حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا
(86)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} أَيْ فَأَرادَ ذو القَرْنينِ بُلُوغَ أَقْصَى بِلَادِ المَغْرِبِ فَأَتْبَعَ "سَبَبًا" يُوصِلُهُ إلى ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ قَصَدَ بُلوغَ المَغْرِبِ ابْتِداءً لِمُرَاعَاةِ الحَرَكَةِ الشَّمْسِيَّةِ، فلَقَدْ أَتْبَعَ ذُو القَرْنَيْنِ ـ أَوِ اتَّبَعَ، سَبَبًا، فَسَلَكَ طَرِيقًا جِهَةَ الغَرْبِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى أَقْصَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ السَّائِرُ في هَذَا الاتِّجاهِ، فَقِيلَ إِنَّهُ وَقَفَ عَلَى سَاحِلِ المُحِيطِ الأَطْلَسِي أَو (أُقيانوس) كما كانوا يُسَمُّونَهُ، أَيْ مُنْتَهَى الأَرْضِ ـ آنذاكَ، مِنْ جِهَةِ المَغْرِبِ بِحَيْثُ لا يَتَمَكَّنُ أَحَدٌ أَنْ يَتَجَاوَزَهُ، وَوَقَفَ عَلَى شاطئِ البَحْرِ المُحِيطِ، حيثُ الجَزَائِرُ التي هِيَ مَبْدَأُ خُطُوطِ الطولِ.
قوْلُهُ: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} رَأَى هُنَاكَ الشَّمْسَ وَكَأَنَّهَا تَغْرُبُ، فِي البَحْرِ، أَوْ فِي عَيْنٍ مِنْ طِينٍ أَسْوَدَ بحسَبِ ما تَراهُ العينُ، و "حَمِئَةٍ" أَيْ ذَاتِ حَمأَةٍ وَهِيَ الطِّينُ الأَسْوَدُ، مِنْ قولهِم: حَمِئَتِ البِئْرُ، إِذَا كَثُرَتْ حَمأَتُها، أَي: طِينُها، وَالْحَمَأُ: الطِّينُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ تُبَّعٍ الْحِمْيَرِيِّ يَمْدَحُ ذَا الْقَرْنَيْنِ فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْهُ:
بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ يَبْتَغِي ............ أَسْبَابَ أَمْرٍ مِنْ حَكِيمٍ مُرْشِدٍ
فَرَأَى مَغِيبَ الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِهَا ...... فِي عَيْنِ ذِي خَلَبٍ وَثَأْطٍ حَرْمَدِ
الْخَلَبُ فِي لُغَةِ حِمْيَرَ: الطِّينُ، وَالثَّأْطُ: الْحَمْأَةُ، وَالْحَرْمَدُ: الْأَسْوَدُ، وَعَلَى قِرَاءَةِ "حَامِيَةٍ" بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهَا حَارَّةٌ، وَذَلِكَ لِمُجَاوَرَتِهَا وَهَجَ الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِهَا، وَمُلَاقَاتِهَا الشُّعَاعَ بِلَا حَائِلٍ.
رُوِيَ أَنَّ أَميرَ المُؤمِنِينَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أبي سُفْيان ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَرَأَ "حَامِيَةٍ"، وكانَ عِنْدَهُ حَبْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فقَالَ لَهُ: "حَمِئَةٍ"، فقَالَ مُعَاوِيَةُ لِعَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: كَيْفَ تَقَرَأُ؟ قَالَ: كَمَا يَقْرَأُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ. ثُمَّ وَجَّهَ إِلَى كَعْبِ الأَحْبَارِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: كَيْفَ تَجِدُ الشَّمْسَ تَغْرُبُ؟ قَالَ: فِي مَاءٍ وَطِينٍ. فَوَافَقَ مُعاوِيةُ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِكَوْنِ قِرَاءَتِهِ قَطْعِيَّةً فِي مَدْلُولِهَا، وَأَمَّا قِراءتُهُ هُوَ فَمُحْتَمَلَةٌ. وَلَا مُنَافَاةَ قَطْعِيَّةً بَيْنَ القِراءتَيْنِ وَكِلْتَاهُمَا حَقٌّ، لِجَوَازِ كَوْنِ العَيْنِ جَامِعَةً بَيْنَ الوَصْفَيْنِ، ولِكَوْنِ الياءِ فِي القراءةِ الثّانِيَةِ مُنْقَلِبَةً عَنِ الهَمْزَةِ لانْكِسارِ مَا قَبْلَهَا.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، عِنْدَ تَفْسِيرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ"، أَيْ: رَأَى الشَّمْسَ فِي مَنْظَرِهِ تَغْرُبُ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ، وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مَنِ انْتَهَى إِلَى سَاحِلِهِ يَرَاهَا كَأَنَّهَا تَغْرُبُ فِيهِ، إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ.
وَمُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ كَثيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَيْنِ فِي الْآيَةِ هُوَ الْبَحْرُ الْمُحِيطُ، وَهُوَ ذُو طِينٍ أَسْوَدَ. وَالْعَيْنُ تُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى يَنْبُوعِ الْمَاءِ، وَالْيَنْبُوعُ: الْمَاءُ الْكَثِيرُ، فَاسْمُ الْعَيْنِ يَصْدُقُ عَلَى الْبَحْرِ لُغَةً، وَكَوْنُ مَنْ عَلَى شَاطِئِ الْمُحِيطِ الْغَرْبِيِّ يَرَى الشَّمْسَ فِي نَظَرِ عَيْنِهِ تَسْقُطُ فِي الْبَحْرِ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ.
وكانوا كفاراً فخيّره الله جل ذكره بين أن يعذبهم بالقتل وأن يدعوَهم إلى الإيمان
قولُهُ: {وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا} وَوَجَدَ عِنْدَ تِلْكَ العَيْن، فِي المَكَانِ الَّذِي انْتَهَى إِلَيْهِ فِي سَيْرِهِ، أُمَّةً مِنَ النَّاسِ، قِيلَ: كانَ لِبَاسُهُمْ جُلُودَ الوُحُوشِ، وَطَعَامُهُمْ مَا يَلْفِظُهُ البَحْرُ، وكانوا كُفَّارًا.
قولُهُ: {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ بِطَرِيقِ الوحيِ، أَوِ الإِلْهَامِ: إِمَّا أَنْ يَقْتُلَهُمْ، إِنْ هُمْ لَمْ يُقِرُّوا بِوَحْدَانِيَّةِ اللهِ، وَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَ بِتَعْلِيمِهِمْ طَرِيقَ الهُدَى وَالرَّشَادِ، وَيُبَصِّرَهُمْ بِأَحْكَامِ الشَّرَائِعِ وَالقَوَانِينِ. والمُرادُ بـ "إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ": إِمَّا أَنْ تَقْتُلَ و "إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا" وَإِمَّا أَنْ تَسْبِيَهم. قالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُما. وَقَالَ الكَلْبِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يُريدُ: وَإِمَّا أَنْ تَعْفُوَ وتُنْعِمَ. وَعَلَيه فإنَ المُرادَ باتِّخاذِ الحُسْنِ فِيهم: تَرْكُهُمْ والعفْوُ عَنْهُمْ. والأَوَّلُ هَوَ القَوْلُ؛ لأَنَّهُ لَوْ أُمِرَ بِتَرْكِهِمْ وَالعَفْوِ عَنْهُمْ لَمْ يَكُنْ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى فائدَةٌ. قَالَ أَبُو إِسْحاقٍ الزَّجَّاجُ: أَبَاحَ لَهُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، هَذَيْنِ الحُكْمَيْنِ، يَعْنِي: القَتْلَ، والأَسْرَ، كَمَا أَبَاحَ لسيِّدَنا مُحَمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، الحُكْمَ بَيْنَ أَهْلِ الكِتَابِ أَوِ الإِعْرَاضَ. "مَعَاني القُرْآنِ وإعرابُهُ" لَهُ: (3/309). وقد عَنَى الزَّجَّجُ قوْلَهُ تعالى منْ سُورةِ المائِدةِ: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} الآيةَ: 42. قَالَ قَتَادَةُ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَقَضَى فِيهم بِقَضَاءِ اللهِ، وَكَانَ عَالِمًا بِالسِّياسَةِ. وَمَنْ قَالَ إِنَّ (ذَا القَرْنَيْنِ) كانَ نَبِيًّا فَقَدِ اعْتَمَدَ عَلَى هَذِهِ الآيَةِ الكريمةِ في تأييدِ ما ذَهَبَ إِليْهِ، ومَنْ لَمْ يَقُلْ بِنُبُوَّتِهِ فَقَدِ قَالَ بِأَنَّ مَعْنَى "قُلْنَا" هَهُنَا: أَلْهَمْنَا.
قولُهُ تَعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} حَتَّى: حَرْفُ جَرٍّ وَغَايَةٍ. و "إذَا" ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمانِ خافضٌ لِشرطِهِ متعلِّقٌ بجوابِهِ. و "بَلَغَ" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى ذِي القَرْنَيْنِ. و "مَغْرِبَ" مفعولٌ بِهِ منصوبٌ، مُضافٌ. و "الشَّمْسِ" مَجرورٌ بالإضافةِ إليهِ، وَجُمْلَةُ "بَلَغَ" فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِإِضَافَةِ "إِذَا" إِلَيْهَا عَلَى كَوْنِها فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا.
قوْلُهُ: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} وَجَدَهَا: فَعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ. وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازً تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى ذِي القَرْنَيْنِ. و "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ. و "تَغْرُبُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ. وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هي) يَعُودُ عَلَى الشَّمْسِ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَغْرُبُ"، و "عَيْنٍ" مجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ. و "حَمِئَةٍ" صِفَتُها مجرورةٌ مثلُها. وَجُمْلَةُ "تَغْرُبُ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على كونِها مَفْعُولَ "وَجَدَ" الثاني، أَوْ حَالًا مِنْ مَفْعُولِ "وَجَدَ"، وَجُمْلَةُ "وَجَدَ" جَوَابُ "إِذَا" الظرفيَّةِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. وَجُمْلَةُ "إذَا" فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِـ "حَتَّى"، وهذا الجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقانِ بِـ "أَتْبَعَ"، وَالتَقْديرُ: (فَأَتْبَعَ سَبَبًا) إِلَى وُجْدَانِهِ الشَّمْسَ غَارِبَةً "فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ" وَقْتَ بُلوغِهِ "مَغْرِبَ الشَّمْسِ".
قولُهُ: {وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا} الوَاوُ: للعَطْفِ، وَ "وَجَدَ" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ عَطْفًا عَلَى "وَجَدَهَا" وَفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى ذِي القَرْنَيْنِ. و "عِنْدَهَا" منصوبٌ على الظرفيَّةِ المكانيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "وَجَدَ"، وهو مُضافٌ، وَ "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "قَوْمًا" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ. والجُمْلَةُ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "وَجَدَ" الأُولى عَلَى كَوْنِها مُسْتأْنَفَةً.
قولُهُ: {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ} قُلْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ "نا" المُعَظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التعظيمِ هذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ. والجُمْلَةُ: جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، والتَقْديرُ: فَلَمَّا وَجَدَهُمْ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ .. . وَجُمْلَةُ الشَّرْطِ المَحْذوفِ تِلْكَ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعراب. و "يَا" أَداةُ نداءٍ للبعيدِ. و "ذَا" منصوبٌ بالنِّداءِ، وعلامةُ نَصِبِهِ الأَلِفُ لأنَّهُ مِنَ الأَسْماءِ الخمسَةِ، وهوَ مُضافٌ، و "الْقَرْنَيْنِ" مَجْرُورٌ بالإضافةِ إلَيْهِ، وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأَنَّهُ مُثَنَّى، والنُّونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المفردِ. وَجُمْلَةُ النِّداءِ هذِهِ: فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على كونِها مَقُولَ القَوْلِ لِـ "قُلْنَا".
قولُهُ: {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ} إِمَّا: حَرْفُ تَقْسيمٍ وَتَخْييرِ. وَ "أَنْ" حَرْفٌ نَاصِبٌ مَصْدَرِيٌّ. و "تُعَذِّبَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى ذِي القَرْنَيْنِ وَالجُمْلَةُ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَرْفُوعٍ عَلَى كَوْنِهِ خَبَرًا لمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ، والتَقديرُ: إِمَّا الشَّأْنُ فِيهِمْ تَعْذيبُكَ إِيَّاهم، أَوْ عَلَى كَوْنِهِ مَرْفُوعًا بالابْتِداءِ خَبَرُهُ مَحْذوفٌ، والتقديرُ: إِمَّا تَعْذيبُكَ إِيَّاهمْ وَاقِعٌ، فَهو كَقولِ الشَّاعِرِ:
فَسِيْرُوْا فَإمَّا حَاجَةٌ تَقْضِيَانِهَا ................. وَإِمَّا مَقِيْلٌ صَالِحٌ وَصَدِيْقُ
أَوْ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ عَلى كَوْنِهِ مَفْعُولًا لِفِعْلٍ مَحْذوفٍ، تَقْديرُهُ: إِمَّا فَعَلْتَ التَعْذيبَ أَوِ اخْتَرْ إِمَّا: التَعْذيبَ .. .
قولُهُ: {وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} الوَاوُ: للعطْفِ، وَ "إِمَّا أَنْ تَتَّخِذ" مِثْلُ "إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ" مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَمَ إِعْرَابُها آنِفًا. و "فِيهِمْ" في: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَتَّخِذَ" عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ لِه، والهاءُ. ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. وَ "حُسْنًا" مُفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ.
قَرَأَ الجمهورُ: نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ {في عَيْنٍ حَمِئَةٍ} بِلَا أَلِفٍ بَعْدِ الْحَاءِ، وَبِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الْمِيمِ الْمَكْسُورَةِ، وهِيَ قراءةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عبَّاسٍ وَعَدَدٍ مِنَ الصَّحَابةِ رُضوانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِم جَميعًا. وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى قولِهِ "حَمِئَةٍ": ذَاتُ حَمْأَةٍ، وَهِيَ الطِّينُ الْأَسْوَدُ، وَيَدُلُّ لِهَذَا التَّفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سورةِ الحِجْرِ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} الآيَةَ: 26.
وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وأَبُو بَكْرٍ، وَالأَخَوَانِ (حَمْزَة وَالْكِسَائِيُّ)، وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ: "حَامِيَةٍ" بِأَلِفٍ بَعْدِ الْحَاءِ، وَيَاءٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الْمِيمِ الْمَكْسُورَةِ عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، مِنْ "حَمِيَ"، "يَحْمِي"، والمَعْنَى: فِي عَيْنٍ حَارَّة. وقدِ اخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدٍ ثَعْلَبٌ، قالَ: لِأَنَّ عَلَيْهَا جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ، وسَمَّاهُمْ. مِنْهُمْ: عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العاصِ، وعَبْدُ اللهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ ـ رُضوانُ اللهِ تَعَالَى عَلِيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ القِراءَةِ مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَظَرَ إِلَى الشَّمْسِ حِينَ غَابَتْ فَقَالَ: ((فِي نَارِ اللهِ الحَامِيَّةِ، فِي نَارِ اللهِ الحَامِيَةِ)) أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي "مُسْنَدِهِ": (2/207)، وَالطَبَرِيُّ فِي "جامِعِ البَيَانِ": (16/12)، وَابْنُ عَطِيَّةَ: (9/393)، والحافِظُ ابْنُ كَثير فِي "تَفْسِيرِ القرآنِ العَظيمِ" لَهُ: (3/113).
وأَوْرَدَهُ السُّيُوطِيُّ فِي "الدُّرِّ المَنْثُورِ": (4/447)، وزَادَ فِي نِسْبَتِهِ لأَبي يَعْلَى، وَابْنِ مَنِيعٍ، وَابْنِ مِرْدُوَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الوَالِبِيِّ والحَسَنِ البَصْريِّ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "فِي عَيْنٍ حامِيَةٍ": (عَيْنٌ حَارَّةٌ) أَخْرَجَهُ الطبريُّ في "جامِع البَيَان": (16/12)، والصنعانيُّ في "تَفْسيرِ القُرْآنِ": (1/410)، وأَبُو الفَرَجِ بْنُ الجوزيِّ في "زَاد المَسِير": (5/1850)، وابْنُ كثيرٍ في "تَفْسير القُرْآنِ العَظيم": (3/114).