قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)
نَزَلَتْ هذه الْآيَةُ فِي وَفْدِ نَجْرَانَ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ مَا ادَّعَوْهُ فِي عِيسَى حُبٌّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَالُوا: نَحْنُ الَّذِينَ نُحِبُّ رَبَّنَا. وَرُوِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ إِنَّا لَنُحِبُّ رَبَّنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي".
والْمَحَبَّةُ عِنْدَ الْعَرَبِ إِرَادَةُ الشَّيْءِ عَلَى قَصْدٍ لَهُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ ورسول طَاعَتُهُ لَهُمَا وَاتِّبَاعُهُ أَمْرَهُمَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي". وَمَحَبَّةُ اللَّهِ لِلْعِبَادِ إِنْعَامُهُ عَلَيْهِمْ بِالْغُفْرَانِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ} آل عمران: 32 أَيْ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: عَلَامَةُ حُبِّ اللَّهِ حُبُّ الْقُرْآنِ، وعلامة حب الْقُرْآنِ حُبُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَامَةُ حُبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبُّ السُّنَّةِ، وَعَلَامَةُ حُبِّ اللَّهِ وَحُبِّ الْقُرْآنِ وحُبِّ النبيِّ وَحُبِّ السُّنَّةِ حُبُّ الْآخِرَةِ، وَعَلَامَةُ حُبِّ الْآخِرَةِ أن يجب نَفْسَهُ، وَعَلَامَةُ حُبِّ نَفْسِهِ أَنْ يُبْغِضَ الدُّنْيَا، وَعَلَامَةُ بُغْضِ الدُّنْيَا أَلَّا يَأْخُذَ مِنْهَا إِلَّا الزَّادَ وَالْبُلْغَةَ. وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ" قَالَ: ((عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالتَّوَاضُعِ وَذِلَّةِ النَّفْسِ)). خَرَّجَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التِّرْمِذِيُّ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحِبَّهُ اللَّهُ فَعَلَيْهِ بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَأَلَّا يُؤْذِيَ جَارَهُ)). وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ قَالَ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ إنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ـ قَالَ ـ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ قَالَ فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ ـ قَالَ ـ فَيُبْغِضُونَهُ ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ)).
فقولُهُ جلَّ وعلا: {قُلْ إنْ كنتمْ تُحِبُّونَ اللهَ فاتَّبِعوني} أمرٌ منه ـ سبحانَه ـ لِنبيِّه ـ عليه الصلاةُ والسلام، بالتبليغ عنه. وقد جعل الخطابَ منه للنبيِّ ثمّ إليهم لِبيانِ شَرفِ النبوَّةِ وعُلوِّها، ومَكانةِ الاتِّصالِ بينَها وبيْنَ اللهِ ـ تعالى ـ إذْ جعل اتِّباعَ الرسولِ مِن نتائجهِ محبةُ اللهِ. وكونُ النبيِّ هو الذي يُخاطِبُ بذلك ويقرِّرُه، وأنَّ اللهَ تعالى يُمضي ما يُقرِّرُه، عُلُوٌّ بِمَقامِ الرِّسالَةِ المُحَمَّدِيَّةِ، وبِمقام النبوَّةِ؛ لأنَّ فيه إشعاراً بعِظَمِ مَحَبَّةِ اللهِ لِنَبيِّه، وأنَّها فوقَ كلِّ مَحَبَّةٍ؛ فإذا كان مَنْ يتَّبعُه يُحبُّه، فهو إذن في أعلى درجاتِ المَحبَّةِ، ولأنَّ فيه بيانُ أقوى الاتِّصال، لأنَّ خطابَه لهم هو خطابٌ مِنَ اللهِ لهم، بدليلِ أنَّ المَحبَّةَ مِن اللهِ تجيءُ نتيجةً لاتِّباعِه الذي دعا إليه ـ صلى الله عليه وسلم.
وفي قولِه تعالى: {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} إيجازٌ مُعجِزٌ، وهو إيجازُ حذفٍ دَلَّ عليه المَقامُ؛ لأنَّ المَعنى: إنْ كنتم تحبُّون اللهَ فاتَّبِعوني، وإنْ اتَّبعتُموني يُحبِبْكُمُ اللهُ؛ لأنَّ جوابَ فعلِ الأمرِ في معنى الجزاءِ، فكانَ ثمَّةَ فعلِ شرْطٍ مُقدَّرٍ، وإنَّ هذه الجملةَ الساميَةَ تَدُلُّ على ثلاثةِ أمورٍ أوَّلُها: أنَّ أوَّلَ طُرُقِ محبَّةِ اللهِ تعالى هو اتِّباعُ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم، لأنَّ طاعةَ الرَّسولِ طاعةٌ للهِ تعالى جلَّتْ قُدرَتُه، وعِصيانَ الرسولِ عصيانٌ للهِ تعالى، وليس مِن المعقول أنْ يُحِبَّ اللهَ ويَعصيه؛ ولذلك يقول الإمامُ الشافعي رضي الله عنه:
تعصى الإلهَ وأنت تُظهر حُبَّهُ ............... هذا لعَمْرِي في القِيَاس بَدِيعُ
لو كانَ حُبُّك صادقًا لأطَعْتَهُ ............... إن المحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
ونسبا أيضًا إلى الوراق.
الأمر الثاني الذي يدلُّ عليه النصُّ الكريمُ: أنَّ الطاعةَ ومحبَّةَ العبدِ لربِّه يترتَّبُ عليهِما حتمًا محبَّةُ اللهِ ـ سبحانه وتعالى ـ لعبدِه. وأيُّ منزلَةٍ للطاعةِ أسمى مِن أنَّه يَتْبعُها حتمًا محبَّةُ اللهِ ـ سبحانَه وتعالى.
الأمرُ الثالثُ الذي يدلُّ عليه النصُّ القُرآنيُّ: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} أنَّ مَنْ يَصلْ إلى مَرتبةِ المَحبَّةِ التي تَبتدِئُ بالطاعةِ وتنتهي بِمَحبَّة اللهِ تعالى يَغفِرُ الله له كلَّ ما كان مِن تقصير سابقٍ وإثْمٍ؛ وذلك لأنَّ السيئاتِ أدرانٌ تعلَقُ بالقلبِ، فإذا وصلَ إلى دَرَجَةِ مَحَبَّةِ اللهِ تعالى، بعد قيامِه بحقِّ الطاعات، انْصَهَرَ قلبُه بهذه المحبَّةِ، وإذا انْصَهَرَ القلبُ بالمَحَبَّةِ زالَ عنه كلُّ خَبَثٍ ومُحِيَ كلُّ دَرَنٍ، فَصَفا، واللهُ ـ سبحانَه وتعالى ـ يَغفِرُ لِمَنْ يَصلُ إلى هذه المَرتَبَةِ. ولقد ذَيَّلَ اللهُ الآية الكريمة بقولِه: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: وهما وصفانِ كريمان للذّاتِ العَلِيَّةِ: أوَّلُهُما أنَّه غفورٌ؛ أي أنَّه كثيرُ الغُفران لِعبادِه؛ لأنَّ فَعول تَدُلُّ على المُبالَغةِ، وَوَصَفَ اللهُ تعالى نفسَه بهذا الوصفِ للإِشارةِ إلى أنَّه يُحِبُّ مِن عِبادِه الطاعةَ، ويُحِبُّ مِنْ عِبادِهِ التَّوبَةَ، واللهُ سبحانه لَه المَثَلُ الأعلى في السماوات والأرضِ وهو العزيزُ الحكيمُ يَقبَلُ التوبَةَ عَن عِبادِه، ويُحِبُّ المَغْفِرَةَ، ولذلك وُصِفَ بالتوَّابِ، فالعِقابُ ليس لِذاتِه، ولكنْ لِكيْلا يتساوى المُسيءُ بالمُحسِنِ، ولِيَحمِلَ المُسيءَ على الطاعَةِ ويَستمِرَّ المُحسنُ على إحسانِه.
والوَصفُ الثاني الذي وصَفَ به ذاتَه العَليَّةَ: أنَّه رحيمٌ. وكان من رحمتِه أنْ قَبِلَ التوبَة وغَفَرَ الذّنْبَ، ومِن رحمتِه أنَّه أَرسلَ الرُّسُلَ بالبَيِّناتِ ليُقيموا القِسْطَ بيْنَ النّاسِ، وَيُعَلِّمُوا هذه الشرائعَ التي بِها صلاحُ الدنيا، وبها تَقومُ على الخيرِ والفَضيلةِ، ولذا قال سبحانَه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، وكان مِن رحمتِه أنْ سَنَّ العِقابَ للمُسيءِ المُستَمِرِّ على إساءَتِه المُوغِلِ في الفَساد، فإنَّ مَن يُفسِدُ في الأرضِ يَكونُ مِن الرحمةِ عقابُه، ومَنْ لا يَرحمِ الناسَ كان مِن مُقتضى الرَّحمةِ بالناسِ أنْ لَا يُرحَمَ؛ ولذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ لَا يَرحمْ لَا يُرحَمِ)).
رواه البخاري ومسلم.
وقولُه سبحانه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} يُفيدُ الطريقَ والغايةَ، أمَّا الطريقُ فهو اتّباعُ الشَريعةِ، وأمَّا الغايةُ فهي محبَّةُ العبدِ لِربِّه، ومحبَّةُ الرّبِّ لعبدِه، أي تبادُلُ المَحبَّةِ بيْن الخالقِ والمَخلوق، كلٌّ بما يليق به، وبما يَتَّفِقُ مع نوعِ وُجودِه؛ فواجبُ الوُجودِ وذو الكمالِ المُطلَقِ جَلَّ جَلالُه محبَّتُه تَليقُ بذاتِه العَلِيَّةِ، وجائزُ الوُجودِ الحادثُ المخلوقُ محبَّتُه حالٌ يتَّفقُ مع حُدوثِهِ، ونقصِ وُجودِه.
وقد فصَّل اللهُ الاتِّباع الذي يُوجِبُ المَحَبَّةَ الساميَةَ بعضَ التّفصيلِ في قولِه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}. فعلاماتُ الاتِّباعِ التي يَترتَّبُ عليها أنْ يُحبَّهُم اللهُ ويحبّوه، أربعٌ:
أوَّلُها: أنَّهم أذِلَّةٌ على المؤمنين، وقد قال عطاء في هذا: إنّهم للمؤمنين كالولدِ لوالِدِه والعبدِ لسيِّدِه، أمّا على الكافرين فكالأَسَدِ على فريستِه: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}.
والعلامةُ الثانيةُ: أنَّهم أَعِزَّةٌ على الكافرين، أي لَا يخضعون للكافِرين ولا يُحالفونَهم على المؤمنين، ولا يَختارون أنْ يَدخُلوا في ولايتِهم ويتركوا ولايةَ المُؤمنين.
والعلامةُ الثالثةُ: الجهادُ في سبيلِ اللهِ بالنَّفْسِ واللِّسانِ والمال،
وذلك هو تحقيقُ دعوى المحبَّةِ.
والعلامةُ الرابعةُ: أنَّهم لَا يأخذُهم في اللهِ لومةُ لائمٍ، وهذه علامَةُ صِحَّةِ المَحَبَّةِ، فكلُّ مُحِبٍّ أَخَذَه اللَّومُ عن محبوبِه فليس بِمُحِبٍّ على الحقيقة.
تلك هي آياتُ الاتِّباع الذي يُوجِبُ هذه المَحَبَّةَ، وقد وصف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كمالَ الإيمانِ الذي يُوجِبُ هذه المَحبَّةَ، فقال: ((أنْ يَكونَ اللهُ ورسولُه أَحَبَّ إليه مما سواهما)). رواه البخاري ومسلم. وهذا الوصفُ هو الجامع لكلِّ الأَمارات التي لَا يند عنه شيء منها.
أمَّا مَحبَّةُ اللهِ فحالٌ مِن أحوالِ الذاتِ العَليَّةِ لَا نَعْرِفُ كُنهَها، ولا نُدرِكُ حَقيقتَها وهي تَليقُ بذاتِه العليَّة، وتتَّفقُ مع صفاتِ الجَلالِ والكمالِ التي يتَّصفُ بها واجبُ الوُجود، الذي أوجدَ كلَّ مَوجودٍ، وهي غيرُ الإحسانِ، وإنْ كانت مِن فضلِ اللهِ، وغيرُ الرّحمَةِ، وغيرُ الرِّضا؛ لأنَّ اللهَ ـ سبحانَه وتعالى ـ جعلَها لبعضِ عِبادِه، والإحسانُ والرحمةُ يَعُمَّان كلَّ مَوجودٍ، والرِّضا وإنْ جعلَه جزاءً أعلى للمُحسنين، كما قال في جزاءِ المؤمنين بعد ذِكْرِ الجَنَّاتِ والنعيمِ المُقيم: {وَرِضْوَانٌ منَ اللَّهِ أَكْبَرُ}، نجدُ المحبَّةَ أكثرَ منه. وقد ذكرَها اللهُ سبحانَه وتعالى فكان هذا دليلا على أنَّهُما متغايِران بالنسبة لذاتِه العَلِيَّةِ، كما أنَّ المَدلولَ اللّفظيَّ لَهما مُتغايِرٌ، وإنْ كانت المَحَبَّةُ تتضمَّنُ الرِّضا لَا مَحالَةَ، بل إنَّها لا تكونُ إلّا حيثُ يكونُ أقصى الرّضا، هذه إشارة إلى محبَّة اللهِ لبعضِ عِبادِه الذين
اصطفاهم.
وأمَّا محبَّةُ العبدِ لربِّه، فقد قال الحارثُ المُحاسِبِيُّ في تعريفِها بأنَّها المَيْلُ بِكُلِّيَّتِه لربِّه، وإيثارُه على نفسِه ومالِه، ثمَّ مُوافقتُه لَه سِرًا وجهرًا، ثمّ اعتقادُه تقصيرَه في حَقِّهِ مهما يُؤدِّ مِن واجباتٍ وطاعات.
ومحبَّةُ العبدِ لِرَبِّه غيرُ طاعتِه المُجرَّدَةِ لأوامِرِهِ وتجنُّبِه لنواهيه، وإنْ كانت مُلازَمَةً للاتِّباعِ المُطلَقِ للأوامرِ والنَواهي، وفي الحقيقةِ إنَّ طاعةَ العبدِ لربِّه لَها مَرتبتان: أُولاهما: الطاعة رجاءَ الثوابِ وخوفَ العِقابِ، والثانيةُ: الطاعةُ محبَّةً لله. ولقد قال في هذا المعنى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وصفِ بعضِ أصحابِه ((نعمَ العبدُ صُهيْبٌ، لو لَمْ يَخَفِ اللهَ لمْ يَعْصِهِ)). ولقد قال الله تعالى في وصف المؤمنين المتقين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}، فإنَّ هذا النصَّ الكريمَ دلَّ على أنَّ ثَمَّةَ مَقاميْن جَليليْن: مَقامُ الطاعةِ رجاءَ الثوابِ وخوفَ العِقابِ، والطاعةُ بالتوسُّل إلى الله والتَقَرُّبِ منه، كما قال تعالى: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} وهذا مقام الطاعةِ محبَّةً وتزلُّفًا إليه، وهذه هي الوسيلة المُبتغاةُ، والمَحبَّةُ المُرْتجاةُ، وإنَّ المَحَبَّةَ تَقتَضي الأُنْسَ بِذِكْرِ اللهِ تعالى، فتكون النفس ممتلئةً بالسرورِ لقُرْبِ اللهِ، ومعرفتِهِ، وكمالِ العُبوديَّةِ له، والشعورِ بكمالِ أُلوهِيَّتِه، حتّى يَستغرِقَ ذلك كلَّ حِسِّهِ، وكلَّ نَفسِهِ وقلبِه، ولا يكون مَوْضِعٌ لِتَذَكُّرِ سِواه.
والمَحبَّةُ هي غايةُ طريق التَصَوُّفِ العالي وسِمتُه وعنوانُه؛ ولذا يقول
ابنُ القَيِّمِ في مَدارِج السالكين: (المَحبَّةُ سِمةُ هذه الطائفةِ المُسافرين إلى ربِّهم، الذين رَكِبوا جَناحَ السَّفَرِ إليه، ثمَّ لم يُفارِقوه إلى حِينِ اللقاءِ، وهم الذين قَعَدوا على الحقائق، وقعدَ مَن سواهم على الرسوم). والمحبَّةُ ثلاثُ درجات: أُولاها: استغراقُ النفسِ بذكرِ اللهِ، فلا يَرتفعُ إلى مَقامِه في القلب ذكرُ شيءٍ سِواه، ويَصفُ الهَرَوِيُّ في "منازِل السائرين" تلك المَحَبَّةَ بأنَّها: تَقْطَعُ الوَساوِسَ، وتُسلِّي عَنِ المصائبِ، وتُثبِّتُ تلك الدرَجَةِ مِن الشعورِ بقوَّةِ اللهِ، ومِن اتِّباعِ السُنَّةِ المُحمَّديَّةِ، والشُعورِ بالحاجةِ والفاقةِ إليه تعالى.
والدرجة الثانية: هي أعلى من هذه في درجات المحبَّةِ ـ وهي التي يُلْهَمُ فيها اللسانُ بِذِكْرِ اللهِ بعدَ امْتِلاءِ القلبِ، والجَوارِحِ بإيثارِ الحقِّ سبحانَه، ويقول فيها ابنُ القَيِّمِ: فيها مُطالَعَةُ الصِّفاتِ، وشهودُ معاني آياتِه المَسْموعةِ، والنَّظرُ إلى آياتِه المَشْهودَةِ. وكلٌّ منها داعٍ قويٌّ إلى مَحَبَّتِه تعالى؛ لأنّها أَدِلَّةٌ على صِفاتِ كمالِه، ونُعوتِ جَلالَه، وتَوحيدِ رُبوبِيَّتِه وأُلوهيَّتِه، وعلى حِكمَتِه وبِرِّهِ وإحْسانِه، ولُطفِه وجُودِه، وكَرَمِه وسَعَةِ رَحمتِه، وسُبُوغِ نِعَمِه، فإدامةُ النَّظر فيها داعٍ لَا مَحالةَ إلى مَحَبَّتِه. والدرجة الثالثة: هي المحبَّة التي يكون فيها الشُّهودُ بنورِ القلبِ. وجاء في هذه المحبة أنها قُطْبُ هذا الشأنِ، وما دونَها مَحابٌّ نادت عليها الأَلْسُنُ، وادَّعتْها الخليقة وأوجبّتْها العقول.
و"تُحِبُّونَ اللهَ" مشوبٌ بالعِلَّةِ، فمحبَّة العبدِ لله حالة لطيفة يجدُها من
نفسِه، وتحمِلُه تلك الحالةُ على مُوافقةِ أمر الله على الرضا دون الكراهية،
وتقتضي منه تلك الحالة إيثارَه ـ سبحانه ـ على كلِّ شيءٍ وعلى كلِّ أحَدٍ. وشرطُ المحبَّةِ ألَّا يكونَ فيها حَظٌّ بِحال، فَمنْ لم يَفْنَ عن حظوظه بالكلِّية فليس له من المحبة شظيَّة. ويُقالُ شَرْطُ المَحَبَّةِ امِّحاءُ كُلِّيَتِكَ عنك لاستهلاكِكَ في محبوبِك، قال قائلهم:
وما الحبُّ حتى تنزف العين بالبكا ....... وتخرس حتى لا تجيب المناديا
وهذا فرق بين الحبيب والخليل؛ قال الخليل: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} إبراهيم: 36. وقال الله عل لسان الحبيبُ محمد صلى الله عليه وسلَّم: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}. فإن كان مُتَّبعُ الخليل "منه" إفضالاً فإنَّ متابعَ الحبيبِ محبوبُ الحقِّ سبحانه، وكفى بذلك قربة وحالاً.
وفي قوله تعالى: {يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فقد جاء: "يُحْبِبْكُمُ اللهُ" أوَّلاً ثم: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} والواو تقتضي الترتيب ليُعْلَمَ أَنَّ المحبَّةَ سابقةٌ على الغفران؛ وأيضًا: "يحبُّهم ويحبونه" أوَّلاً ثم يغفرْ لهم ويستغفرونه، فالمَحبَّة توجِبُ الغُفران لأنَّ العفوَ يُوجِبُ المَحبَّةَ. والمَحَبَّةُ تُشير إلى صَفاءِ الأحوالِ ومنه حَبَبُ الأسنان وهو صفاؤها. والمحبَّة تُوجِبُ الاعتكافَ بحضرةِ المحبوب في السِرِّ. والحبُّ حرفان: "حاء" و"باء"، والإشارةُ مِن الحاءِ إلى الروحِ ومن الباء إلى البَدَن، فالمُحِبُّ لا يَدَّخِر عن محبوبِه قلبَه ولا بَدَنَه.
وقوله: "يُحْبِبْكُمُ اللهُ" بِلا عِلّة. فمَحبَّةُ الحقِّ للعبدِ إحسانُه إليه ولطفُه به، وهي إرادةُ فضلٍ مخصوص.
وهذه إشارات مُوجَزةٌ إلى ما يَقولُه أهلُ التَصَوُّفِ في المَحبَّةِ بيْن العبدِ وربِّه، وقد فصَّلْنا في هذا الموضوع في الباب الثالث من كتابنا "المرأة في الغزل الصوفي" فليرجِع إليه من رغب بالمزيد.
ثمَّ إنَّ العِبرةَ في هذا الموضوع هي أنَّ الشريعةَ لَا يَصِحُّ أنْ تُنْسى حتّى في أعلى مَقامٍ للمَحَبَّةِ، لأنَّها هي الدليلُ المُرشدُ، والمِصباحُ المُنيرُ لِمَن أراد الوصولَ إلى درجةِ المَحَبَّةِ الحقيقيَّةِ، وهي أعلى درجاتِ الإيمان، وأقوى درجاتِ الاتّباع. فاتِّباعُ أحكامِ الشرعِ هو طريقُ المحبَّةِ عندَ أهلِ السُنَّةِ الراشدين، وتّنَكُّبُ طريقِ الاتباعِ وادِّعاءُ الارْتفاعِ عن التكليفِ هو شأنُ أهلِ الابتداعِ الضَالين. وإذا كان ذلك هو الحقَّ، فإطاعةُ اللهِ ورسولِه هي فيْصَلُ التَّفرِقةِ بيْن الحقِّ والباطِلِ وبيْن مَحَبَّةِ اللهِ ومَحبَّةِ الضَّلالِ، وبيْن الإيمانِ والكُفرِ.
قولُه تعالى: {تُحِبُّونَ الله} الْحُبُّ: الْمَحَبَّةُ، وَكَذَلِكَ الْحِبُّ بِالْكَسْرِ. وَالْحِبُّ أَيْضًا الْحَبِيبُ، مِثْلَ الْخِدْنِ وَالْخَدِينِ، يُقَالُ أَحَبَّهُ فَهُوَ مُحِبٌّ، وَحَبَّهُ يَحِبُّهُ (بِالْكَسْرِ) فَهُوَ مَحْبُوبٌ. وهذا شاذٌّ، لأنَّه لَا يَأْتِي فِي الْمُضَاعَفِ يَفْعِلُ بِالْكَسْرِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ حَبُبَ كَظَرُفَ، فَأُسْكِنَتِ الْبَاءُ وَأُدْغِمَتْ فِي الثَّانِيَةِ. وفِي حَبَّ لُغَتَانِ: حَبَّ وَأَحَبَّ، وَأَصْلُ "حَبَّ" فِي هَذَا الْبِنَاءِ حَبُبَ كَظَرُفَ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: حَبُبْتُ، وَأَكْثَرُ مَا وَرَدَ فَعِيلٌ مِنْ فَعُلَ. وَالدِّلَالَةُ على أَحَبَّ قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} المائدة: 54 بضم الياء. و"فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ" وَ"حَبَّ" يَرِدُ عَلَى فَعُلَ لِقَوْلِهِمْ حَبِيبٌ. وَعَلَى فَعُلَ كَقَوْلِهِمْ مَحْبُوبٌ: وَلَمْ يَرِدِ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْ حَبَّ الْمُتَعَدِّي، فَلَا يُقَالُ: أَنَا حَابٌّ. وَلَمْ يَرِدِ اسْمُ الْمَفْعُولِ مِنْ أَفْعَلُ إِلَّا قَلِيلًا، كَقَوْلِ عنترة:
ولقد نزلت فلا تظني غيره ................... مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْمُحَبِّ الْمُكْرَمِ
وحكى أبو زيد: حَبَبْتُه أُحِبُّه. وأنشد:
فو الله لَوْلَا تَمْرُهُ مَا حَبَبْتُهُ ............... وَلَا كَانَ أَدْنَى مِنْ عُوَيْفٍ وَهَاشِمِ
وَأَنْشَدَ:
لَعَمْرُكَ إِنَّنِي وَطِلَابَ مِصْرٍ ..................... لَكَالْمُزْدَادِ مِمَّا حَبَّ بُعْدَا
وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ فتح حرف المضارعة مع الباء وَحْدَهَا. وَالْحُبُّ الْخَابِيَةُ، فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَالْجَمْعُ حِبَابٌ وَحِبَبَةٌ.
وقرأ العامَّةُ: "تُحِبُّون" بضمِّ حَرْفِ المُضارَعة مِنْ أَحَبَّ، وكذلك {يُحْبِبْكُم الله}. وقرأ أبو رَجاء العُطاردي: تَحُبُّون، يَحْببكم بفتح حرف المضارعة وهما لغتان: يقال حَبَّه يَحِبُّه بضم الحاء وكسرها في المضارع ، وأَحَبَّه يُحِبُّه، وقد تقدم القول في ذلك في البقرة. ونقل الزمخشري أنَّه قُرئ "يَحِبَّكم" بفتح الباء والإِدغام وهو ظاهرٌ، لأنَّه متى سَكَّن المِثْلَيْنِ جَزْماً أو وَقْفاً جَازَ فيه لُغتان: الفكُّ والإِدغامُ، وسيأتي تحقيق ذلك في المائدة.
وقرأ الجمهور: "فاتِّبعوني" بتخفيفِ النون وهي للوقاية، وقرأ الزهريُّ بتشديدِها، وخُرِّجَت على أنَّه أَلْحَقَ الفعلَ نونَ التوكيدِ وأدغمَها في نونِ الوقاية، وكان ينبغي له أن يَحْذِفَ واوَ الضمير لالتقاءِ الساكنين، إلَّا أنَّه شَبَّه ذلك بقولِه: {أتحاجواني} الأنعام: 80. وهو توجيهُ ضعيف، ولكنْ هو يصلح لتخريج هذا الشذوذ. وقد طعن الزجاج على مَنْ روى عن أبي عَمْرٍو إدْغامَ الراءِ مِن "يغفرْ" في لام "لكم" وقال: هو خطأٌ وغلطٌ على أبي عمرو وهي لغةٌ للعرب نقلَها الناس، وإن كان البصريّون كما يقول الزجاج لا يُجيزون ذلك.