وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ
وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا} لَمَّا أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي مُخَالَطَةِ الْأَيْتَامِ، وَفِي مُخَالَطَةِ النِّكَاحِ بَيَّنَ أَنَّ مُنَاكَحَةَ الْمُشْرِكِينَ لَا تَصِحُّ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ، وَقِيلَ: فِي مَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ، وَاسْمُهُ كَنَّازُ بْنُ حُصَيْنٍ الْغَنَوِيُّ، بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مَكَّةَ سِرًّا لِيُخْرِجَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَتْ لَهُ بِمَكَّةَ امْرَأَةٌ يُحِبُّهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُقَالُ لَهَا "عَنَاقُ" فَجَاءَتْهُ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّ الْإِسْلَامَ حَرَّمَ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَتْ: فَتَزَوَّجْنِي، قَالَ: حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ فَنَهَاهُ عَنِ التَّزَوُّجِ بِهَا، لِأَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا وَهِيَ مُشْرِكَةٌ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: حَرَّمَ اللَّهُ نِكَاحَ الْمُشْرِكَاتِ فِي سُورَةِ" الْبَقَرَةِ "ثُمَّ نَسَخَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَأَحَلَّهُنَّ فِي سُورَةِ "الْمَائِدَةِ". وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَسُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّوْرِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَفْظُ الْآيَةِ الْعُمُومُ فِي كُلِّ كَافِرَةٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْخُصُوصُ فِي الْكِتَابِيَّاتِ، وَبَيَّنَتِ الْخُصُوصَ آيَةُ" الْمَائِدَةِ "وَلَمْ يَتَنَاوَلِ الْعُمُومُ قَطُّ الْكِتَابِيَّاتِ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، ثُمَّ نَسَخَتْ آيَةُ "الْمَائِدَةِ" بَعْضَ الْعُمُومِ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَ: وَنِكَاحُ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مُسْتَثْقَلٌ مَذْمُومٌ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيُّ: ذَهَبَ قَوْمٌ فَجَعَلُوا الْآيَةَ الَّتِي فِي "الْبَقَرَةِ" هِيَ النَّاسِخَةَ، وَالَّتِي فِي "الْمَائِدَةِ" هِيَ الْمَنْسُوخَةَ، فَحَرَّمُوا نِكَاحَ كُلِّ مُشْرِكَةٍ كِتَابِيَّةٍ أَوْ غَيْرِ كِتَابِيَّةٍ. وَمِنَ الْحُجَّةِ لِقَائِلِ هَذَا مِمَّا صَحَّ سَنَدُهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ الرَّجُلِ النَّصْرَانِيَّةَ أَوِ الْيَهُودِيَّةَ قَالَ: حَرَّمَ اللَّهُ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِنَ الْإِشْرَاكِ أَعْظَمَ مِنْ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ رَبُّهَا عِيسَى، أَوْ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ!. وَهَذَا قَوْلٌ خَارِجٌ عَنْ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ تَقُومُ بِهِمُ الْحُجَّةُ، لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ بِتَحْلِيلِ نِكَاحِ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ عُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَحُذَيْفَةُ. وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَطَاوُسٌ وَعِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ، وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ سُورَةِ "الْبَقَرَةِ" نَاسِخَةً لِلْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ "الْمَائِدَةِ" لِأَنَّ "الْبَقَرَةَ" مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ، وَ "الْمَائِدَةَ" مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ. وَإِنَّمَا الْآخِرُ يَنْسَخُ الْأَوَّلَ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضي اللهُ عنهما كَانَ رَجُلًا مُتَوَقِّفًا، فَلَمَّا سَمِعَ الْآيَتَيْنِ، فِي وَاحِدَةٍ التَّحْلِيلُ، وَفِي أُخْرَى التَّحْرِيمُ وَلَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ تَوَقَّفَ، وَلَمْ يُؤْخَذْ عَنْهُ ذِكْرُ النَّسْخِ وَإِنَّمَا تُؤُوِّلَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ يُؤْخَذُ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ بِالتَّأْوِيلِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي بَعْضِ مَا رُوِيَ عَنْهُ: إِنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي الْوَثَنِيَّاتِ وَالْمَجُوسِيَّاتِ وَالْكِتَابِيَّاتِ، وَكُلُّ مَنْ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ حَرَامٌ، فَعَلَى هَذَا هِيَ نَاسِخَةٌ لِلْآيَةِ الَّتِي فِي "الْمَائِدَةِ" وَيَنْظَرُ إِلَى هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْمُوَطَّأِ: وَلَا أَعْلَمُ إِشْرَاكًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ رَبُّهَا عِيسَى. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ طلحة ابن عُبَيْدِ اللَّهِ وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَبَيْنَ كِتَابِيَّتَيْنِ وَقَالَا: نُطَلِّقُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا تَغْضَبُ، فَقَالَ: لَوْ جَازَ طَلَاقُكُمَا لَجَازَ نِكَاحُكُمَا! وَلَكِنْ أُفَرِّقُ بَيْنَكُمَا صَغْرَةً قَمْأَةً. فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: أَتَزْعُمُ أَنَّهَا حَرَامٌ فَأُخْلِيَ سَبِيلَهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: لَا أَزْعُمُ أَنَّهَا حَرَامٌ، وَلَكِنِّي أَخَافُ أَنْ تَعَاطَوُا الْمُومِسَاتِ مِنْهُنَّ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُ هَذَا. وظَاهِرُ لَفْظِ الشِّرْكِ لَا يَتَنَاوَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ"، وَقَالَ: "لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ" فَفَرَّقَ بَيْنَهُمْ فِي اللَّفْظِ، وَظَاهِرُ الْعَطْفِ يَقْتَضِي مُغَايَرَةً بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا فَاسْمُ الشِّرْكِ عُمُومٌ وَلَيْسَ بِنَصٍّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: "وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ" بَعْدَ قَوْلِهِ: "وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ" نَصٌّ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْمُحْتَمَلِ وَبَيْنَ مَا لَا يُحْتَمَلُ. فَإِنْ قِيلَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: "وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ" أَيْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَأَسْلَمُوا، كَقَوْلِهِ: "وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ" الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: "مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ" الْآيَةَ. قِيلَ لَهُ: هَذَا خِلَافُ نَصِّ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: "وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ" وَخِلَافُ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ، فَإِنَّهُ لَا يُشْكِلُ عَلَى أَحَدٍ جَوَازُ التَّزْوِيجِ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَصَارَ مِنْ أَعْيَانِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ قَالُوا: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ" فَجَعَلَ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِهِنَّ الدُّعَاءَ إِلَى النَّارِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ" لِأَنَّ الْمُشْرِكَ يَدْعُو إِلَى النَّارِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُطَّرِدَةٌ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ، فَالْمُسْلِمُ خَيْرٌ مِنَ الْكَافِرِ مُطْلَقًا، وَهَذَا بَيِّنٌ.
وَأَمَّا نِكَاحُ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا كَانُوا حَرْبًا فَلَا يحل، وسئل ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يَحِلُّ، وَتَلَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: "قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ" إِلَى قَوْلِهِ: "صاغِرُونَ". وَكَرِهَ مَالِكٌ تَزَوُّجَ الْحَرْبِيَّاتِ، لِعِلَّةِ تَرْكِ الْوَلَدِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلِتَصَرُّفَهَا فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} إِخْبَارٌ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَةَ الْمَمْلُوكَةَ خَيْرٌ مِنَ الْمُشْرِكَةِ، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ الْحَسَبِ وَالْمَالِ. {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} فِي الْحُسْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَنَزَلَتْ فِي خَنْسَاءَ وَلِيدَةٍ سَوْدَاءَ كَانَتْ لِحُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ، فَقَالَ لَهَا حُذَيْفَةُ: يَا خَنْسَاءُ، قَدْ ذُكِرْتِ فِي الْمَلَإِ الْأَعْلَى مَعَ سَوَادِكِ وَدَمَامَتِكِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَكِ فِي كِتَابِهِ، فَأَعْتَقَهَا حُذَيْفَةُ وَتَزَوَّجَهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، كانت له أمة سوداء فَلَطَمَهَا فِي غَضَبٍ ثُمَّ نَدِمَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: ((مَا هِيَ يَا عَبْدَ اللَّهِ؟)) قَالَ: تَصُومُ وَتُصَلِّي وَتُحْسِنُ الْوُضُوءَ وَتَشْهَدُ الشَّهَادَتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((هَذِهِ مُؤْمِنَةٌ)). فَقَالَ ابن رواحة: لاعتقنّها ولا تزوجنّها، فَفَعَلَ، فَطَعَنَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: نَكَحَ أَمَةً، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنْ يُنْكِحُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَكَانُوا يُنْكِحُونَهُمْ رَغْبَةً فِي أَحْسَابِهِمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا} أَيْ لَا تُزَوِّجُوا الْمُسْلِمَةَ مِنَ الْمُشْرِكِ. وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكَ لَا يَطَأُ الْمُؤْمِنَةَ بِوَجْهٍ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْغَضَاضَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَالْقُرَّاءُ عَلَى ضَمِّ التَّاءِ مِنْ "تَنْكِحُوا". وفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ بِالنَّصِّ عَلَى أَنْ لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ على ابن الْحُسَيْنِ: النِّكَاحُ بِوَلِيٍّ فِي كِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ" وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ". وقد ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ)) وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ، رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيُّ وعبيد الله ابن الْحَسَنِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَالطَّبَرِيِّ.
وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ شُعَيْبٍ فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: "إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ". وَقَالَ تَعَالَى: "الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ"، فَقَدْ تَعَاضَدَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنْ لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: فِي حَدِيثِ حَفْصَةَ حِينَ تَأَيَّمَتْ وَعَقَدَ عُمَرُ عَلَيْهَا النِّكَاحَ وَلَمْ تَعْقِدْهُ هِيَ إِبْطَالُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ لِلْمَرْأَةِ الْبَالِغَةِ الْمَالِكَةِ لِنَفْسِهَا تَزْوِيجَ نَفْسِهَا وَعَقْدَ النِّكَاحِ دُونَ وَلِيِّهَا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَهَا لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدَعَ خِطْبَةَ حَفْصَةَ لِنَفْسِهَا إِذَا كَانَتْ أَوْلَى بِنَفْسِهَا مِنْ أَبِيهَا، وَخَطَبَهَا إِلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ أَمْرَهَا وَلَا الْعَقْدَ عَلَيْهَا، وَفِيهِ بَيَانُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصلاة والسَّلَامُ: ((الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا)) أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا أَحَقُّ بِنَفْسِهَا فِي أَنَّهُ لَا يَعْقِدُ عَلَيْهَا إِلَّا بِرِضَاهَا، لَا أَنَّهَا أَحَقُّ بِنَفْسِهَا فِي أَنْ تَعْقِدَ عَقْدَ النِّكَاحِ عَلَى نَفْسِهَا دُونَ وَلِيِّهَا. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ وَلَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فَإِنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا)). قَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ- ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَالْمَهْرُ لَهَا بِمَا أَصَابَ مِنْهَا فَإِنْ تَشَاجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ)). وَهَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ. وعَنْ أمّ المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ وَمَا كَانَ مِنْ نِكَاحٍ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ فَإِنْ تَشَاجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ)). وَلَا يَصِحُّ فِي الشَّاهِدَيْنِ غَيْرُ هَذَا الْخَبَرِ، وَإِذاً فَقَدْ صَرَّحَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِأَنْ لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ، فَلَا مَعْنَى لِمَا خَالَفَهُمَا. وَقَدْ كَانَ الزُّهْرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ يَقُولَانِ: إِذَا زَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا كُفُؤًا بِشَاهِدَيْنِ فَذَلِكَ نِكَاحٌ جَائِزٌ. وَكَذَلِكَ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: إِذَا زَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا كُفُؤًا بِشَاهِدَيْنِ فَذَلِكَ نِكَاحٌ جَائِزٌ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. وَإِنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا غَيْرَ كُفْءٍ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَلِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُ إِذَا أَذِنَ لَهَا وَلِيُّهَا فَعَقَدَتِ النِّكَاحَ بِنَفْسِهَا جَازَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِذَا وَلَّتْ أَمْرَهَا رَجُلًا فَزَوَّجَهَا كُفُؤًا فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا، إِلَّا أَنْ تَكُونَ عَرَبِيَّةً تَزَوَّجَتْ مَوْلًى، وَهَذَا نَحْوُ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَحَمَلَ الْقَائِلُونَ بِمَذْهَبِ الزُّهْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّعْبِيِّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ" عَلَى الْكَمَالِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصلاة والسَّلَامُ: ((لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ)) وَ((لَا حَظَّ فِي الْإِسْلَامِ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ)). وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ"، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: "فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ"، وَبِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: امْرَأَةٌ أَنَا وَلِيُّهَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إِذْنِي؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: يُنْظَرُ فِيمَا صَنَعَتْ، فَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ كُفُؤًا أَجَزْنَا ذَلِكَ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ مَنْ لَيْسَ لَهَا بِكُفْءٍ جَعَلْنَا ذَلِكَ إِلَيْكَ. وَفِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوَّجَتْ بِنْتَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ غَائِبٌ، الْحَدِيثَ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رِضَى اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَنْكَحَتْ رَجُلًا هُوَ الْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَخِيهَا فَضَرَبَتْ بَيْنَهُمْ بِسِتْرٍ، ثُمَّ تَكَلَّمَتْ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْعَقْدُ أَمَرَتْ رَجُلًا فَأَنْكَحَ، ثُمَّ قَالَتْ: لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ إِنْكَاحٌ. فَالْوَجْهُ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ أَنَّ عَائِشَةَ قَرَّرَتِ الْمَهْرَ وَأَحْوَالَ النِّكَاحِ، وَتَوَلَّى الْعَقْدَ أَحَدُ عَصَبَتِهَا، وَنُسِبَ الْعَقْدُ إِلَى عَائِشَةَ لَمَّا كَانَ تَقْرِيرُهُ إِلَيْهَا.
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْأَوْلِيَاءِ، مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ مَرَّةً: كُلُّ مَنْ وَضَعَ الْمَرْأَةَ فِي مَنْصِبٍ حَسَنٍ فَهُوَ وَلِيُّهَا، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْعَصَبَةِ أَوْ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ أَوِ الْأَجَانِبِ أَوِ الْإِمَامَ أَوِ الْوَصِيَّ. وَقَالَ مَرَّةً: الْأَوْلِيَاءُ مِنَ الْعَصَبَةِ، فَمَنْ وَضَعَهَا مِنْهُمْ فِي مَنْصِبٍ حَسَنٍ فَهُوَ وَلِيٌّ. وَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ بِمَوْضِعٍ لَا سُلْطَانَ فِيهِ وَلَا وَلِيَّ لَهَا فَإِنَّهَا تُصَيِّرُ أَمْرَهَا إِلَى مَنْ يُوثَقُ بِهِ مِنْ جِيرَانِهَا، فَيُزَوِّجُهَا وَيَكُونُ هُوَ وَلِيُّهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ، لِأَنَّ النَّاسَ لا بد لَهُمْ مِنَ التَّزْوِيجِ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُونَ فِيهِ بِأَحْسَنِ مَا يُمْكِنُ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ فَالنِّكَاحُ عِنْدَهُمْ بِغَيْرِ وَلِيٍّ مَفْسُوخٌ أَبَدًا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ، وَلَا يَتَوَارَثَانِ إِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا. وَالْوَلِيُّ عِنْدَهُمْ مِنْ فَرَائِضِ النِّكَاحِ، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عِنْدَهُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ" كَمَا قَالَ: "فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ"، وقال مخاطباً للأولياء: "فَلا تَعْضُلُوهُنَّ". وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ".
وَاخْتَلَفُوا فِي النِّكَاحِ يَقَعُ عَلَى غَيْرِ وَلِيٍّ ثُمَّ يُجِيزُهُ الْوَلِيُّ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَقَالَ مَالِكٌ: ذَلِكَ جَائِزٌ، إِذَا كَانَتْ إِجَازَتُهُ لِذَلِكَ بِالْقُرْبِ، وَسَوَاءٌ دَخَلَ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ. هَذَا إِذَا عَقَدَ النِّكَاحَ غَيْرُ وَلِيٍّ وَلَمْ تَعْقِدْهُ الْمَرْأَةُ بِنَفْسِهَا، فَإِنْ زَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا وَعَقَدَتْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ وَلِيٍّ قَرِيبٍ وَلَا بَعِيدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ هَذَا النِّكَاحَ لَا يُقَرُّ أَبَدًا عَلَى حَالٍ وَإِنْ تَطَاوَلَ وَوَلَدَتِ الْأَوْلَادَ، وَلَكِنَّهُ يُلْحَقُ الْوَلَدُ إِنْ دَخَلَ، وَيَسْقُطُ الحد، ولا بدّ مِنْ فَسْخِ ذَلِكَ النِّكَاحِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَنَازِلِ الْأَوْلِيَاءِ وَتَرْتِيبِهِمْ، فقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ مَعَ الْأَبِ، فَإِنْ مَاتَ فَالْجَدُّ. وَالْوِلَايَةُ بَعْدَ الْجَدِّ لِلْإِخْوَةِ، ثُمَّ الْأَقْرَبُ. وَرَوَى الْمَدَنِيُّونَ عَنْ مَالِكٍ مِثْلَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَأَنَّ الْأَبَ أَوْلَى مِنَ الِابْنِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَحْمَدُ: أَحَقُّهُمْ بِالْمَرْأَةِ أَنْ يُزَوِّجَهَا أَبُوهَا، ثُمَّ الِابْنُ، ثُمَّ الْأَخُ، ثُمَّ ابْنُهُ، ثُمَّ الْعَمُّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ((أَعْلِنُوا النِّكَاحَ)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ} أَيْ مَمْلُوكٌ {خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} أَيْ حَسِيبٍ. {وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} أَيْ حَسَبُهُ وَمَالُهُ، حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَلَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ، وَكَذَا ولَأَمَةٌ مؤمنةٌ، أيْ ولا امرأة مُؤْمِنَةٌ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُّ رِجَالِكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللَّهِ)) وَقَالَ: ((لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ)) وَقَالَ تَعَالَى: "نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُولئِكَ} إِشَارَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ. {يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أَيْ إِلَى الْأَعْمَالِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّارِ، فَإِنَّ صُحْبَتَهُمْ وَمُعَاشَرَتَهُمْ تُوجِبُ الِانْحِطَاطَ فِي كَثِيرٍ من هواهم مع تربيتهم النسل. {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ} أَيْ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. {بِإِذْنِهِ} أي بأمره.
قولُه تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ} الجمهورُ على فتح تاءِ المضارعةِ،
وقرأ الأعمش بضمِّها من: أنكَحَ الرباعي، فالهمزةُ فيه للتعديةِ، وعلى هذا فأحدُ المفعولين محذوفٌ، وهو المفعولُ الأولُ لأنه فاعلٌ معنىً تقديرُهُ: ولا تُنْكِحُوا أنفسَكم المشركاتِ.
والنكاحُ في الأصلِ عند العرب: لزومُ الشيءِ والإِكبابُ عليه، ومنه: "نَكَح المطرُ الأرضَ". وقيل: أصلُه المداخَلَةُ ومنه: تناكَحَت الشجر: أي تداخلت أغصانُها، ويُطْلق النكاح على العَقْد كقوله:
ولا تَقْرَبَنَّ جارةً إنَّ سِرَّها ............... حرامٌ عليك فانِكحَنْ أو تأبَّدا
أي: فاعقد أو توحَّشْ وتجَنَّبِ النساء. ويُطْلَقُ أيضاً على الوَطْءِ كقوله:
البارِكينَ على ظهورِ نِسْوَتِهِمْ ........... والناكحينَ بِشَطْءِ دجلةَ البَقَرَا
وحكى الفراء "نُكُح المرأةِ" بضمِّ النونِ على بناء "القُبُل" و"الدُّبُر"، وهو بُضْعُها، فمعنى قولِهم: "نَكَحَها" أي أصابَ ذلك الموضعَ، نحو كَبَده: أي أصابَ كَبِدَه، وقلَّما يقال: ناكحها، كما يقال باضَعَهَا.
وفَرَّقَتِ العربُ بين العَقْد والوطء بفرق لطيف، فإذا قالوا: "نكح فلانٌ فلانةً" أو ابنةَ فلان أرادوا عقدَ عليها، وإذا قالوا: نَكَحَ امرأتَه أو زوجته فلا يريدون غير المجامعَةِ وإطلاقُهُ عليهما بطريق الحقيقة والمجاز؟
قوله: {حتى يُؤْمِنَّ} حتى: بمعنى "إلى" فقط، والفعلُ بعدَها منصوبٌ بإضمار "أَنْ" أي: إلى أن يؤمنَّ، وهو مبنيٌّ على المشهورِ لاتصاله بنونِ الإِناث، والأصل: يُؤْمِنْنَ، فَأُدْغِمَت لامُ الفعلِ في نون
الإِناث.
قوله: {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ} سَوَّغَ الابتداءَ بـ "أَمَة" شيئان: لامُ الابتداء والوصفُ وأصل "أمة": أَمَوٌ، فَحُذِفَت لامُها على غيرِ قياسٍ، وعُوِّضَ منها تاءُ التأنيث ك "قُلَة" و"ثُبَة" يدلُّ على أنَّ لامَها واوٌ رجوعُها في الجمع. قال الكلابي:
أمَّا الإِماءُ فلا يَدْعُونني ولداً ........... إذا تداعى بنون الإِمْوانِ بالعارِ
ولظهورها في المصدرِ أيضاً، قالوا: أَمَةٌ بيِّنة الأُمُوَّة وأَقَرَّت له بالأُمُوَّة. ووزنُها "فَعَلة" بتحريكِ العين أو"فَعْلة" بسكونها؟ والأول، أظهرُ، وكان قياسُها على هذا أن تُقْلَبَ لأمُها ألِفاً لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلَها كفتاة وقَناة، ولكنْ حُذِفَتْ على غيرِ قياس. والأصل "أَأْمُوٌ" بهمزتين، الأولى مفتوحةٌ زائدةٌ، والثانيةُ ساكنةٌ هي فاءُ الكلمة نحو: أَكَمَةَ وأَأْكُم، فوقعت الواوُ طرفاً مضموماً ما قبلَها في اسمٍ معربٍ ولا نظيرَ له، فَقُلِبَتِ الواوُ ياءً والضمةُ كسرةً لتصِحَّ الياءُ، فصارَ الاسمُ من قبيلِ المنقوصِ. نحو: غازٍ وقاضٍ ، ثم قُلِبَتِ الهمزةُ الثانيةُ ألِفاً لسكونِها بعد أخرى مفتوحةٍ، فتقولُ: جاء آمٌ ومررت بآمٍ ورأيت آمياً ، تقدِّرُ الضمة والكسرة وتُظْهِرُ الفتحةَ ، ونظيرُهُ في هذا القلبِ مجموعاً أَدْلٍ وأَجْرٍ جمعُ دَلْو وجَرْو.
والتفضيلُ في قوله: {خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكةٍ} إمَّا على سبيلِ الاعتقادِ لا على سبيلِ الوجودِ، وإمَّا لأنَّ نكاحَ المؤمنةِ يشتملُ على منافعَ أُخْرَوِيَّة ونكاحَ المشركةِ الحرّة يشتملُ على منافعَ دنيويةٍ، هذا إذا التزمنا بأن
"أَفْعَلَ" لا بد أن يَدُلَّ على زيادة ما وإلاَّ فلا حاجةَ إلى هذا التأويلِ.
وقوله: {مِّن مُّشْرِكَةٍ} يَحْتَمِلُ أن يكونَ "مشركةٍ" صفةً لمحذوفٍ مدلولٍ عليه مقابِلِهِ أي: مِنْ حُرَّةٍ مشركةٍ، أو مدلول عليه بلفظِهِ أي: مِنْ أَمَةٍ مشركةٍ، على حَسَبِ الخلافِ في قوله: "ولأمةٌ" هل المرادُ المملوكَةُ للآدميين أو مطلقُ النساء لأنهنَّ مِلكٌ لله تعالى؟ وكذلك الخلافُ في قولِهِ: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} والكلامُ عليه كالكلامُ على هذا.
قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} وقوله: "ولو أَعْجَبَكم" هذه الجملةُ في محلِّ نصبِ على الحالِ، وقد تقدَّم أنَّ "لو" هذه في مثل هذا التركيبِ شرطيةٌ بمعنى "إنْ" نحو: "رُدُّوا السائلَ ولو بظَلْفٍ مُحْرقٍ"، وأنَّ الواوَ للعطفِ على حالٍ محذوفةٍ، التقديرُ: خيرٌ من مشركةٍ على كلِّ حالٍ، ولو في هذه الحال، وأنَّ هذا يكون لاستقصاءِ الأحوالِ، وأنَّ ما بعدَ "لو" هذه إنما يأتي وهو مُنافٍ لِما قبلَه بوجهٍ ما، فالإِعجابُ منافٍ لحكمِ الخيريةِ، ومقتضٍ جوازَ النكاح لرغبةِ الناكحِ فيها.
قوله: {والمغفرة} الجمهورُ على جَرَّ "المغفرة" عطفاً على "الجنة" و"بإذنه" متعلِّقٌ بيدعو، أي: بتسهيلهِ.
وفي غير هذه الآيةِ تقدَّمَتِ "المغفرة" على الجنة: "سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ" الحديد: 21 "وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ" آل عمران: 133، وهذا هو الأصل لأنَّ المغفرةَ سببٌ في دُخُولِ الجنَّةِ، وإنما أُخِّرَت هنا للمقابلَةِ، فإنَّ قبلَها "يدعو إلى النار"، فقدَّم الجنة ليقابِلَ بها النارَ لفظاً، ولتشُّوقِ النفوسِ إليها حين ذَكَرَ دعاءَ اللَّهِ إليها فأتى بالأَشْرَفِ.
وقرأ الحسن "والمغفرةُ بإذنِهِ" على الابتداءِ والخبرِ، أي: حاصلةٌ بإِذنِهِ.