عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم ... سورة آل عمران، الآية: 58 الأربعاء ديسمبر 12, 2012 5:15 pm | |
| ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ
(58) قوله تبارك وتعاى{ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ} ذلك: أي المذكور من أمر عيسى عليه السلامُ وما سَبَقَ من أَحداثٍ، في شأنِ امرأةِ عمرانَ، ومريم، وزكريا، ويحيى، وكان لكلِّ واحدٍ من هؤلاءِ قضيَّةٌ عجيبةٌ يُخرَقَ فيها ناموسُ الكونِ، وكلُّها آياتٌ، أي عجائبُ. وقد نُقِلَتْ إليْنا هذه العجائبُ مِنْ واقعِ ما رَآه الذين عاصروا تلك الأحداثَ، وجاء الخبرُ اليقينُ بتلك العجائبِ في قُرآنٍ لا يَأتيه الباطلُ من بيْن يديْه ولا مِنْ خلفِه، وهو الكتابُ الحَقُّ المَوصوفُ مِنَ اللهِ بأنَّه {الذكر الحكيم} والإتيانُ بما يَدُلُّ على البُعدِ (ذلك) للإشارةِ إلى عِظَمِ شأنِ المُشارِ إليْه وبُعدِ مَنزِلَتِه في الشَّرَفِ. "نَتْلُوهُ عَلَيْكَ" أي نَسرُدُه ونَذكُرُه شيئًا بعدَ شيءٍ، والمُرادُ تَلَوناه إلَّا أنَّهُ عبَّرَ بالمُضارعِ استحضارًا للصورةِ الحاصِلةِ اعْتِناءً بها، وقيل: يُمكِنُ الحَمْلُ على الظَّاهِرِ لأنَّ قصَّةَ عيسى عليه السلامُ لم يُفرَغْ منها بعد.ولنا أن نناقش الذين يعتقدون في سيِّدِنا عيسى عليه السلام ما لا ينبغي له، فيتّفقون معنا أنَّ اللهَ ـ سبحانه وتعالى ـ غيبٌ، ولكنَّنا نختلف معهم حين يقولون: إنَّ اللهَ أرادَ أنْ يُؤنِسَ البشرَ بِصُورةٍ يتجلّى لهم فيها بَشَرًا فجاء بعيسى ـ عليه السلامُ ـ لِيتحقَّقَ لهم ذلك الأنسُ. ونقول لهم: إنَّ عيسى كان طفلًا، ثمَّ كَبُرَ مِنْ بعدِ ذلك، وقد طرأ تغير على صورتِه، فأيُّ صورةٍ كانت تمثلُ اللهَ؟ صورتُه وهو طفلٌ أم كهلٌ؟؟ إنَّ للهِ صورةٌ واحدةٌ لا نَراها ولا نَعرِفُ كُنهَها فهو ـ سبحانه ـ {ليس كمثلِه شيء}.وإن كان اللهُ على كلِّ هذه الصُورِ فمعنى ذلك أنَّ للهَ أغيارًا يتغير ويتبدل ويلزم من ذلك أن يكون ثمَّة مَنْ يُغيِّرُه لأنه لا بد لكل فعلٍ من فاعل وآنذاك لن يكون إلهًاخالقًا بل هي من صفة المخلوق المقهور التي تجري عليه الأفعال وهو سبحانه منزَّهٌ عن ذلك، ولو كان على صورةٍ واحدةٍ لقلنا: إنَّه الثباتُ والأمرُ كذلك فهو ـ سبحانَه ـ الحقُّ الذي لا يَتغيَّرُ ولا يتبدَّلُ ولا تجر الأفعالُ عليه بل هو الفعال لِما يُريدُ، وإنَّما هي أفعالُه التي تجري على مخلوقاته. ثمَّ هم يقولون: إنَّ اللهَ أرادَ أنْ يَجعلَ صورتَه في بَشَرٍ ليُؤنِسَ الناسَ بالإلهِ، فتمثَّلَ في عيسى، عليه السلامُ. وحينها لنا أنْ نَسألَ: كَمْ اسْتَغرَقَ وُجودُ عيسى على الأرض؟ والإجابة : ثلاثين عامًا أو يَزيدُ قليلًا. وهكذا تكون فترة معرِفةِ النَّاسِ بالصُّورةِ الإلهيَّةِ محدودةٌ بهذه السنوات الثلاثين طبْقًا لِتَصَوُّرِكم. ولا بدَّ أيضاً من أنْ نسألَ: ما عُمرُ الخلقِ البَشَريِّ كلِّه؟ إنَّ عمرَ البَشريَّةِ هو مَلايينُ السِنين. فهل تَرَكَ اللهُ خلقَه السابقين الأوَّلين بدون أنْ يُبديَ لهم صورتَه، ثمَّ تركَ خلقَه الآخرين الذين قدِموا إلى الحياة بعد وفاةِ عيسى ـ أي تمام مهمَّته ـ ورفعِه ، بدون أنْ يُعطيَهم صورةً لَه؟ إنَّ هذا تصوُّرٌ لإله ظالِمٍ، وسبحانه وتعالى منزَّهٌ عن الشِّرْكِ والظُلْم. فلا يُعقلْ أنْ يَضِنَّ بصورتِه فلا يُبْقيها إلَّا ثلاثين عامًا؟ إنَّ هذا القولَ لا يَقبلُه عقلٌ يَثِقُ في عَدالَةِ اللهِ المُطلَقَةِ.ثمَّ إنَّهم يقولون: إن عيسى عليه السلام قد صُلِبَ، وهم مَعْذورون والحقُّ ـ سبحانه وتعالى ـ قد عَذَرَهم في ذلك فأوْرَدَ التأريخ الحقَّ العادل، حين يقول: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} النساء: 157.لقد جعل الله لهم عذراً في أنْ يقولوا: إنَّه قُتِلَ أو صُلِبَ؛ لأنَّه شُبِّهَ لهم وكان من المَعقولِ أنْ يَلْتَمِسُوا مِن الإسلامِ حلًا لهذِه المُشْكِلَةِ، لأنَّ الإسلامَ جاءَ لِيَقولَ: "لا، لقد شُبِّهَ لكم، فما قَتَلوه وما صَلَبوه؛ لأنَّ هذا الفعلَ ـ القتلُ أو الصلبُ ـ يَنقُضُ فِكرَتَهم عَنْ أنَّه إلِهٌ أو ابْنُ إلهٍ. لأنَّ المَصلوبَ لو كان إلهًا أو ابنَ إلهٍ، لكانت لديْه القُدرةُ التي تَغْلِبُ الصالِبَ، فكيفَ يَعقِلُ الإنسانُ أنْ يَنقلِبَ الإلهُ ـ أو ابنُ الإلهِ ـ مقدورًا عليه من مخلوقٍ؟ وقد يَرُدُّون فيقولون إنَّ اللهَ قد أسْلَمَ ابنَه بمحضِ إرادتِه للقتلِ والصلبِ فداءً للبشريَّةِ حتى يُكفِّرَ عنهم الذنوب والآثامَ. وهذه لعمري من السخف بحيث تثير الضحك. تصوّرْ أنَّ أحداً أذنب في حقِّك فقلتَ له لن أسامحك حتّى تقتل ولدي وتصلبَه! أي درك هذا من الانحطاط الفكري نزلوا إليه. وهل ثمّةَ أغلى من الولد لا سيما إن كان وحيداً؟؟ ومن الذي سيحاسب اللهَ إن هو غفرَ لهم دون أن يقتلوا ولدَه؟ واللهُ جَلَّ وعلا يَغضَبَ إنْ أنْتَ سفكت دم نملةٍ بغير حقٍّ. فكيف لا يرضى عن المذنب إلّا إذا قتل ولدَه؟؟ إنّها لا تعمى الأبصارُ ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. فالإسلامُ عندما قال: إنَّ عيسى ابنَ مريَمَ لمْ يُصْلَبْ فقد كرَّمَهُ اللهُ. وهكذا تَرى أنَّ الإسلامَ قد جاء ليُصفِّيَ العقائدَ كلَّها مِنْ عيوبِ التحريفِ التي قام بها المُتَّبِعون لِتِلْكَ الأدْيان.قولُه: {مِنَ الآيات والذكر الحكيم} أي الحُجُجِ الدالَّةِ على صِدْقِ نُبُوَّتِكَ إذْ أَعلمْتَهم بما لا يَعلَمُه إلَّا قارىءُ كتابٍ أو مُعَلَّمٌ ولستَ بواحدٍ منهما، فلم يَبْقَ إلَّا أنَّك قد عَرَفْتَه مِن طريقِ الوَحي "والذكر" أي القرآنُ، وقيلَ: اللوحُ المَحفوظُ وتفسيرُه بِه لاشْتِمالِه عليه، "الحكيم" أي المحكم المتقن نظمُه، أو الممنوعُ من الباطل، أو صاحب الحكمة، وحينئذٍ يكونُ استعمالُه لِما صَدَرَ عنه ممّا اشتملَ على حِكمَتِه؛ إمَّا على وجهِ الإسْتِعارةِ التبعيَّةِ في لَفظِ حَكيمٍ، أو الإسنادِ المَجازيِّ بأنْ أَسْنَدَ للذِكْرِ ما هو لِسَبِبِهِ وصاحبِه، وجعله من باب الإستعارة المَكنيَّة التَخْيِيليَّةِ بأنْ شَبَّهَ القُرآنَ بناطقٍ بالحِكمَةِ وأثبتَ لَه الوصفَ بحكيمٍ تَخْييلًا. قوله تعالى: {ذلك نَتْلُوهُ مِن الأياتِ} ذلك: مبتدأٌ و"نَتْلوهُ" خبرُه، و"من الآيات" حالُهُ ويجوزُ أن يعربَ خبراً بعدَ خبرٍ، أو خبرَ مبتدأٍ مضمَرٍ والتقدير: هُو "من الآيات"، ولكنَّ الأحسنَ الرفعُ بالابتداءِ ، لأنَّه لا يُحْوج إلى إضمارٍ كما يجوزُ أنْ يكونَ يُعرَبَ "ذلك" مفعولاً لفعلٍ مقدَّرٍ يُفَسِّرُهُ ما بعدَه، فالمسألةُ مِن الاشْتِغال. ويجوزُ أَنْ يكونَ "ذلكَ" خبرَ مبتدأٍ مضمَرٍ، يعني: الأمرُ ذلك. قولُه: {نَتْلوه من الآيات} نَتْلوه: حالٌ مِنِ اسمِ الإِشارةِ، و"من الآيات" حالٌ مِن مفعولِ "نَتْلوه" ويجوزُ أَنْ يكونَ "ذلك" مَوْصُولاً بِمَعنى الذي، و"نَتْلوه" صلةٌ وعائدٌ، وهو مبتدأٌ خبرُه الجارُّ بعدَه، أي: الذي نتلوه عليك كائنٌ من الآيات أي: المعجزاتُ الدالَّةُ على نُبُوَّتِك، جَوَّز ذلك الزجاج وتَبِعه الزمخشري، وهذا مذهبُ الكوفيين، وأمَّا البصريُّون فلا يُجيزون أنْ يَكونَ اسمٌ مِن أَسماءِ الإِشارة مَوْصولاً إلا "ذا" خاصَّةً بِشروط، ويجوزُ أنْ يكونَ "ذلك" مبتدأً، و"من الآيات" خبرُه، و"نتلوه" جملةً في موضعِ نصبٍ على الحال، والعاملُ معنى اسمِ الإِشارة. و"مِنْ" فيها وجهان، فهي إمَّا: أنْ تكون تبعيضيَّةً ـ وهو الأظهر ـ لأنَّ المتلوَّ عليه ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ من قصَّة عيسى بعضُ معجزاتِه وبعضُ القرآن، وهذا وجهٌ واضح. وإمَّا: أن تكون لبيانِ الجِنْسِ، ولا يتأتَّى ذلك هنا من جهةِ المعنى إلَّا بمجازٍ، لأنَّ تقديرَ "مِنْ" البيانيَّةَ بالمَوصولِ ليس بظاهِرٍ، إذ لو قلت: ذلك نتلوه عليك الذي هو الآيات والذكر الحكيم لاحتجْتَ إلى تأويلٍ، وهو أَنْ يُجْعَلَ بعضُ الآيات والذكرِ آياتٍ وذكراً وهو مجازٌ. والحكيمُ صيغةُ مبالغَةٍ مُحَوَّلٌ من فاعلٍ كَضريبٍ مِن ضارِبٍ، ووُصِفَ الكِتابُ بذلك مَجازاً، لأنَّ هذه الصفةَ في الحقيقةِ لِمُنْزِلِهِ والمُتكلِّمِ بِه فَوُصِفَ بصفةِ مَنْ هو مِن سببِه وهو الباري تبارك وتعالى، أو لأنَّه ناطقٌ بالحِكمةِ أوْ لأنَّه أَحْكَمُ في نظمِه، وجَوَّزوا أنْ يكونَ بمعنى مُفْعِل أي: مُحْكِم لقولِه تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} إلاَّ أنَّ فَعِيلًا بمعنى مُفْعِلٍ قليلٌ قد جاءَتْ منه أُلَيْفاظٌ قالوا: عَقَدْتُ العَسَلَ فهو عَقِيد ومُعْقَد، واحْتَبَسْتُ الفرسَ في سبيلِ اللهِ فهو حَبِيسٌ ومُحْبَسٌ.وفي قوله: {نَتْلُوهُ} التفاتٌ من غَيْبَة إلى تكلُّم، لأنَّه قد تقدَّمه اسمٌ ظاهرٌ، وهو قولُه: {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} وفيه نظرٌ، إذ يُحْتمل أنْ يكونَ {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} جِيء بها اعتراضاً بين أبعاضِ هذه القصةِ. وقوله: "نَتْلُوهُ" فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه وإنْ كان مُضارِعاً لفظاً فهو ماضٍ معنًى أي: ذلكَ الذي قَدَّمْناه من قصةِ عيسى وما جَرَى له تَلَوْناه عليك كقولِه: {واتَّبَعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} البقرة: 102، والثاني: على بابِه لأنَّ الكلامَ بعدُ لم يَتِمَّ، ولم يفرغ من قصة عيسى عليه السلام إذ بقي منها بقيةٌ. | |
|