ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(34)
قولُه ـ جَلَّ من قائل: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ) في النّيَّةِ والعملِ والاخلاصِ والتوحيدِ، والذريَّةُ هُمُ الفُروع مِن الأولادِ وأولادِهم مهما نَزَلوا، والمعنى أنَّ أُولئكَ المُصْطَفَيْنَ الأَخيارَ بعضُهم ذرّيَّةٌ مِن بعضٍ، فهم متَّصلو النَسَبِ بسِلْسِلَةٍ لَا تَنْقطِعُ، فنوحٌ مِن ذُرّيَّةِ آدمَ، وآلُ إبْراهيم مِن ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، وآلُ عُمرانَ مِن ذُرِّيَّةِ آلِ إبْراهيمَ، وهكذا، فهي سلسلة متَّصِلٌ بعضُها ببعضٍ في النَسَبِ والهِدايةِ. ويترتب على تشابه صفاتهم في الخير والفضيلة ما داموا جميعًا مُصْطَفيْن، وما داموا جميعًا مِن سلسلة واحدةٍ ونِسْبةٍ واحدة.
وقولُه: {وَاللَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ} إشارةٌ إلى كمالِ إِحاطتِه، وإلى أنَّه إذ اصْطَفى هؤلاء اصطفاهم على عِلْمٍ دقيقٍ فلَا يَخفى على اللهِ شيءٌ في الأرضِ ولا في السماءِ، وإنَّ ذلك النَصَّ الكريمَ فيه تَمهيدٌ لقولهِ: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَت عِمْرَانَ}. ومعنى "سمِيعٌ عَلِيمٌ" أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى كان يعلم عِلْمَ مَن يَسْمَعُ في الوقتِ الذي قالت فيه امرأة عِمران ذلك القول، فهو ـ سبحانَه وتعالى ـ سَمِع قولَ امرأةِ عُمْران ذلك القولَ، ونَذْرَها ذلك النذرَ، وقد عقدتِ العَزْمَ على أنْ يَكونَ ما في بَطنِها خالِصًا للهِ ـ سبحانَه؛ ومعنى النَذْرِ التزامُ التقرُّبِ إلى اللهِ ـ تعالى ـ بأمرٍ مِنْ جِنْسِ العِبادات المَفروضةِ؛ وقد نَذَرْت هذه السيِّدةُ الكريمةُ لله، أي التزمت لله أنْ يَكون ما في بطنِها مُحرَّرًا، أيْ خالصًا لله ـ سبحانه وتعالى ـ ولخدمة بيتِه المُقدَّسِ؛ فـ "محرَّرًا" أي مُخلَصًا للعِبادة والمُناجاة، ومَن أَخلصَ للعبادةِ فقد صار عتيقًا مِن كلِّ رِقٍّ في الدنيا، فهو عتيقٌ مِن رِقِّ الهوى، ومَن رِقِّ الرجال، ومن رِقِّ ذوي السلطان، لأنَّه يَكون خالصًا لمَالِك المَلكوت،
ومَن خَلُصَ له تعالى فقد عُتِقَ مِن كلِّ رِقٍّ.
وعمران: هو أبو مريمَ بهذا النص، وهو عُمران المذكورُ أوَّلًا كما ذكرنا، وفرْضُ المُغايرة بأن يكون الأوَّلُ عمران أبا موسى، وأن عمران هذا هو أبو مريم، تكلُّفٌ لَا حاجة إليه، وليس في النص ما يدل عليه.
قصدتْ امرأةُ عُمران تلك العبادةَ واحتسبتْ هذه النيَّةَ راجيةً ما عند ربِّها، وأوَّلُ رجائها أنْ يَقبَل نَذرَها، ولذلك تضرَّعت إليه أن يَقبل فقالت: {فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. أي أَضرَعُ إليك أنْ تَقبَل نَذري، فإنَّك سمعتَ ما قلتَ، وما حدثتُ به نفسي، وما احتسبتُ به القُربى عندك، فكان النَّذرُ بذاتِه عِبادةً، وكان الدعاءُ بالقَبولِ عِبادةً أُخرى، فإنَّ الدعاءَ مُخُّ العِبادةِ، خُصوصًا في ذلكَ المَقامِ الرُّوحانيِّ السامي الجليلِ، والتَقَبُّلُ هو الأَخذُ بالأمرِ في طريقِ القَبولِ، حتّى يَتِمَّ القَبولُ، فكأنَّها ما كانت تَطمَعُ في القَبولِ بادئ ذي بِدْءٍ، بل تَطمعُ في أنْ يَنظُرَ في الأمرِ نظرةَ رِضا حتّى يَنالَ القَبولَ، وتِلك مَرتَبَةُ الصِدِّيقينَ يَستصغرون أعمالَهم بِجوارِ رضا اللهِ. ولقد كانت إجابةُ اللهِ تعالى لِهذه العِبادةِ التي طُوِيتْ في ثنايا النَّذرْ، والعِبادةِ الأخرى التي طُويت في ثنايا ذلك الدعاء، وهي في نَذرِها وفي ضراعتها لقبولِ هذا النذر كانت تفرض أن الحمل ذكر، لأنه هو الذي يصلح لسدانة المسجد الأقصى والبيت المقدس، ولكنّها عند الوِلادةِ تبيَّنَ أنَّها أُنثى، فذَكَرتْ ذلك، وأَشارتْ في ذِكرِها إلى تقديرِها وفَرضِها.
قولُه تعالى : {ذُرِّيَّةً} في نَصْبِها وجهان، أحدُهما: أنَّها مَنصوبةٌ على البَدَلِ مِمَّا قبلَها، وفي المُبْدَلِ مِنه على هذا ثلاثةُ أَوْجُهٍ، أحدُها: أنَّها بدلٌ من "آدم" ومَنْ عُطِفَ عليه، وهذا إنَّما يَتأتَّى على قولِ مَنْ يُطلق "الذُّرِّيَّةَ" على الآباء وعلى الأبناءِ، وإليْه ذَهَبَ جَماعَةٌ. قال الجُرْجاني: الآيةُ تُوجِبُ أنْ يَكونَ الآباءُ ذُرّيَّةً للأبناءِ والأَبناءُ ذُرِّيَّةً للآباء، وجاز ذلك لأنَّه مِن "ذَرَأَ الخَلْقَ" فالأبُ ذُرِيَ منه الولدُ، والولدُ ذُرِيَ مِن الأبِ. وقال الراغب: الذريَّةُ تُقالُ للواحِدِ والجَمْعِ والأصلِ والنَسْلِ، كقوله: {حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} يس: 41. أي: آباءهم، ويقال للنساء: الذَّراري، فعلى هذين الوجهين يَصِحُّ جَعْلُ "ذُرِّيَّةً" بدلاً من آدمَ ومَن عُطِف عليه. وقال أبو البقاء: ولا يجوز أَنْ يكونَ بدلاً من آدم لأنه ليس بذرية. وهذا الذي قاله ظاهرٌ إنْ أرادَ آدمَ وحدَهُ دونَ مَنْ عُطِفَ عليه، وإنْ أرادَ آدمَ ومَنْ ذُكِرَ معه فيكونُ المانعُ عندَه عدمَ جوازِ إطلاقِ الذُرِّيَّةِ على الآباء.
الثاني: مِن أَوجُهِ البَدَلِ: أنَّها بَدلٌ مِن "نوح" ومَنْ عُطِفَ عليه، وإليه نحا أبو البقاء. الثالث: أنَّها بَدلٌ مِن الآلَيْن: آل إبراهيم وآل عمران، وإليه نحا الزمخشريُّ، يريد أنَّ الآلَيْن ذريَّةٌ واحدة. الوجهُ الثاني مِن وجهَيْ نَصْبِ "ذُرِّيَّةً": النَصْبُ على الحال، تقديرُه: اصْطفاهم حالَ كونِهِم بعضَهم من بعضٍ، والعاملُ فيها: اصطفى. وقد تقدَّم القولُ في اشتقاقِ هذه اللفظةِ ووزنِها ومدلولِها مشبَعاً فأغنى عن إعادته.
قولُه: {بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} هذه الجملةُ في موضِع النَّصْبِ نَعْتاً لِـ "ذُرِّيَّةً".