم عن عبادةِ الملائكةِ والأنبياء. قلت: وهذا الذي أورده الزمخشري كلامٌ صحيحٌ ومعنى واضحٌ على كلا تقديريْ كونِ "لا" لتأسيسِ النَفْيِ أوْ تأكيدِهِ.وقد رَجَّحَ الناسُ قراءةَ الرفعِ على النَصبِ قال سيبويهِ: ولا يأمُركم منقطعةٌ مما قبلَهما؛ لأنَّ المعنى ولا يأمركم الله، قال الواحدي: ومما يَدُلُّ على الانقطاع من الأوَّلِ قراءةُ عبد الله: "ولَنْ يأمركم". فهذا دليلٌ على انقطاعِها من النسق وأنَّها مستأنفةٌ، فلمَّا وقعت "لا" موقعَ لن رَفَعَتْ كما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم} البقرة: 119 وفي قراءة عبدِ اللهِ: ولن تُسْألَ. وقال الزمخشري: والقراءة بالرفع على ابتداءِ الكلامِ أظهرُ، ويَعْضِدُها قراءةُ عبد الله: ولن يأمركم.وقد تقدَّم أنَّ الضميرَ في "يأمركم" يَجوزُ أنْ يَعودَ على "الله" وأن يعودَ على البشر الموصوف بما تقدم، والمرادُ به النبي صلى الله عليه وسلم، سواءً قُرئ برفع "ولا يأمركم" أو بِنصبِه إذا جعلناه معطوفاً على "يؤتيه"، وأمَّا إذا جعلناه معطوفاً على "يقول" فإنَّ الضميرَ يعودُ لِبشرٍ ليس إلا، ويؤيِّدُه ما قاله بعضُهم: ووجهُ القراءةِ بالنصب أنْ يكونَ معطوفاً على الفعلِ المنصوبِ قبلَه، فيكونُ الضميرُ المرفوعُ لِبَشَرٍ لا غير، يَعني بما قبلَه "ثم يقولَ". ولمَّا ذكر سيبويهِ قراءةَ الرفعِ جعلَ الضميرَ عائدًا على اللهِ تعالى، ولم يَذكر غيرَ ذلك، فيُحتملُ أَنْ يَكونَ هو الأَظهرَ عندَه، ويُحتملُ أنَّه لا يَجوزُ غيرُه، والأُولى أَوْلى.قال بعضُهم: في الضمير المنصوب في "يأمركم" على كلتا القراءتين خروجٌ من الغيْبةِ إلى الخِطابِ على طريقِ الالتِفاتِ. كأنَّه تَوَهَّمَ أنَّه لمَّا توهم تقدُّم ذِكْر الناسِ في قوله: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ} كان ينبغي أن يكون النظمُ "ولا يأمرهم" جَرْياً على ما تقدَّم، وليس كذلك، بل هذا ابتداءُ خطابٍ لا التفاتَ فيه.قولُه: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} بعد: متعلِّقٌ بـ "يأمركم"، و"بعد" ظرفُ زمانٍ مضافٌ لظرفِ زمانٍ ماضٍ، وقد تقدَّم أنَّه لا يُضافُ إليْه إلَّا الزمانُ نحو: حينئذٍ ويومئذٍ، و{أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} في محلِّ خفضٍ بالإِضافة؛ لأنَّ "إذ" تُضاف إلى الجملة مطلقاً اسميةً كانت أو فعليةً. | |
|