عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم ... سورة آل عمران، الآية: 96 الأحد فبراير 17, 2013 4:18 am | |
| إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ
(96) قولُه تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} البيتُ ما كان للمَبيتِ ثمَّ أُطلِقَ على المَكان مُطلَقاً، وإذا أُطلِقَ فالمَقصودُ الكعبةُ المُشرَّفَةُ، وعُرِّفَ البيتُ بأنَّه الذي بِبَكَّةَ للإشارَةِ إلى أنَّ مكَّةَ ذاتَها هي مَثابَةُ الشريعةِ الباقيةِ وهي شريعةُ النَّبيِّينَ أَجْمعين، وهي خالدةٌ إلى يومِ القِيامةِ، وهي الإسلامُ جِماعُ كلِّ الشرائعِ السَماوِيَّةِ؛ وهو الذي وصَّى اللهُ بِه إبْراهيمُ ومُوسى وعيسى.فوُجودُ مَقامِ إبراهيمَ بالبيْتِ الحَرامِ، وآثارُ أقدامِه الشَّريفَةِ دليلٌ على مَكانَةِ هذا البيتِ مِن مِلَّةِ إبراهيمَ عليْه السَّلامُ، وأمَّا ما يَدَّعيه اليَهودُ مِنْ وُجُودِ آثارِ هيكلِ سُليمانَ تحتَ المَسْجِدِ الأقْصى، فلمْ يَقُمْ عليه دَليلٌ ولا بَيِّنَةٌ.ووَصَفَهُ سبحانَه وتعالى بأنَّه مُبارَكٌ؛ أي فائضُ الخَيْراتِ كثيرُ الثَّمَراتِ المادِيَّةِ والمَعْنوِيَّةِ؛ فمِنْ بَرَكاتِه المادِيَّةِ أنَّه يَفِدُ إليْه الحُجاجُ مِنْ كلِّ فَجٍّ عَميقٍ؛ ويَعتَمِرون فيه في كلِّ أيامِ أَشهُرِ السَّنَةِ، حتَّى أنَّه لَا يَمُرُّ عليه يومٌ منْ غيرِ وُفودٍ تَجيءُ إليْه، ومعَ هذه الوُفودِ خيراتُ الأرْضِ؛ وكان ذلك إجابةً لِدُعاءِ إبراهيمَ في قولِه تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}، سورةُ إبراهيم، الآية: (37). وقد كان في البيتِ تلك البَرَكَةُ المادِيَّةُ بتِلكَ الوُفودِ؛ وبالثروات التي اكتُنزتْ في باطِنِ الأرضِ حولَه، مما كان خيرًا وبركةً على سَدَنَتِهِ ومَنْ يَعيشون حولَه، وبِذلك أجابَ اللهُ تعالى دُعاءَ إبراهيمَ عليْه السلامُ، وبَقي على الذين يَتَنَعَّمون بِهذه الثَّمَراتِ أنْ يَشْكُروا الله: {لَعَلَّهُمْ يَشْكرُونَ}.هذه هي البَرَكةُ المادِيَّةُ، أمَّا البَرَكَةُ المَعنويَّةُ فهي أنَّه مَوْضِعٌ لأكبَرِ عِبادةٍ جامِعةٍ وهي الحَجُّ. وهو مَبْعَثُ محمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وفيه مَنازِلُ وحيِهِ، وإليْه يَتَّجِهُ النَّاسُ في كلِّ بِقاعِ الأرضِ، وتَلتقي عندَه قُلوبُ الأَجناسِ والألوانِ المُخْتَلِفَةِ في عِباداتِهم، ولذا وَصَفَه ـ سبحانَه ـ بقولِه: {وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} وهذا عطفٌ على قولِه: ـ سبحانَه ـ {مُبَارَكًا} أي أنَّ اللهَ ـ سبحانَه ـ وتعالى جَمَعَ لهذا البيتِ الكريمِ حالتيْن خاصَّتيْنِ بِه لمْ تَجْتَمِعا في بيتٍ غيرِه، فهو قد اشْتَمَلَ على الِبرَكَةِ المادِيَّةِ والمَعْنَوِيَّةِ، وحماهُ اللهُ تعالى من اعتداءِ المُعتدين، وهو بذاتِه مصدرُ هدايةٍ للنّاسِ أَجمعين؛ ففي وسَطِ الشِرْكِ كانوا يَلْتَحِمون ويَتقاتلون حولَه، فإذا جاءوا إليْه كان الرجلُ يَلقى قاتلَ أَخيهِ أو أَبيه فلا يَمَسُّه بسوءٍ لِعِظَمِ حُرْمَةِ البيتِ في قلبِه، وإنْ مَسَّ الشِركُ نفسَه، والذين أرادوه بسوءٍ ما إنْ جاءوا إليه حتَّى ارتدُّوا على أَدبارِهم خاسئين؛ وبذلك ثَبتتْ حُرمتُه، وأَشَعَّ نورُه لغيرِ العَرَبِ، كما امتلأتْ قلوبُ العَرَبِ بِحُرْمتِه، وبَعدَ الإسلامِ كان قِبْلَةَ المُسلِمين في العالم ومَزارَهم ومَوضِعَ مُؤتَمرِهم الأكبرِ، وإلى البيتِ الحرامِ يَأْرِزُ الإسلام، فكونُ هذا البيتُ العتيقُ مَصدرَ هِدايةٍ ثَبَتَ جاهِلِيَّةً وإسلامًا، وهِدايتُه في الإسلامِ مُطْلَقَةٌ، وهِدايَتُه في الجاهليَّةِ نِسبيَّةٌ. وفي أوَّلِيَّتِهِ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَوَّلِ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ قَالَ: ((الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ)). قُلْتُ: ثُمَّ أَيَّ؟ قَالَ: ((الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى)). قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: ((أَرْبَعُونَ عَامًا ثُمَّ الْأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ)). قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: لَمْ يُوضَعْ قَبْلَهُ بَيْتٌ. قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ قَبْلَ الْبَيْتِ بُيُوتٌ كَثِيرَةٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلْعِبَادَةِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: تَفَاخَرَ الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ فَقَالَتِ الْيَهُودُ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ مِنَ الْكَعْبَةِ، لِأَنَّهُ مُهَاجَرُ الْأَنْبِيَاءِ وَفِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: بَلِ الْكَعْبَةُ أَفْضَلُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَوَّلُ مَنْ بَنَاهُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: خَلَقَ اللَّهُ مَوْضِعَ هَذَا الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا مِنَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، وَأَنَّ قَوَاعِدَهُ لَفِي الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى. وَأَمَّا الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى فَبَنَاهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خِلَالًا ثَلَاثَةً حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ فأوتيه، وسأل الله عزَّ وجلَّ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأُوتِيَهُ، وَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ أَلَّا يَأْتِيَهُ أَحَدٌ لَا يَنْهَزُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ فِيهِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ فَأُوتِيَهُ)). فَجَاءَ إِشْكَالٌ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، لِأَنَّ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَسُلَيْمَانَ آمَادًا طَوِيلَةً. قَالَ أَهْلُ التَّوَارِيخِ: أَكْثَرُ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ. فَقِيلَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ إِنَّمَا جَدَّدَا مَا كَانَ أَسَّسَهُ غَيْرُهُمَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ بَنَى الْبَيْتَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مِنْ وَلَدِهِ وَضَعَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مِنْ بَعْدِهِ بِأَرْبَعِينَ عَامًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَلَائِكَةُ أَيْضًا بَنَتْهُ بَعْدَ بِنَائِهَا الْبَيْتَ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَكُلٌّ مُحْتَمَلٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ بِبِنَاءِ بَيْتٍ فِي الْأَرْضِ وَأَنْ يَطَّوَّفُوا بِهِ، وَكَانَ هَذَا قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ، ثُمَّ إِنَّ آدَمَ بَنَى مِنْهُ مَا بَنَى وَطَافَ بِهِ، ثُمَّ الْأَنْبِيَاءُ بَعْدَهُ، ثُمَّ اسْتَتَمَّ بِنَاءَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.قولُه تعالى: {وُضِعَ لِلنَّاسِ} هذه الجملة في موضعِ خفضٍ صِفَةً لـ "بيتٍ". و"للناس" مُتَعَلِّقٌ بالفعلِ قبله، واللامُ فيه للعلةِ. وقولُه: {لَلَّذي بِبَكَّةَ} الذي: خبرُ إنَّ، و"لـ" المزحلق، وأَخْبر هنا بالمعرفة وهو المَوصولُ عن النَكِرةِ وهو "أولَ بيت" لتخصيصِ النَّكِرَةِ بِشيئين: الإِضافةِ والوصفِ بالجملة بعده، وهو جائزٌ في بابِ إنَّ، ومِنْ عِبارةِ سِيبويْهِ: إنَّ قريباً منك زيدٌ. لَمَّا تخصص "قريباً" بوصفِه بالجارِّ بعدَه ساغَ ذلك، وزاده حُسناً هنا كونُه اسْمَ "إنَّ"، وقد جاءَتِ النَكِرةُ اسْماً لـ "إِنَّ" وإنْ لم يَكُنْ تَخصيصٌ. قال الفرزدق: وإنَّ حَراماً أَنْ أَسُبَّ مُجاشِعاً ............... بآبائيَ الشُمِّ الكرامِ الخَضَارمِو: "ببكة" صلةٌ، والباءُ فيه ظرفيةٌ أي: في مكة، وبَكَّةُ لُغةٌ مَكَّةَ عند الأكثرين وفيها أوجهٌ، أحدُها أنَّها مُرادفةٌ لِمكَّةَ فَأُبدلتْ ميمُها باءً، قالوا: والعربُ تُعاقِبُ بين الباء والميم في مواضع، قالوا: هذا عليَّ ضَرْبَةُ لازِمٍ ولازِبٍ، وهذا أمْرٌ راتِبٌ وراتِمٌ، والنَّمِيطُ والنَّبيطُ، وسَبَدَ رأسَه وسَمَدَها إذا حلَقها، وِأَعْبطت الحُمَّى وأَعْمَطَت، وقيل: هو اسمٌ لِبَطْنِ مكَّةَ، وقيلَ: هو اسْمٌ لِمَكانِ البيتِ، وقيل: للمسجدِ نفسِه، والتَبَاكُّ هو الازْدِحامُ وإنَّما يحصُلُ عندَ الطَوافِ، يُقالُ: تَبَاكَّ الناسُ أي: ازْدَحَموا، وسُمِّيت بَكَّة، لازْدِحامِ الناسِ، وقيلَ: لأنَّها تَبُكُّ أَعناقَ الجَبابرة، أي تَدُقُّها، وسُمِّيتْ مكَّة من قولهم: تَمَكَّكْتَ المُخَّ من العظمِ إذ استقصيْتَه ولم تتركْ منه شيئاً، ومنه: امْتَكَّ الفصيلُ ما في ضَرْعِ أُمِّه إذا لم يَتْركْ فيه لَبَناً، قَالَ الشَّاعِرُ:مَكَّتْ فَلَمْ تُبْقِ فِي أَجْوَافِهَا دِرَرًا .......................................وقيل: لأنَّها تَمُكُّ الذنوبَ، أي: تُزيلها كلَّها. ورُويَ أنَّه ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ قال: ((لا تُمَكِّكُوا على غرمائِكم)). ثمَّ في تسميتِها بذلك أَوْجُهٌ، فقال ابنُ الأَنباري: سُمِّيَتْ بذلك لِقِلَّةِ مائِها وزَرِعِها وقِلَّةِ خِصْبِها، وقال الخليلُ بنُ أحمد الفراهيدي: لأنَّها وَسَطَ الأرضِ كالمُخِّ وسطَ العَظْمِ. والمَكُّوكُ كأسٌ يُشْرَبُ بِه ويُكالُ بِه كالصُّواعِ. وقيل سُمِّيتْ مَكَّة مِن قولِك بَكَكْتُ الرَّجُلَ إذا وَضعتَ منه ورَدَدْتَ نخوتَّه فكأنَّها تمُك مَنْ ظَلَمَ فيها أي تُهلِكُه وتَنْقُصُه، وكانت تَلْبِيَةُ عَكَّ ومَذْحِجَ في الجاهليَّةِ:يا مَكَّةُ الفاجرَ مُكِّي مَكّا ....................... ولا تَمُكّي مُذْحِجًا وعَكا فيترُكُ البيتَ الحرامَ دكّا ......................... جِئنا إلى رَبِّكَ لا نَشُكّاقولُه: {مُبَارَكاً وَهُدًى} حالان: إمَّا مِنَ المضمرِ في "وُضِع"، وفيه نظرٌ، مِنْ حيث إنه يَلْزَمُ الفصلُ بين الحالِ وبيْن العاملِ فيها بأجنبيٍّ، وهو خبر إنَّ، وذلك غيرُ جائزٍ لأنَّ الخَبَرَ معمولٌ لإِنَّ، فإنْ أضْمَرْتَ عاملاً وهو "وُضِع" بعد "للذي ببكة" أي و"وُضِع" جاز.وقرأ العامَّةُ: "وُضِعَ" مبنيّاً للمفعولِ، وقرأ عِكْرِمَةٌ وابنُ السَّمَيفَعِ: "وَضَع" مبنيّاً للفاعل، وفاعلُه ضميرُ إبراهيمَ لِتَقدُّمِ ذِكْرِهِ، ولأنَّه مشهورٌ بعِمارتِه، ويُمكِنُ أنْ يعودَ الضميرُ على الباري تعالى. | |
|