يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)
{يا ايها الذين آمنوا} بألسنتهم، على أن الخطاب للمنافقين {ادخلوا فى السلم كافة} أي استسلموا لله تعالى وأطيعوه جملة ظاهراً وباطناً. فالسلم بمعنى الاستسلام والطاعة، قال مجاهد "ادخلوا في
السلم كافة": ادخلوا في الإسلام كافة، ادخلوا في الأعمال كافة.
وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْإِسْلَامُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ، الصَّلَاةُ سَهْمٌ، وَالزَّكَاةُ سَهْمٌ، وَالصَّوْمُ سَهْمٌ، وَالْحَجُّ سَهْمٌ، وَالْعُمْرَةُ سَهْمٌ، وَالْجِهَادُ سَهْمٌ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ سَهْمٌ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ سَهْمٌ، وَقَدْ خَابَ مَنْ لَا سَهْمَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْمَعْنَى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى وَعِيسَى ادْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَافَّةً.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثم يموت ولَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ". وَ{لا تَتَّبِعُوا} نَهْيٌ {خُطُواتِ الشَّيْطانِ} مَفْعُولٌ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: اسْتَأْذَنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ بِأَنْ يَقْرَءُوا التَّوْرَاةَ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنْ يَعْمَلُوا بِبَعْضِ مَا فِي التَّوْرَاةِ، فَنَزَلَتْ "وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ" فَإِنَّ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ أولى بعد ما بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ. وَقِيلَ: لَا تَسْلُكُوا الطَّرِيقَ الَّذِي يدعوكم إليه الشيطان، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة.
قولُه تعالى: {السلم} قرأ نافعُ والكسائي وابن كثير، "السَّلْم" بالفتحِ والباقون بالكَسْر، وأمَّا التي في الأنفال فلم يَقْرَأها بالكسر إلّا أبو بكرٍ وحدَه عن عاصم، والتي في القتال فلم يَقْرأْها بالكسر إلّا حمزةُ وأبو بكر وحدَهما عن عاصم، والتي في القتال فلم يَقْرَأْها بالكسر إلّا حمزةُ وأبو بكر أيضاً. فقيل: هما بمعنىً وهو الصلحُ، ويُذَكَّر ويُؤَنَّث، قال تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا}، وحَكَوْا: "بنو فلان سِلْمٌ وسَلْمٌ"، وأصلُه من الاستسلام وهو الانقيادُ، ويُطْلَقُ على الإِسلامِ، قاله الكسائي وجماعة، وأنشدوا:
دَعَوْتُ عشيرتي للسِّلْمِ لَمَّا ...................... رأيُتُهمُ تَوَلَّوا مُدْبِرِينا
بالكسر، وقال آخر في المفتوح:
شرائِعُ السَّلْم قد بانَتْ معالِمُها ........ فما يَرى الكفرَ إلا مَنْ بِه خَبَلُ
فالسِّلْمُ والسَّلْمُ في هذين البيتين بمعنى الإِسلام، إلاَّ أنَّ الفَتْح فيما هو بمعنى الإِسلام قليلٌ. وقرىء "السَّلَم" بفتحِهِما، وقيل: بل هما مختلفا المعنى: فبالكسر الإِسلامُ وبالفتحِ الصلحُ.
قوله: {كَآفَّةً} منصوبٌ على الحالِ، وفي صاحبِها ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: وهو الأظهَرُ أنه الفاعلُ في "ادخُلوا" والمعنى: ادخُلُوا السِّلْم جميعاً. وهذه حالٌ تُؤَكِّدُ معنى العمومِ، فإنَّ قولَكَ: "قام القومُ كافةً" بمنزلةِ: قاموا كلُّهم. والثاني: أنه "السِّلْم"، قاله الزمخشري وأبو البقاء، قال الزمخشري: ويَجُوزُ أن تكونَ "كافةً"حالاً من "السِّلْمِ" لأنها تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّثُ الحَرْبُ، قال الشاعر:
السِّلْمُ تأخذُ منها ما رَضِيتَ به ... والحربُ يَكْفيكَ من أَنْفَاسِها جُرَعُ
على أنَّ المؤمنينَ أُمِرُوا أن يدخُلُوا في الطاعاتِ كلِّها، ولا يَدْخُلوا في طاعةٍ دونَ طاعةٍ، وتعليلُه كونُ "كافةً" حالاً من "السِّلم" بقولِه: لأنها تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّثُ الحرب ليس بشيء لأنَّ التاءَ في "كافة" ليست للتأنيثِ، وإن كان أصلُها أَنْ تَدُلُّ عليه، بل صار هذا نقلاً مَحْضاً إلى معنى جميع وكل، كما صار قاطبةً وعامَّة إذا كانَ حالاً نَقْلاً مَحْضاً. فإذا قلت: "قامَ الناسُ كافً وقاطبةً" لم يَدُلَّ شيءٌ من ذلك على التأنيث، كما لا يَدُلُّ عليه "كُلّ" و"جميع".
والثالثُ: أن يكونَ صاحبُ الحالِ هما جميعاً، أعني فاعلَ "ادخُلُوا" و"السِّلْم" فتكونُ حالاً من شيئين. وهذا ما أجازه ابنُ عطية فإنه قال: وتَسْتَغْرِقُ "كافة" حينئذٍ المؤمنين وجميعَ أجزاءِ الشرع، فتكونُ الحالُ مِنْ شيئين، وذلك جائِزٌ نحو قولِهِ: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} مريم: 37. ثم قال بعد كلامٍ: وكافةً معناه جميعاً، فالمرادُ بالكافة الجماعةُ التي تَكُفُّ مخالِفيها.
وقوله: نحو قوله: تَحْمِلُه يعني أنَّ "تَحْمِلُهُ" حالٌ من فاعل "أَتَتْ" ومِنَ الهاء في "بِهِ". وهذا المثالُ ليس مطابقاً للحال من شيئين لأنَّ لفظَ "تَحْمِلُهُ" لا يحتمل شيئين، ولا تقع الحالُ من شيئين إلا إذا كان اللفظُ يحتملُهما، واعتبارُ ذلك بجَعْلِ ذوي الحال مبتدأين، وجَعَل تلك الحالَ خبراً عنهما، فمتى صَحَّ ذلك صَحَّتِ الحالُ نحو:
وَعُلِّقْتُ سلمى وَهْيَ ذاتُ مُوَصَّدٍ ... ولم يَبْدُ للأتْرابِ من ثَدْيِها حَجْمُ
صَغِيرَيْنِ نَرْعى البَهْم يا ليت أنَّنا ... إلى اليومِ لم نَكْبَر ولم تكْبَرِ البَهْمُ
فصغيرَيْنِ حالٌ من فاعل "عُلِّقْتُ" ومن "سلمى" لأنك لو قُلْت: أنا وسَلْمى صغيران لَصَحَّ، ومثلُه قولُ امرىءِ القيس:
خَرَجْتُ بها نمشي تَجُرُّ وراءَنا ........... على أَثَرَيْنَا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ
فنمشي حالٌ من فاعل "خَرَجْتُ" ومن "ها" في "بها"، لأنَّك لو قلت: أنا وهي نمشي لصَحَّ، ولذلك أَعْرب المُعْرِبون "نَمْشِي" حالاً منهما كما تَقَدَّم، و"تَجُرُّ" حالاً من "ها" في "بها" فقط، لأنه لا يصلح أن تجعل "تَجُرُّ" خبراً عنهما، لو قلت: "أنا وهي تَجَرُّ" لم يَصِحَّ فكذلك يتقدَّر بمفردٍ وهو "جارَّة" وأنت لو أَخْبَرْتَ به عن اثنين لم يَصِحَّ فكذلك "تحمله" لا يَصْلُح أن يكونَ خبراً عن اثنين، فلا يَصِحُّ أن يكونَ حالاً منهما، وأمَّا "كافة" فإنها بمعنى "جميع"، و "جميع"صحُّ فيها ذلك، لا يُقال: "كافة" لا يَصحُّ وقوعُها خبراً لو قلتَ: "الزيدون، والعمرون كافة" لم يَجُزْ، فلذلك لا تقع حالاً على ما قَرَّرتُ؛ لأنَّ ذلك إنما هو بسبب التزام نصب "كافةً" على الحال، وأنها لا تتصرَّف لا من مانعِ معنوي، بدليلِ أنَّ مرادفها وهو "جميع" و"كل" يُخْبَرُ به، فالعارضُ المانِعُ لـ "كافَّة" من التصرُّفِ لا يَضُرُّ، وقوله: "الجماعة التي تَكُفُّ مخالِفيها" يعني أنَّها في الأصلِ كذلك، ثم صار استعمالها بمعنى جميع وكُل".
واعلَمْ أنَّ أصلَ "كافة" اسمُ فاعل من كَفَّ يَكُفُّ أي مَنَع، ومنه: "كَفُّ الإِنسان"، لأنها تَمْنَعُ ما يقتضيه، و"كِفّة الميزان" لجمعِها الموزون، والكُفَّة بالضم لكل مستطيلٍ، وبالكسر لكلِّ مستدير. وقيل: "كافة" مصدرٌ كالعاقبة والعافية. وكافة وقاطبة مِمَّا لَزِم نصبُهما على الحالِ فإخراجُهما عن ذلك لَحْنٌ.