يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ
(30)
قولُه تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ} من النفوس المكلفة {مَّا عَمِلَتْ} في الدنيا {منْ خَيْرٍ} وإنْ كان مثقالَ ذَرَّةٍ {مُّحْضَرًا} لديها مشاهداً في الصحف، وقيل: ظاهراً في صُوَرٍ، وقيل: تجد جزاءَ أَعمالِها مُحْضَراً بأمرِ الله تعالى، وفيه من التهويل ما ليس في حاضراً. {وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء} عطف على {ما عَمِلَتْ}. و"مُحْضَرًا" فيه معنى السوءِ إلَّا أنّه خُصَّ بالذكر في الخيرِ للإشعارِ بكونِ الخيرِ مُراداً بالذَّاتِ، وكونِ إحضارِ الشرِّ مِنْ مُقتَضَيات الحِكمَةِ التشريعيَّةِ، وتقدير "مُحْضَرًا" في النظم وحذفُه للاقتصارِ بقرينةِ ذِكْرِهِ في الأوَّلِ مما قالَه الأكثرون.
قولُه: {تودُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ} أي بين ذلك اليوم {أَمَدَا بَعِيدًا} وقيل: الضمير لِما عملت لِقربِه ولأنَّ اليومَ أُحضِرَ فيه الخيرُ والشرُّ والمُتمني بعد الشرِّ لا ما فيه مُطلَقاً فلا يَحسُنُ إرجاعُ الضميرِ اليوم. ورُدَّ بأنَّه أبلغُ لأنَّه يَوَدُّ البُعْدَ بينَه وبين اليومِ مَعَ ما فيه من الخير لِئلّا يَرى ما فيه مِن السوء، والأمدُ غايةُ الشيءِ ومُنتهاه، والفرق بينه وبين الأبَدِ أنَّ الأبدَ مُدةٌ مِن الزمان غيرُ محدودةٍ، والأمَد مُدَّةٌ لها حَدٌّ مجهولٌ والمُرادُ هنا الغايةُ الطويلةُ، وقيلَ: مِقدارُ العمر، وقيل: قَدْرَ ما يُذهَبُ به مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغرب، وذهب بعضُهم إلى أنَّ المُرادَ بالأَمَدِ البعيدِ المَسافةُ البعيدةُ ولَعلَّه الأَظهرُ، فالتمَنّي هنا مِنْ قَبيلِ التمنّي في قولِه تعالى: {ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين} الزخرف: 38 وهذا الذي ذُكر في نَظم الآيةِ هو ما ذهب إليه كثير من أئمة التفسير.
قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ} في ناصِبِه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه منصوبٌ بقديرٍ أي قديرٌ في ذلك اليوم العظيم، لا يقال: يَلْزَمُ من ذلك تقييدُ قدرتِه بزمانٍ، لأنَّه إذا قَدَر في ذلك اليومِ الذي يَسْلُب كلَّ أحد قدرته فلأَنْ يَقْدِرَ في غيرِه بطريقٍ أَوْلى وأَحْرى، وإلى هذا ذهب أبو بكر ابن الأنباري.
الثاني: أنَّه منصوبٌ بـ "يُحَذِّركم" أي: يُخَوِّفكم عقابَه في ذلك اليوم، ولا يجوز أن ينتصبَ بـ "يحذِّركم" المتأخرةِ لأنَّه لا يجوزُ أن يكونَ "اليوم" منصوباً بـ "يحذِّركم" المذكورِ في هذه الآية، لأنَّ واوَ النَسَقِ لا يَعمل ما بعدَها فيما قبلَها، وعلى ما ذَكره أبو إسحاق يكون ما بين الظرفِ وناصبِه معترضاً، وهو كلامٌ طويل، والفصلُ بمثله مستبعدٌ، هذا من جهة الصناعة، وأما من جهة المعنى فلا يَصِحُّ، لأنَّ التخويف موجودٌ، واليومَ موعودٌ فكيف يتلاقيان.
الثالث: أن يكونَ منصوباً بـ "المصير"، وإليه نحا الزجاج أيضاً وابن الأنباري ومكي وغيرُهم، وهذا ضعيفٌ على قواعد البصريين، للزومِ الفصلِ بين المصدرِ ومعمولِه بكلامٍ طويل، وقد يقال: إنَّ جُمَل الاعتراض لا نبالي بها فاصلةً، وهذا من ذاك.
الرابع: أن ينتصبَ بـ "اذكر" مقدراً مفعولاً به لا ظرفاً. وقَدَّر الطبريُّ الناصبَ له "اتقوا"، وفي التقدير ما فيه من كونِه على خلافِ الأصلِ مع الاستغناءِ عنه.
الخامس: أنَّ العامل فيه ذلك المضافُ المقدَّر قبل "نفسَه" أي: يُحذِّرُكم اللهُ عقابَ نفسِه يومَ تجدُ، فالعاملُ فيه "عقاب" لا "يحذركم"، وفي قوله" (لا يحذِّركم) فرارٌ مِمَّا أَوْردتُه عن أبي إسحاقٍ كما تقدَّم.
السادس: أنَّه منصوبٌ بـ "تودُّ"، قال الزمخشري: "يومَ تجدُ" منصوبٌ بـ "تودُّ"، والضمير في "بينَه" لليوم، أي: يومَ القيامةِ حين تَجِدُ كلُّ نفسٍ خيرَها وشرَّها حاضرين، تتمنَّى لو أنَّ بينها وبين ذلك اليومِ وَهوْلِهِ أمداً بعيداً. وهذا الذي ذكره الزمخشري وجهٌ ظاهرٌ لا خفاءَ بِحُسْنِه.
قولُه: {تَجِدُ} يَجوزُ أَنْ تكون المتعدِّيَةَ لواحدٍ بِمعنى تُصيب، ويكون "مُحْضراً" على هذا منصوباً على الحال، ويَجوز أنْ تكونَ عِلْميَّةً، فتتعدَّى لاثنين أوَّلُهما "ما عَمِلَتْ". ويَجوز في "ما" وجهان، أظهرُهما: أنَّها بمعنى الذي، فالعائدُ على هذا مقدَّرٌ أي: ما عملته، و"من خير" حالٌ: إمّا مِنَ الموصولِ وإمَّا من عائدِه، فتكون "من" لبيانِ الجنس. ويجوزُ أنْ تكونَ "ما" مصدريّةً، ويكونُ المَصدرُ حينئذٍ واقعاً مَوْقِعَ المفعولِ تقديرُه: يوم تجد كلُّ نفس عَمَلها أي: معمولَها، فلا عائدَ حينئذٍ.
قولُه: {وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء تَوَدُّ} يجوزُ في "ما" هذه أنْ تَكونَ منسوقةً على "ما" التي قبلها بالاعتبارين المذكورَيْن فيها أي: وتَجِدُ الذي عملته أو: وتجدُ عملَها أي: معمولَها من سوء، فإنْ جَعَلْنا "تجد" متعدِّيَةً لاثنين فالثاني محذوفٌ، أي: وتجد الذي عملته من سوء محضراً، أو تجد عملها محضراً فَحذِفَ مفعولُه الثاني للدلالة عليه بذكره مع الأول، وإنْ جعلناها متعديةً لواحدٍ فالحالُ مِن الموصول أيضاً محذوفةٌ أي: تجدُه مُحْضراً؛ وعلى هذا فيكون في جملةِ "تودُّ" وجهان، أحدهما: أن تكونَ في محل نصبٍ على الحال من فاعلِ "عَمِلَتْ" أي: وما عَمِلَتْه حالَ كونها وادَّةً أي: متمنِّيةً البُعْدَ من السوء. الثاني: أنْ تكونَ مستأنَفَةً، أَخْبر الله عنها بذلك، ويجوز أن تكونَ "ما" مرفوعةً بالابتداء، والخبرُ جملةُ "تودُّ" أي: والذي عملته أو وعملُها تودُّ لو أنَّ بينَها وبينَه أَمَداً بعيداً. والضمير في "بينَه" فيه وجهان، أحدُهما وهو الظاهر عَوْدُه على "ما عَمِلَتْ"، والثاني عودُه على "اليوم".
وقرأ عبدُ اللهِ وابنُ أبي عَبلةَ "وَدَّت" بلفظ الماضي، وعلى هذه القراءةِ يجوزُ في "ما" وجهان، أحدهما: أن تكونَ شرطية، وفي محلِّها حينئذٍ احتمالان: الأولُ النصبُ بالفعلِ بعدها، والتقدير: أيَّ شيء عَمِلَتْ من سوء وَدَّتْ، فودَّتْ جوابُ الشرط. والاحتمالُ الثاني: الرفعُ على الابتداء، والعائدُ على المبتدأ محذوفٌ تقديرُهُ: وما عملته. والوجه الثاني أن تكون "ما" موصولةً بمعنى: الذي عملته من سوء ودَّتْ لو أنَّ بينها وبينه أمداً بعيداً، ومَحَلُّها على هذا رفع بالابتِداء، و"وَدَّتْ" الخبرُ، وهو أوقعُ في المعنى لأنَّه حِكايةُ الكائنِ في ذلك اليوم، وأَثْبَتُ لموافقةِ قراءة العامة.
و"لو" هنا على بابِها من كونِها حرفاً لِما كان سيقع لوقوع غيرِه، وعلى هذا ففي الكلام حَذْفان، أَحدُهما: حذفُ مفعولِ "يودُّ"، والثاني: حَذْفُ جواب "لو"، والتقديرُ فيهما: تودُّ تباعدَ ما بينَها وبينَه لو أنَّ بينَها وبينَه أَمَدًا بعيدًا لَسُرَّتْ بذلك، أو لفرِحَتْ ونحوُهُ.
والأَمَدُ: غايةُ الشيءِ ومُنتهاه وجمعُه آمادٌ نحو: جَبَل وأَجْبال فَأُبْدِلَتْ الهمزة ألفاً لوقوعِها ساكنةً بعد همزة "أَفْعال".