وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
جُمهورُ المؤمنين لهم إيمانُ بُرهانٍ بِشرطِ الاسْتِدلالِ، وخَواصُّ المُؤمنين لهم إيمانٌ مِن حيثُ البَيان بحق الإقبال، وأَقبلَ الحقُّ سُبحانَه عليهم فآمنوا بالله، فهو الأول والفضل له ومنه، إذ: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أبداً}. سورة النور: 21. وآخرُ أَحوالِهم الإيمانُ مِن حيثُ العِيانِ، عينُ اليَقين ثمّ حَقُّ اليَقين الذي ذكره ربُّ العالمين. وذلك لخَواصِّ الخَواصِّ. وظاهرُ الأمرِ "آمنوا" أنه لبني إسرائيلَ، وقيل: نَزَلتْ في كعبٍ بنِ الأَشرفِ وأصحابِه علماءِ اليهودِ ورُؤسائهم فهو أمرٌ لهم، وأَفرَدَ ـ سبحانَه ـ الإيمان بعدَ انْدِراجِه في {أَوْفُواْ بِعَهْدِى } في الآيةِ السابقةِ بمجموعِ الأمرِ بِه والحَثِّ عليه المستفاد من قولِه تعالى: {مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ} للإشارة إلى أنّه المَقصودُ، والعُمْدةُ للوفاءِ بالعُهودِ، وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ} أَيْ صَدِّقُوا، يَعْنِي بِالْقُرْآنِ. {مُصدِّقاً لِما مَعَكُمْ} يَعْنِي مِنَ التَّوْرَاةِ. {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ} الضَّمِيرُ فِي"بِهِ" قِيلَ هُوَ عَائِدٌ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ إِذْ تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: "بِما أَنْزَلْتُ". وَقِيلَ: عَلَى التَّوْرَاةِ، إِذْ تَضَمَّنَهَا قَوْلُهُ: "لِما مَعَكُمْ". فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ"كافِرٍ" وَلَمْ يَقُلْ كَافِرِينَ قِيلَ: التَّقْدِيرُ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ فَرِيقٍ كَافِرٍ بِهِ. وَقَالَ:"أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ" وَقَدْ كَانَ قَدْ كَفَرَ قَبْلَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذْ هُمْ مَنْظُورٌ إِلَيْهِمْ فِي مِثْلِ هَذَا لِأَنَّهُمْ حُجَّةٌ مَظْنُونٌ بِهِمْ عِلْمٌ. وَخُصَّ الْأَوَّلُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ التَّقَدُّمَ فِيهِ أَغْلَظُ، فَكَانَ حُكْمُ الْمَذْكُورِ وَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ وَاحِدًا، وَهَذَا وَاضِحٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلا تَشْتَرُوا} مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: "وَلا تَكُونُوا". نَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ وَأَلَّا يَأْخُذُوا عَلَى آيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا أَيْ عَلَى تَغْيِيرِ صِفَةِ محمد ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رِشًى. وَكَانَ الْأَحْبَارُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَنُهُوا عَنْهُ، قَالَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مِنْهُمُ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: كَانَتْ لَهُمْ مَآكِلُ يَأْكُلُونَهَا عَلَى الْعِلْمِ كَالرَّاتِبِ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْأَحْبَارَ كَانُوا يُعَلِّمُونَ دِينَهُمْ بِالْأُجْرَةِ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَفِي كُتُبِهِمْ: يَا ابْنَ آدَمَ عَلِّمْ مَجَّانًا كَمَا عُلِّمْتَ مَجَّانًا أَيْ بَاطِلًا بِغَيْرِ أُجْرَةٍ قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلَا تَشْتَرُوا بِأَوَامِرِي وَنَوَاهِيَّ وَآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا يَعْنِي الدُّنْيَا ومدَّتَها والثمنَ الَّذِي هُوَ نَزْرٌ لَا خَطَرَ لَهُ فَسُمِّيَ مَا اعْتَاضُوهُ عَنْ ذَلِكَ ثَمَنًا لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ عِوَضًا فَانْطَلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الثَّمَنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَنًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِنْ كُنْتَ حَاوَلْتَ ذَنْبًا أَوْ ظَفِرْتَ بِهِ .... فَمَا أَصَبْتَ بِتَرْكِ الْحَجِّ مِنْ ثَمَنِ
قُلْتُ: وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ خَاصَّةً بِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَهِيَ تَتَنَاوَلُ مَنْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ. فَمَنْ أخذَ رِشْوَةً على تَغييرِ حَقٍّ أَوْ إِبْطَالِهِ أَوِ امْتَنَعَ مِنْ تَعْلِيمِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَوْ أَدَاءِ مَا عَلِمَهُ وَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ حَتَّى يَأْخُذَ عَلَيْهِ أَجْرًا فَقَدْ دَخَلَ فِي مُقْتَضَى الْآيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). يَعْنِي رِيحَهَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ ـ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا ـ فَمَنَعَ ذَلِكَ الزُّهْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ تَعْلِيمَهُ وَاجِبٌ مِنَ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى نِيَّةِ التَّقَرُّبِ وَالْإِخْلَاصِ فَلَا يُؤْخَذُ عَلَيْهَا أُجْرَةٌ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: "وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا". وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مُعَلِّمُو صِبْيَانِكُمْ شِرَارُكُمْ أَقَلُّهُمْ رَحْمَةً باليتيمِ وأغلَظُهم على المِسكين)). وروى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي الْمُعَلِّمِينَ؟ قَالَ: ((دِرْهَمُهُمْ حَرَامٌ وَثَوْبُهُمْ سُحْتٌ وَكَلَامُهُمْ رِيَاءٌ)). وَرَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قَالَ: عَلَّمْتُ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الْقُرْآنَ وَالْكِتَابَةَ، فَأَهْدَى إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَوْسًا فَقُلْتُ: لَيْسَتْ بِمَالٍ وَأَرْمِي عَنْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَسَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ((إِنْ سَرَّكَ أَنْ تُطَوَّقَ بِهَا طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا)). وَأَجَازَ أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ((إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَهُوَ نَصٌّ يَرْفَعُ الْخِلَافَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ الْمُخَالِفُ مِنَ الْقِيَاسِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فَفَاسِدٌ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ ثُمَّ إِنَّ بَيْنَهُمَا فُرْقَانًا وَهُوَ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ عِبَادَاتٌ مُخْتَصَّةٌ بِالْفَاعِلِ وَتَعْلِيمُ الْقُرْآنِ عِبَادَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ لِغَيْرِ الْمُعَلِّمِ فَتَجُوزُ الْأُجْرَةُ عَلَى مُحَاوَلَتِهِ النَّقْلَ كَتَعْلِيمِ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ. بينما كَرِهَ أبو حنيفةَ ـ رضي الله عنه ـ أخذ الأجر على تعليم القرآن، وأجازه في غيره.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَالْمُرَادُ بِهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا هَلْ هُوَ شَرْعٌ لَنَا، فِيهِ خِلَافٌ، وَهُوَ لَا يَقُولُ بِهِ. جَوَابٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ فِيمَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّعْلِيمُ فَأَبَى حَتَّى يَأْخُذَ عَلَيْهِ أَجْرًا. فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ فَيَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ بِدَلِيلِ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ وَقَدْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عَلَى عِيَالِهِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعْلِيمُ وَلَهُ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى صَنْعَتِهِ وَحِرْفَتِهِ. وَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُعِينَ لِإِقَامَةِ الدِّينِ وَإِلَّا فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا وُلِّيَ الْخِلَافَةَ وَعُيِّنَ لَهَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُقِيمُ بِهِ أَهْلَهُ فَأَخَذَ ثِيَابًا وَخَرَجَ إِلَى السُّوقِ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: وَمِنْ أَيْنَ أُنْفِقُ عَلَى عِيَالِي! فَرَدُّوهُ وَفَرَضُوا لَهُ كِفَايَتَهُ. وأما الأحاديث فليس شيء مِنْهَا يَقُومُ عَلَى سَاقٍ وَلَا يَصِحُّ مِنْهَا شيءٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالنَّقْلِ. أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ طَرِيفٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ وَسَعِيدٌ مَتْرُوكٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَرَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سلمة عَنْ أَبِي جُرْهُمٍ عَنْهُ وَأَبُو جُرْهُمٍ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ وَلَمْ يَرْوِ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَحَدٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو جُرْهُمٍ وَإِنَّمَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي الْمُهَزِّمِ وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ أَيْضًا وَهُوَ حَدِيثٌ لَا أَصْلَ لَهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ الْمَوْصِلِيِّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ عَنْهُ وَالْمُغِيرَةُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَكِنَّهُ لَهُ مَنَاكِيرُ هَذَا مِنْهَا قَالَهُ أَبُو عُمَرَ. ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا حَدِيثُ الْقَوْسِ فَمَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ أبي وَهُوَ مُنْقَطِعٌ. وَلَيْسَ فِي الْبَابِ حَدِيثٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ وَحَدِيثُ عُبَادَةَ وَأُبَيٍّ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَلَّمَهُ لِلَّهِ ثُمَّ أَخَذَ عَلَيْهِ أَجْرًا. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ((خَيْرُ النَّاسِ وَخَيْرُ مَنْ يَمْشِي عَلَى جديدِ الْأَرْضِ الْمُعَلِّمُونَ كُلَّمَا خَلُقَ الدِّينُ جَدَّدُوهُ أَعْطُوهُمْ وَلَا تَسْتَأْجِرُوهُمْ فَتُحْرِجُوهُمْ فَإِنَّ الْمُعَلِّمَ إِذَا قَالَ لِلصَّبِيِّ قُلْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَالَ الصَّبِيُّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كَتَبَ اللَّهُ بَرَاءَةً لِلصَّبِيِّ وَبَرَاءَةً لِلْمُعَلِّمِ وَبَرَاءَةً لِأَبَوَيْهِ مِنَ النار. الثَّالِثَةُ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي بِأُجْرَةٍ فَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الصَّلَاةِ خَلْفَ مَنِ اسْتُؤْجِرَ فِي رَمَضَانَ يَقُومُ لِلنَّاسِ فَقَالَ: أَرْجُو أَلَّا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ وَهُوَ أَشَدُّ كَرَاهَةً لَهُ فِي الْفَرِيضَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَلَا بِالصَّلَاةِ خَلْفَهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا صَلَاةَ لَهُ. وَكَرِهَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ معلقة من التي قبلها واصلها وَاحِدٌ. قُلْتُ: وَيَأْتِي لِهَذَا أَصْلٌ آخَرُ مِنَ الْكِتَابِ فِي "بَرَاءَةَ" إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَرِهَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الشِّعْرِ وَالنَّحْوِ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لَا بَأْسَ بِالْإِجَارَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الشِّعْرِ وَالرَّسَائِلِ وَأَيَّامِ الْعَرَبِ ويكره من الشعر ما فيه الخمر والخنى وَالْهِجَاءُ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ: وَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ يُجِيزَ الْإِجَارَةَ عَلَى كُتُبِهِ وَيُجِيزَ بَيْعَ كُتُبِهِ. وَأَمَّا الْغِنَاءُ وَالنَّوْحُ فَمَمْنُوعٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ. الرَّابِعَةُ: رَوَى الدَّارِمِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي مُسْنَدِهِ قَالَ: مَرَّ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِالْمَدِينَةِ ـ وَهُوَ يُرِيدُ مَكَّةَ ـ فَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا فَقَالَ: هَلْ بِالْمَدِينَةِ أَحَدٌ أَدْرَكَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالُوا لَهُ: أَبُو حَازِمٍ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: يَا أَبَا حَازِمٍ مَا هَذَا الْجَفَاءُ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَيُّ جَفَاءٍ رَأَيْتَ مِنِّي؟ قَالَ: أَتَانِي وُجُوهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلَمْ تَأْتِنِي! قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أُعِيذُكَ بِاللَّهِ أَنْ تَقُولَ مَا لَمْ يَكُنْ مَا عَرَفْتَنِي قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ وَلَا أنا رأيتُك! قال: فالتفت إلى محمد ابن شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ: أَصَابَ الشَّيْخُ وَأَخْطَأْتَ. قَالَ سُلَيْمَانُ: يَا أَبَا حَازِمٍ مَا لَنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ؟! قَالَ: لِأَنَّكُمْ أَخْرَبْتُمُ الْآخِرَةَ وَعَمَّرْتُمُ الدُّنْيَا فَكَرِهْتُمْ أَنْ تَنْتَقِلُوا مِنَ الْعُمْرَانِ إِلَى الْخَرَابِ قَالَ أَصَبْتَ يَا أَبَا حَازِمٍ فَكَيْفَ الْقُدُومُ غَدًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ: أَمَّا الْمُحْسِنُ فَكَالْغَائِبِ يَقْدَمُ عَلَى أَهْلِهِ وَأَمَّا الْمُسِيءُ فَكَالْآبِقِ يَقْدَمُ عَلَى مَوْلَاهُ. فَبَكَى سُلَيْمَانُ وَقَالَ: لَيْتَ شِعْرِي! مَا لَنَا عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: اعْرِضْ عَمَلَكَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: وَأَيُّ مَكَانٍ أجده؟ قال: {إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}. الانفطار: 14 - 13. قَالَ سُلَيْمَانُ: فَأَيْنَ رَحْمَةُ اللَّهِ يَا أَبَا حَازِمٍ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ: رَحْمَةُ اللَّهِ قَرِيبُ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: يَا أَبَا حَازِمٍ فَأَيُّ عِبَادِ اللَّهِ أَكْرَمُ؟ قَالَ: أُولُو الْمُرُوءَةِ وَالنُّهَى. قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: فَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ مَعَ اجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ. قَالَ سُلَيْمَانُ: فَأَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ دُعَاءُ الْمُحْسَنِ إِلَيْهِ لِلْمُحْسِنِ. فَقَالَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: لِلسَّائِلِ الْبَائِسِ وَجُهْدِ الْمُقِلِّ لَيْسَ فِيهَا مَنٌّ وَلَا أَذًى. قَالَ: فَأَيُّ الْقَوْلِ أَعْدَلُ؟ قَالَ: قَوْلُ الْحَقِّ عِنْدَ مَنْ تَخَافُهُ أَوْ تَرْجُوهُ. قَالَ: فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: رَجُلٌ عَمِلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَدَلَّ النَّاسَ عَلَيْهَا. قَالَ: فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَحْمَقُ؟ قَالَ: رَجُلٌ انْحَطَّ فِي هَوَى أَخِيهِ وَهُوَ ظَالِمٌ فَبَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: أَصَبْتَ فَمَا تَقُولُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ؟ قَالَ يَا أمير المؤمنين أو تعفيني؟ قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: لَا! وَلَكِنْ نَصِيحَةٌ تُلْقِيهَا إِلَيَّ. قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ آبَاءَكَ قَهَرُوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ وَأَخَذُوا هَذَا الْمُلْكَ عَنْوَةً عَلَى غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا رِضَاهُمْ حَتَّى قَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةَ عَظِيمَةً فَقَدِ ارْتَحَلُوا عَنْهَا فَلَوْ شَعَرْتَ مَا قَالُوهُ وَمَا قِيلَ لَهُمْ!. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا أَبَا حَازِمٍ! قَالَ أَبُو حَازِمٍ: كَذَبْتَ إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ مِيثَاقَ الْعُلَمَاءِ لَيُبَيِّنُنَّهُ للناسِ ولا يكتمونه. قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: فَكَيْفَ لَنَا أَنْ نُصْلِحَ؟ قَالَ: تَدَعُونَ الصَّلَفَ وَتُمْسِكُونَ بِالْمُرُوءَةِ وَتَقْسِمُونَ بِالسَّوِيَّةِ. قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: فَكَيْفَ لَنَا بِالْمَأْخَذِ بِهِ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ: تَأْخُذُهُ مِنْ حِلِّهِ وَتَضَعُهُ فِي أَهْلِهِ. قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: هَلْ لَكَ يَا أَبَا حَازِمٍ أَنْ تَصْحَبَنَا فَتُصِيبَ مِنَّا وَنُصِيبَ مِنْكَ؟ قَالَ أَعُوَذُ بِاللَّهِ! قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: وَلِمَ ذَاكَ؟ قَالَ: أَخْشَى أَنْ أَرْكَنَ إِلَيْكُمْ شَيْئًا قَلِيلًا فَيُذِيقُنِي اللَّهُ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ. قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ ارْفَعْ إِلَيْنَا حَوَائِجَكَ قَالَ: تُنْجِينِي مِنَ النَّارِ وَتُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ. قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: لَيْسَ ذَاكَ إِلَيَّ! قَالَ له أَبُو حَازِمٍ: فَمَا لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ غَيْرَهَا. قَالَ: فَادْعُ لِي. قَالَ أَبُو حَازِمٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ سُلَيْمَانُ وَلِيَّكَ فَيَسِّرْهُ لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِنْ كَانَ عَدُوَّكَ فَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ قَطُّ! قال أبو حازم: قد أوجزتُ وأكثرتُ إِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ فَمَا يَنْبَغِي أَنْ أَرْمِيَ عَنْ قَوْسٍ لَيْسَ لَهَا وَتَرٌ. قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ أَوْصِنِي قَالَ سَأُوصِيكَ وَأُوجِزُ: عَظِّمْ رَبَّكَ وَنَزِّهْهُ أَنْ يَرَاكَ حَيْثُ نَهَاكَ أَوْ يَفْقِدَكَ حَيْثُ أَمَرَكَ. فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ بَعَثَ إِلَيْهِ بِمِئَةِ دِينَارٍ وَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَنْ أَنْفِقْهَا وَلَكَ عِنْدِي مِثْلُهَا كَثِيرٌ. قَالَ فَرَدَّهَا عَلَيْهِ وَكَتَبَ إِلَيْهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أُعِيذُكَ بِاللَّهِ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُكَ إِيَّايَ هَزْلًا أَوْ رَدِّي عَلَيْكَ بَذْلًا، وَمَا أَرْضَاهَا لَكَ فَكَيْفَ أَرْضَاهَا لِنَفْسِي! إِنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ رِعَاءً يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ جَارِيَتَيْنِ تَذُودَانِ فَسَأَلَهُمَا فَقَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ. وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ جَائِعًا خَائِفًا لَا يَأْمَنُ، فَسَأَلَ رَبَّهُ وَلَمْ يَسْأَلِ النَّاسَ فَلَمْ يَفْطِنِ الرِّعَاءُ وَفَطِنَتِ الْجَارِيَتَانِ فَلَمَّا رَجَعَتَا إِلَى أَبِيهِمَا أخبرتاه بالقِصَّةِ وبقوله. فقال أبوهما وهو شُعيبٌ عليه السلام هذا رجلٌ جائعٌ. فقال لإحداهما: اذْهَبِي فَادْعِيهِ. فَلَمَّا أَتَتْهُ عَظَّمَتْهُ وَغَطَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَشَقَّ عَلَى مُوسَى حِينَ ذَكَرَتْ "أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا" وَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ أَنْ يَتْبَعَهَا لِأَنَّهُ كَانَ بَيْنَ الْجِبَالِ جَائِعًا مُسْتَوْحِشًا. فَلَمَّا تَبِعَهَا هَبَّتِ الرِّيحُ فَجَعَلَتْ تُصَفِّقُ ثِيَابَهَا عَلَى ظَهْرِهَا فَتَصِفُ لَهُ عَجِيزَتَهَا ـ وَكَانَتْ ذَاتَ عَجُزٍ ـ وَجَعَلَ مُوسَى يُعْرِضُ مَرَّةً وَيَغُضُّ أُخْرَى فَلَمَّا عِيلَ صَبْرُهُ نَادَاهَا: يَا أَمَةَ اللَّهِ كُونِي خَلْفِي وَأَرِينِي السَّمْتَ بِقَوْلِكِ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى شُعَيْبٍ إِذْ هُوَ بِالْعَشَاءِ مُهَيَّأٌ فَقَالَ لَهُ شُعَيْبٌ: اجْلِسْ يَا شَابُّ فتعشّى فَقَالَ لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَعُوَذُ بِاللَّهِ! فَقَالَ لَهُ شُعَيْبُ: لِمَ؟ أَمَا أَنْتَ جَائِعٌ؟ قَالَ بَلَى وَلَكِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عِوَضًا لِمَا سَقَيْتُ لَهُمَا وَأَنَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ لَا نَبِيعُ شَيْئًا مِنْ دِينِنَا بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا. فَقَالَ لَهُ شُعَيْبٌ لَا يَا شَابُّ. وَلَكِنَّهَا عَادَتِي وَعَادَةُ آبَائِي: نَقْرِي الضَّيْفَ وَنُطْعِمُ الطَّعَامَ فَجَلَسَ مُوسَى فَأَكَلَ فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمِئَةَ دِينَارٍ عِوَضًا لِمَا حَدَّثْتُ فَالْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ أَحَلُّ مِنْ هَذِهِ وَإِنْ كَانَ لِحَقٍّ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَلِي فِيهَا نُظَرَاءُ فَإِنْ سَاوَيْتَ بَيْنَنَا وإلّا فليس لي فيها حاجة.
هَكَذَا يَكُونُ الِاقْتِدَاءُ بِالْكِتَابِ وَالْأَنْبِيَاءِ انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْإِمَامِ الْفَاضِلِ وَالْحَبْرِ الْعَالِمِ كَيْفَ لَمْ يَأْخُذْ عَلَى عَمَلِهِ عِوَضًا وَلَا عَلَى وَصِيَّتِهِ بَدَلًا وَلَا عَلَى نَصِيحَتِهِ صَفَدًا، بَلْ بَيَّنَ الْحَقَّ وَصَدَعَ وَلَمْ يَلْحَقْهُ فِي ذَلِكَ خَوْفٌ وَلَا فَزَعٌ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ هَيْبَةُ أحدٍ أنْ يَقولَ أو يَقومَ بِالْحَقِّ حَيْثُ كَانَ)). وَفِي التَّنْزِيلِ: {يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} المائدة 54.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى التقوى. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَوْلُهُ: "وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ" قَالَ مَوْضِعُ عِلْمِي السَّابِقُ فِيكُمْ.{وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} قَالَ مَوْضِعُ الْمَكْرِ وَالِاسْتِدْرَاجِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}. الأعراف: 182. وقوله: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ}. الأعراف: 99. فما استثنى نبيًّا ولا صِدِّيقًا.
{وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} ما: يَجوز أن تكونَ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ، أي: الذي أَنْزَلْتُه، ويجوز أن تكونَ مصدريةً، والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعولِ أي بالمنزَّلِ. و"مصدّقاً" نصبٌ على الحالِ، وصاحبُها العائدُ المحذوفُ. وقيل: صاحبُها "ما" والعاملُ فيها "آمنوا".
قوله: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أولَ: خبرُ "كان" والجمعُ: أوائل، ولا فِعْلَ لَه. وقيل: أوْألَ مِنْ آلَ بِمعنى رَجَعَ، وإنّما لمْ يُجمَعْ على أَواوِلٍ لاستثْقالِهم اجْتِماعَ الوَاويْنِ بينَهما أَلِفُ الجَمْعِ وهو تَفضيلٌ، وأَفْعَلُ التفضيلِ إذا أُضيفَ إلى نَكِرةٍ كان مُفرَدًا مُذّكَّرًا مُطْلَقاً. ثمَّ النَكِرَةُ المُضافُ إليها أَفْعلُ: إمَّا أنْ تَكونَ جامدةً أو مشتَقَّةً، فإنْ كانَتْ جامدةً طابقَتْ ما قبلَها نحو: الزيدان أفضلُ رجلَيْن، الزيدون أفضلُ رجالٍ، الهَنْداتُ أفضلُ نِسْوَةٍ. وإنْ كانَتْ مُشْتَقَّةً فالجُمهورُ أَيْضًا على وُجوبِ المُطابقةِ نحو: الزيدُونَ أفضلُ ذاهبينَ وأَكرمُ قادمين، وأَجازَ بعضُهم المُطابقةَ وعَدَمَها، لقول الشاعر:
وإذا هُمُ طَعِمُوا فَالأَمُ طاعِمٍ ................ وإذا هُمُ جاعوا فَشَرُّ جِياعِ
والهاءُ في "به" تعودُ على "ما أَنْزَلْتُ" وهو الظاهرُ، وقيل: على الرسولِ ـ عليه الصلاةُ والسلام ـ لأنَّ التَنزيلَ يَسْتَدْعِي مُنَزَّلاً إليه.
قولُه: {بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} متعلِّقٌ بالاشْتِراءِ قبلَه، وضُمِّنَ الاشتِراءُ معنى الاسْتِبْدالِ، فلذلك دَخَلَتِ الباءُ على الآياتِ. و"ثَمناً" مفعولٌ به، و"قليلاً" صِفتُه.
و{وَإِيَّايَ فاتّقون} كقوله: {وَإِيَّايَ فارهبون} وقال هنا: فاتّقون، وهناك فارهبون لأنَّ تَرْكَ المَأْمورِ بِه هُناك مَعصيةٌ وهي تَرْكُ ذِكْر النعمةِ والإِيفاءِ بالعَهْدِ، وهنا تَرْكُ الإِيمانُ بالمُنَزَّلِ والاشتراءُ به ثمناً قليلاً كُفرٌ فناسبَ ذِكْرَ الرَّهَبِ هناك لأنّه أخفُّ يَجوزُ العَفْوُ عنه لكونِه معصيةً، وذَكَر التقوى هنا لأنّه كُفْرٌ لا يَجوز العفوُ عنه، لأنَّ التقوى اتِّخاذُ الوِقايةِ لِما هو كائنٌ لا بُدَّ منه.