وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ
(170)
قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَإِذا قِيلَ لَهُمُ" فيه عدول عن الخطاب إلى الغيبة للتنبيه على أنّهم لفرط جهلم وحمقهم ليسوا أهلاً للخطاب بل ينبغي أن يصرف عنهم إلى من يعقله، وفيه من النداء لكل أحد من العقلاء، وقيل: الضمير لليهود وإن لم يذكروا بناءً على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ الآية نزلت فيهم لمّا دعاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام يَعْنِي كُفَّارَ الْعَرَبِ . أو أنّ الضَّمِيرُ فِي "لَهُمُ" عَائِدٌ عَلَى النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: "يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا" . وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى "مِنْ" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ" . وقوله تَعَالَى: "اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ" أَيْ بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ . "قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا" و"أَلْفَيْنَا": وَجَدْنَا . قَالَ الشَّاعِرُ:
فَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ ......................................... وَلَا ذَاكِرِ اللَّهِ إِلَّا قَلِيلًا
قَوْلُهُ تَعَالَى: "أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ" فُتِحَتِ الْوَاوُ لِأَنَّهَا وَاوُ عَطْفٍ، عَطَفَتْ جُمْلَةَ كَلَامٍ عَلَى جُمْلَةٍ، لِأَنَّ غَايَةَ الْفَسَادِ فِي الِالْتِزَامِ أَنْ يَقُولُوا: نَتَّبِعُ آبَاءَنَا وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ، فَقُرِّرُوا عَلَى الْتِزَامِهِمْ هَذَا، إِذْ هِيَ حَالُ آبَائِهِمْ. وَقُوَّةُ أَلْفَاظِ هَذِهِ الْآيَةِ تُعْطِي إِبْطَالَ التَّقْلِيدِ، وَنَظِيرُهَا: "وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا" الْآيَةَ . وَهَذِهِ الْآيَةُ وَالَّتِي قَبْلَهَا مُرْتَبِطَةٌ بِمَا قَبْلَهُمَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَنْ جَهَالَةِ الْعَرَبِ فِيمَا تَحَكَّمَتْ فِيهِ بِآرَائِهَا السَّفِيهَةِ فِي الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ، فَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ أَمْرٌ وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ فَاتَّبَعُوهُمْ فِي ذَلِكَ، وَتَرَكُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَأَمَرَ بِهِ فِي دِينِهِ، فَالضَّمِيرُ فِي "لَهُمُ" عَائِدٌ عَلَيْهِمْ فِي الْآيَتَيْنِ جَمِيعًا .
ولقد ذَمِّ اللَّهِ تَعَالَى الْكُفَّارَ بِاتِّبَاعِهِمْ لِآبَائِهِمْ فِي الْبَاطِلِ، وَاقْتِدَائِهِمْ بِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ . وَهَذَا فِي الْبَاطِلِ صَحِيحٌ، أَمَّا التَّقْلِيدُ فِي الْحَقِّ فَأَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَعِصْمَةٌ مِنْ عِصَمِ الْمُسْلِمِينَ . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِهِ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ، أَمَّا جَوَازُهُ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ فَلاخلاف . فالتَّقْلِيدُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ حَقِيقَتُهُ قَبُولُ قَوْلٍ بِلَا حُجَّةٍ، وَعَلَى هَذَا فَمَنْ قَبِلَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي مُعْجِزَتِهِ يَكُونُ مُقَلِّدًا، وَأَمَّا مَنْ نَظَرَ فِيهَا فَلَا يَكُونُ مُقَلِّدًا . وَقِيلَ: هُوَ اعْتِقَادُ صِحَّةِ فُتْيَا مَنْ لَا يُعْلَمُ صِحَّةَ قَوْلِهِ . وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ قِلَادَةِ الْبَعِيرِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: قَلَّدْتُ الْبَعِيرَ إِذَا جَعَلْتَ فِي عُنُقِهِ حَبْلًا يُقَادُ بِهِ، فَكَأَنَّ الْمُقَلِّدَ يَجْعَلُ أَمْرَهُ كُلَّهُ لِمَنْ يَقُودُهُ حَيْثُ شَاءَ، وَكَذَلِكَ قَالَ شَاعِرُهُمْ:
وَقَلِّدُوا أَمْرَكُمْ لِلَّهِ دَرُّكُمْ ..................... ثَبْتَ الْجَنَانِ بِأَمْرِ الْحَرْبِ مُضْطَلِعَا
فالتَّقْلِيدُ لَيْسَ طَرِيقًا لِلْعِلْمِ وَلَا مُوَصِّلًا لَهُ، لَا فِي الْأُصُولِ وَلَا فِي الْفُرُوعِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ وَالْعُلَمَاءِ . أماالْعَامِّيِّ الَّذِي لَا يَشْتَغِلُ بِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ أُصُولِهَا لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ فِيمَا لَا يَعْلَمُهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ أففرضُه أنْ يَقْصِدَ أَعْلَمَ مَنْ فِي زَمَانِهِ وَبَلَدِهِ فَيَسْأَلُهُ عما يغرض له فَيَمْتَثِلُ فتواه فيها لقوله تعالى: "فَاسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"، وَعَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي أَعْلَمِ أَهْلِ وَقْتِهِ بِالْبَحْثِ عَنْهُ، حَتَّى يَقَعَ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ مِنَ الْأَكْثَرِ مِنَ النَّاسِ . وَعَلَى الْعَالِمِ أَيْضًا فَرْضُ أَنْ يُقَلِّدَ عَالِمًا مِثْلَهُ فِي نَازِلَةٍ خَفِيَ عَلَيْهِ فِيهَا وَجْهُ الدَّلِيلِ وَالنَّظَرِ، وَأَرَادَ أَنْ يُجَدِّدَ الْفِكْرَ فِيهَا وَالنَّظَرَ حَتَّى يَقِفَ عَلَى الْمَطْلُوبِ .
وقد أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى إِبْطَالِ التَّقْلِيدِ فِي الْعَقَائِدِ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وإنا على آثارهم مقتدون" . فَذَمَّهُمْ بِتَقْلِيدِهِمْ آبَاءَهُمْ وَتَرْكِهِمُ اتِّبَاعَ الرُّسُلِ، كَصَنِيعِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فِي تَقْلِيدِهِمْ كُبَرَاءَهُمْ وَتَرْكِهِمُ اتِّبَاعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دِينِهِ، وَلِأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ تَعَلَّمُ أَمْرِ التَّوْحِيدِ وَالْقَطْعُ بِهِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وقَالَ على لسان نَبِيِّهِ: "قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ" ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصلاة السَّلَامُ: "فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ" الْآيَةَ . فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْهُدَى فِيمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ . ألَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَثْنَى عَلَى نبيه يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْقُرْآنِ حَيْثُ قَالَ: "إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ . وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ" . فَلَمَّا كَانَ آبَاؤُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَنْبِيَاءَ مُتَّبِعِينَ لِلْوَحْيِ وَهُوَ الدِّينُ الْخَالِصُ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ، كَانَ اتِّبَاعُهُ آبَاءَهُ مِنْ صِفَاتِ الْمَدْحِ . وَلَمْ يَجِئْ فِيمَا جَاءُوا بِهِ ذِكْرَ الْأَعْرَاضِ وَتَعَلُّقَهَا بِالْجَوَاهِرِ وَانْقِلَابَهَا فِيهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَا هُدَى فِيهَا وَلَا رُشْدَ فِي وَاضِعِيهَا . وَإِنَّمَا ظَهَرَ التَّلَفُّظُ بِهَا فِي زَمَنِ الْمَأْمُونِ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ لَمَّا تُرْجِمَتْ كُتُبُ الْأَوَائِلِ وَظَهَرَ فِيهَا اخْتِلَافُهُمْ فِي قِدَمِ الْعَالَمِ وَحُدُوثِهِ . وَاخْتِلَافُهُمْ فِي الْجَوْهَرِ وَثُبُوتِهِ، وَالْعَرَضِ وَمَاهِيَّتِهِ، فَسَارَعَ الْمُبْتَدِعُونَ وَمَنْ فِي قَلْبِهِ زَيْغٌ إِلَى حِفْظِ تِلْكَ الِاصْطِلَاحَاتِ، وَقَصَدُوا بِهَا الْإِغْرَابَ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، وَإِدْخَالَ الشُّبَهِ عَلَى الضُّعَفَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ . فَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ ظَهَرَتِ الْبِدْعَةُ، وَصَارَتْ لِلْمُبْتَدِعَةِ شِيعَةٌ، وَالْتَبَسَ الْأَمْرُ عَلَى السُّلْطَانِ، حَتَّى قَالَ الْأَمِيرُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَجَبَرَ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَضُرِبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ على ذلك .
فَانْتُدِبَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ كَالشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ كُلَّابٍ وَابْنِ مُجَاهِدٍ وَالْمُحَاسِبِيِّ وَأَضْرَابِهِمْ، فَخَاضُوا مَعَ الْمُبْتَدِعَةِ فِي اصْطِلَاحَاتِهِمْ، ثُمَّ قَاتَلُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ بِسِلَاحِهِمْ . وَكَانَ مَنْ دَرَجَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُتَمَسِّكِينَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مُعْرِضِينَ عَنْ شُبَهِ الْمُلْحِدِينَ، لَمْ يَنْظُرُوا فِي الْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ، عَلَى ذَلِكَ كَانَ السَّلَفُ . وَمَنْ نَظَرَ الْآنَ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ حَتَّى يُنَاضِلَ بِذَلِكَ عَنِ الدِّينِ فَمَنْزِلَتُهُ قَرِيبَةٌ مِنَ النَّبِيِّينَ.
قوله: {بَلْ نَتَّبِعُ} بل: هنا للإِضرابِ عن الأول، أي: لا نَتَّبعُ ما أَنْزَلَ اللَّهُ، وليس بخروجٍ من قصةٍ إلى قصةٍ يعني بذلك أنه إضرابُ إبطالٍ لا إضرابُ انتقالٍ، وعلى هذا فيقالُ: كلُّ إضرابٍ في القرآنِ فالمرادُ به الانتقالُ من قصةٍ إلى قصةٍ إلاَّ في هذه الآية، وإلاَّ في قولهِ: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه بَلْ هُوَ الحق} السجدة: 3 فإنه محتمل للأمرين فإن اعتبرْتَ قوله: "أم يقولون افتراه" كان إضرابَ انتقالٍ، وإن اعتبرْتَ "افتراه" وحدَه كان إضرابَ إبطالٍ .
قوله: {أَلْفَيْنَا} ألفى: متعدِّيةٌ إلى مفعولٍ واحدٍ، لأنها بمعنى "وَجَدَ" التي بمعنى أصابَ، فعلى هذا يكونُ "عليه" متعلِّقاً بقولِهِ "أَلْفينَا" . والثاني: أنها متعدِّية إلى اثنين، أولُهما "آباءَنا" والثاني: "عليه"؛ فَقُدِّمَ على الأولِ . وقيل هي محتملةٌ للأمرين، أعني كونَها متعديةً لواحدٍ أو لاثنين ولامُ "أَلْفَيْنَا" واوٌ لأنَّ الأصلَ فيما جُهِلَ من اللاماتِ أنْ يكونَ واواً يعني فإنَّه أوسعُ وأكثرُ فالردُّ إليه أَوْلَى .
قوله: {أَوَلَوْ} الهمزةُ للإِنكار، وأمَّا الواو ففيها قولان، أحدُهما: أنها واوُ الحالِ، والثاني أنها للعطفِ .
قوله: {شَيْئاً} فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ به، فَيَعُمُّ جميعَ المعقولاتِ لأنها نكرةٌ في سياقِ النفي، ولا يجوزُ أن يكونَ المرادُ نَفيَ الوحدةِ فيكونَ المعنى: لا يعقلون شيئاً بل أشياءَ . والثاني: أن ينتصبَ على المصدريةِ، أي: لا يَعْقِلُون شيئاً من العقلِ . وقَدَّمَ نفيَ العقلِ على نفيِ الهدايةِ؛ لأنه تصدرُ عنه جميعُ التصرفاتِ .
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
قد تكلم المفسرون في هذا التمثيل البليغ، فقال بعضهم: إن ذلك التمثيل هو تمثيل لدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - والذين كفروا كمثل الراعي الذي يرعى غنمه، فينعق: أي فيصيح بالغنم التي لَا تسمع إلا دعاءً ونداءً زاجراً لينتقل بهم من كلأ إلى كلأ، ولكن هذا التشبيه لَا يليق بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها لَا تسمى بهذا الاسم وهو النعيق .
وقال بعضهم: إنّ ذلك تشبيهٌ للذين كفروا في دعوتهم إلى أصنامهم التي لا تملك نفعاً ولا ضراً، كمثل الراعي الذي ينادي غنماً لَا تسمع إلاّ دعاءً ونداءً ما يزجره في الانتقال من كلأ إلى كلأ، وهذا تشبيه حسن في ذاته، ولكن القرآن نسق واحد في البيان تأخذ كلماته بعضُها بحُجُزِ بعض، وربّما لَا يتقارب هذا التفسير مع قوله بعد ذلك "صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ" لأ نّ هذه أوصاف للكافرين وليست أوصافا للغنم .
بقي التخريج الثالث للمثل وهو بأن يشبه الذين كفروا وما معهم من غنم يرعونها، يشبهون بالبهائم التي تنعق بأن تصيح بما لَا يسمع إلاّ دعاءً إن كانوا في كرب، ونداءً إن كانوا بعيداً .
والكافرون مع غنمهم مثلهم كناعق ينعق بما لَا يسمع إلاّ دعاءً ونداءً، فأصوات الغنم تتبادل بنعيق لَا يفهم، وبصياح مجاوب للنداء، فالجميع يتصايح بالنعيق، والجميع لَا يفهم إلاّ دعاءً ونداءً.
ولذا صح أن يوصف المشركون بالأوصاف التي ذكرها الله عنهم، فقال "صمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ" أي أنهم في عدم سماعهم للحقّ الذي دُعوا إليه كالصمِّ الذين لَا يسمعون، وهو تشبيهُ حالِهم المعنويّة في عدم سماعِهم دعوةَ الحقّ ـ إذا نادى المنادي به ـ بحال الأصمّ الذي لَا يسمع شيئاً، وفي عدم نطقهم بالحق، واستجابتهم له بحال الأبكم الذي لَا يتكلم. وشبه عدم إدراكهم الحقّ الذي بدت معالمُه، وظهر نورُه بحال الأعمى الذي لَا يبصر "فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصّدُورِ" .
وقد ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله: "لا يَعْقِلُونَ" ما يُدْعون إليه، ويتفكرون فيه ويَبدون وكأنّهم لم يسمعوه، ولا يفكرون في الاستجابة بالإذعان والتسليم ولا يستضيئون بنوره فمنهم ـ إذاً ـ مَنْ قال: معناها أنَّ المَثَلَ مضروبٌ بتشبيهِ الكافِرِ بالناعِقِ . ومنهم مَنْ قالَ: هو مضروبٌ بتشبيهِ الكافر بالمنعوق به . ومنهم مَنْ قال: هو مضروبٌ بتشبيهِ الداعي والكافرِ بالناعقِ والمنعوقِ به . فهذه أربعةُ أقوالٍ .
فعلى القولِ الأولِ يكون التقديرُ: "وَمَثَلُ الذين كفروا في قلةِ فَهْمِهِمْ كمثلِ الرعاةِ يُكَلِّمون البُهْمَ، والبُهْمُ لا تَعْقِلُ شيئاً". وقيلَ: يكون التقديرُ: ومثلُ الذين كفروا في دعائِهم آلهتَهم التي لا تفقَه دُعَاءَهم كمَثَلِ الناعِقِ بغنمِهِ لا ينتفعُ من نعيقِهِ بشيءٍ، غيرَ أنَّه في عَناءٍ، وكذلك الكافرُ ليس له من دعائِهِ الآلهةَ إلا العَناءُ . إلاَّ أَنَّ قولَه: {إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً} لا يساعدُ على هذا الفهم لأنَّ الأصنامَ لا تَسْمَعُ شيئاً . فكما أنّ المنعوق به لا يسمع إلاّ دعاءً ونداءً فكذلك مدعُوُّ الكافرِ من الصنمِ، والصنَمُ لا يسمع، والتشبيهُ وَقَعَ في مُطْلَقِ الدعاءِ لا في خصوصياتِ المدعوِّ، فتشبيه الكافرُ في دعائه الصنمَ بالناعِقِ بالبهيمةِ لا في خصوصياتِ المنعوقِ به .
فعلى هذا يكونُ فاعلٌ "يسمع" ضميراً عائداً على الذي يَنْعِقُ، ويكونُ العائدُ على "ما" الرابطُ للصلةِ بالموصولِ محذوفاً لفهمِ المعنى، تقديرُه: بما لا يَسْمَعُ منه، وليس فيه شرطُ جوازِ الحذفِ فإنَّه جُرَّ بحرفٍ غيرِ ما جُرَّ به الموصولُ، وأيضاً فقد اختَلَفَ متعلَّقاهما، إلاّ أنّه قد وَرَدَ ذلك في كلامهم. ويكونُ "مثل" مبتدأً و"كمثلِ" خبرَه، وليس في الكلام حذفٌ إلا جهةُ التشبيهِ .
وقيل التقديرُ: وَمَثَلُ الذين كفروا في عَدَم فَهْمِهِم عن اللِّهِ ورسولِهِ كَمَثَلِ المنعوقِ به من البهائِمِ التي لا تَفْقَهُ من الأمرِ والنهي غيرَ الصوتِ، فيُرادُ بالذي يَنْعقُ الذي يُنْعَقُ به ويكونُ هذا من القلبُ، وهذا: كما تقول: دَخَلَ الخاتَمُ في يدي والخِفُّ في رِجْلِي . إلا أن القلبَ لا يقعُ على الصحيح إلا في ضرورةٍ .
وهذه الأقوالُ كلُّها إنّما هي على القولِ بتشبيهِ مفردٍ بمفردٍ ومقابلةِ جزءٍ من الكلام السابقِ بجزءٍ من الكلامِ المشبَّهِ به، أمَّا إذا كانَ التشبيهُ من بابِ تشبيهِ جملةٍ بجملةٍ فلا يُنْظَرُ في ذلك إلى مقابلةِ الألفاظِ المفردةِ، بل يُنْظَرُ إلى المعنى، فلما شَبَّه قصةَ الكافرين في إعراضِهم عن الدَّاعي لهم إلى الحقِّ بقصةِ الناعقِ قدَّم ذكرَ الناعقِ لينبني عليه ما يكونُ منه ومن المنعوقِ به .
والكاف في "كمثل" ليست بزائدةً خلافاً لبعضهم؛ لأنَّ الصفةَ ليست عينَ الصفةِ الأخرى فلا بُدَّ من الكافِ، حتى إنه لو جاءَ الكلامُ دونَ الكافِ اعتقادنا وجودَها تقديراً تصحيحاً للمعنى .
وقد تلخَّصَ مِمَّا تقدَّم أنَّ "مثلُ الذين" مبتدأٌ ، و"كمثل الذي" خبرُه: إمَّا مِنْ غيرِ اعتقادِ حذفٍ، أو على حَذْفِ مضافٍ من الأولِ، أي: مَثَلُ داعي الذينَ، أو من الثاني أي: كمثلِ بهائِمِ الذي، أو على حَذْفَيْنِ: حَذَفَ من الأول ما أثبتَ نظيرَه في الثاني، ومِن الثاني ما أثبتَ نظيرَه في الأولِ كما تقدَّم تحريرُ ذلك كله . والنَّعِيقُ: دعاءُ الراعي وتصويتُهُ بالغنم، قال:
فانْعَقْ بضَأْنِك يا جريرُ فإنَّما .................... مَنَّتْكَ نفسُك في الخَلاءِ ضَلالا
يقال: نَعَقَ بفتح العين ينعقِ بكسرها، والمصدرُ: النَّعيقُ والنُّعاقُ والنَّعْقُ، وأمّا "نَعَقَ الغرابُ" فبالمعجمة .
قوله: {إِلاَّ دُعَآءً} هذا استثناءٌ مفرَّغٌ لأنَّ قبلَهُ "يَسْمَعُ" ولم يأخُذْ مفعولَه . وهل هذا من بابِ التكرارِ لمَّا ختلفَ اللفظُ، فإنَّ الدعاءَ والنداءَ واحدةٌ؟ والجوابُ أنه ليس كذلك، فإنَّ الدعاءَ طلبُ الفعلِ والنداءَ إجابةُ الصوتِ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
(172)
كان النداء إلى الناس الذين كان منهم من اتبع خُطواتِ الشيطان، أمّا الآن فالخطابُ للمؤمنين خاصّةً، وهم لَا يتَّبِعون خُطواتِ الشيطان إنّما يَتّبعون شرعَ الرحمن .
والأمرُ هنا للإباحة، والإباحة بالجِزءِ، أيْ لنا أنْ نتخيّرَ من الطيِّبات، وعلينا أنْ نتناولَ ما نُحِبُّ، مِن غيرِ أنْ نُحَرِّمَ على أنفسِنا شيئاً كما قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ"، فالأكلُ من الطيِّباتِ فرضٌ، فهو وإن كان مباحاً بالجزء مطلوبٌ بالكل، ليس لأحدٍ أنْ يترُكَ الأكلَ من الطيِّباتِ لأنَّ يُؤدّي إلى الهلاك .
وهذا المعنى هو المناسب لهذا المقام وأولى من حمله على الحلال الطاهر من الشبهة لأن المقامَ مقامُ الامتنان بما رزقه من لذائذ الإحسان، وطلب شكر المنعم المنان . والطيّبُ له ثلاثة معان: المُستَلَذُّ طبعاً والمُباحُ شرعاً والطاهرُ وضعاً . وفي الآيةِ إشارةٌ إلى أنّه لا بأس بالتفكُّه بأنواع الفواكه لأنّها من الطيبات، وتركُه أفضلُ لئلّا يدخلَ تحت قوله تعالى: {أذهبتم طيِّباتِكم فى حيوتكم الدنيا} والأمر بأكل الطيّباتِ لفائدتين . إحداهما أنْ يكون أكلُهم بالأمر لا بالشهوة والطبع فيمتازون عن الحيوانات ويخرجون من حجاب ظلمة الطبع بنور الشرع . والثانى ليثيبهم بالإتمار بأمره سبحانه .
والطيبات هي ما تستطيبه النفوس، ويكون حلالاً، والأكلُ منه مطلوبٌ لتقوى الأجسامُ ولتقوى العقول والنفوس، وللتقوّي على الجهاد في سبيل الله وعلى طاعته وعبادته، وحرّم اللهُ الخبائث التي تكون في ذاتها مستقذرة كالخنزير والميتة، أو التي تكون من كسب حرام كالربا والسُحت، وأكلِ مالِ الناس بالباطل . وإنَّ من أعظمِ القُرُباتِ بعد تقوى الله، طلبُ الطيّباتِ الحلال . وقد روى الإمامُ مسلمٌ أنَّ رسولَ الله - صلى اللهُ عليه وسلَّم - قال: "إنَّ اللهَ ليرضى من العبدِ أنْ يأكُلَ الأَكلةَ فيَحْمَدُه عليها أو يشرب الشُرْبةَ فيَحْمَدُه عليها" .
ولقد أردف الله سبحانه وتعالى الأمرَ بالأكلِ من الطيّبات بالأمرِ بالشكر؛ لأنَّ هذه الإباحةَ للطيّبات نِعْمَةٌ، والنعمةُ تُوجبُ شكرَ المنعمِ، الذي أباح ومَكَّنَ . والشُكرُ يكون بتركِ المعاصي ولزومِ الطاعات والتقوى والتقرّب إليه سبحانه وتعالى، وطلبِ رضوانِه، {واشكروا لله} الذي رزقكموها وأحلها لكم والشكر ـ أيضاً ـ صرفُ العبدِ جميعَ أعضائه الظاهرةِ والباطنةِ إلى ما خُلِقتْ لأجله، وهذا الأمرُ ليس أمرَ إباحةٍ بل هو للإيجاب إذ لا شكّ في أنّه يجب على العاقل أنْ يَعتقدَ بقلبه أنّ مَن أوجده وأنعمَ عليه بما لا يحصى من النعم الجليلة مستحقٌّ لغاية التعظيم وأنْ يُظهِرَ ذلك بلسانِه وبسائر جوارحه {إنْ كنتم إيّاه تعبدون} أى إنْ كنتم مؤمنين بالله ومخلصين الله بالعبادة .
ووعد على الشكر زيادة النعم فقال: (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ. . .)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الطاعمُ الشاكرُ بمنزلةِ الصائمِ الصابرِ" .
وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ هُنَا بِالذِّكْرِ تَفْضِيلًا. وَالْمُرَادُ بِالْأَكْلِ الِانْتِفَاعُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ . وَقِيلَ: هُوَ الْأَكْلُ الْمُعْتَادُ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ" وَقَالَ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ" ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ."
قولُه تعالى: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ} مفعولُ "كُلوا" محذوفٌ، أي: كُلوا رزقَكم . وفي "مِنْ" حينئذٍ وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ لابتداءِ الغايةِ فتتعلَّقَ بـ "كلوا" .
والثاني: أَنْ تكونَ تبعيضيَّة فتتعلَّق بمحذوفٍ إذ هي حالٌ من ذلك المفعولِ المقدَّرِ، أي: كُلوا رزقَكم حالَ كونِهِ بعضَ طيباتِ ما رزقناكم . ويجوزُ أن تكونَ "مِنْ" زائدةً في المفعولِ به، أي: كلوا طيباتِ ما رزقناكم.
و"إنْ كُنْتُمْ" شرطٌ وجوابُهُ محذوفٌ، أي: فاشكروا له . وقولُ مَنْ قال مِنَ الكوفيين إنَّها بمعنى "إذ" ضعيفٌ .
و"إياه" مفعولٌ مقدَّمٌ ليُفيدَ الاختصاصَ، أو لكونِ عامِلِه رأسَ آيةٍ، وانفصالُهُ واجبٌ ، ولأنه متى تأخَّر وَجَبَ اتِّصالُه إلاّ في ضرورةٍ كقولِهِ:
إليك حتى بَلَغَتْ إيَّا كا .....................................................................
وفي قولِهِ: {واشكروا للَّهِ} التفاتٌ من ضميرِ المتكلّم إلى الغَيْبَةِ، إذ لو جَرَى على الأسلوبِ الأولِ لقال: "واشكرونا" .
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(173)
بعد أن أمرنا الله تعالى في الآية التي تقدمت بأكل الطيبات التي هي الحلالات، بيّنَ لنا في هذه الآية أنواعاً من المحرمات فقال "إنما" وهي كلمة موضوعة للحصر تثبت ما تناوله الخطاب وتنفي ما عداه، وقد حصرت ههنا التحريم في الأمور المذكورة بعدها، أي ما حرّمَ عليكم إلاّ الميتةَ وهي كل ما فارقه الروح من غير ذكاة .
وقد خصّص هذا العموم بمثل حديث: (أُحِلَّ لنا ميتتان ودمان، فأمّا الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالطِحالُ والكبد) أخرجه أحمد وابن ماجة والدارقطني والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر، فالمراد بالميتة هنا ميتة البَرِّ لا ميتةُ البحر .
وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى جواز أكل جميع حيوانات البحر حيِّها وميِّتها، وقال بعض أهل العلم أنّه يَحرُم من حيوانات البحر ما يحرم شبهُه في البَرِّ، واستثنى بعضُهم في خنزير الماء، وقال بعضهم: أنا أتقيه ولا أراه حراماً . والدم هو الجاري السائل وكانت العرب تجعل الدم في المصارين ثم تشويه وتأكله، فحرمه الله تعالى .
وقد اتّفق العلماءُ على أنَّ الدَمَ حرامٌ، وفي الآية الأخرى {أو دماً مسفوحاً} فيُحمَلُ المُطلَق على المقيَّدِ لأنّ ما خُلِطَ باللّحمِ غيرُ محرَّمٍ بالإجماع . وقد روت أمُّ المؤمنينَ السيدةُ عائشة رضي الله عنها أنها كانت تطبخ اللّحمَ فتعلو الصُفرةُ من الدمِ على البَرْمَةِ من اللحم، فيأكُلُ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا ينكره .
وأمّا لحم الخنزيرُ فظاهرُ هذه الآيةِ والآيةِ الأُخرى، أعني قولَه تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلّا أنْ يكون ميتةً أو دَمَاً مسفوحاً أوْ لحمَ خِنزير} أنّ المحرّمَ إنّما هو اللحمُ فقط، وقد أجمعت الأمّة على تحريم شحمِهِ كما حكاه القُرطبيُّ في تفسيرِه، وقد ذكرت جماعةٌ من أهل العلم أنّ اللحمَ يَدخل تحتَه الشحمُ، وحكى القرطبي الإجماع أيضاً على أن جملة الخنزير محرَّمةٌ إلّا الشعرَ فإنّه تجوز الخِرازةُ به، وقيل: أراد بلحمه جميع أجزائِه، وإنّما خصّ اللحم بالذكر لأنّه المقصودُ لذاتِه بالأكل، واختلفوا في نجاسته فقال الجمهور بأنّه نجس، وقال مالك بأنّه طاهرٌ وكذا كلُّ حيوانٍ عندَه، لأنّ علّةَ الطهارة هي الحياة، وللشافعيِّ قولان في وُلوغِ الخِنزير {الجديد} أنّه كالكلب و{القديم} يكفي فيه غسلةٌ واحدة .
والآيةُ رَدٌّ على من استحل هذه الأربعةَ وحرّمَ الحلالَ غيرَها كالسوائب والبحيرة وما بعدها في الآية وإن كان حرم غيرها من الأمور المذكورة في أول المائدة .
{وما أهل به لغير الله} يعني ما ذُبِحَ للأصنام والطواغيت وصيح في ذبحه لغير الله، وأصل الإهلالِ رفعُ الصوت ـ كما تقدم ـ والمرادُ هنا ما ذُكرَ عليه اسمُ غيرِ الله تعالى .
قال العلماءُ لو أنّ مسلماً ذَبَحَ ذبيحةً وقصد بذبحها التقرُّبَ إلى غيرِ الله صار مرتدّاً، وذبيحتُه ذبيحةُ مرتدّ .
وأجازوا ذبيحة النصارى لعموم قوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: بأنها لا تحلُّ إذا ذكرَ اسمُ السيد المسيح عند ذبحها، والحُجّةُ فيه أنّهم إذا ذبحوا على اسم المسيح فقد أهلوا به لغير الله فوجب أن يحرم، ورُوي عن عليٍّ رضي الله عنه أنه قال: إذا سمعتم اليهود والنصارى يُهِلّونَ لغيرِ اللهِ فلا تأكلوا وإذا لم تسمعوهم فكلوا، فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون .
{فمن اضطُرَّ} إلى شيء من هذه المحرمات ـ والمُضطرُّ هو المكلف بالشيء المُلْجأُ إليه المُكرَهُ عليه، والمُرادُ هنا مَن خاف التلف، والمضطر إما بإكراه فيبيح ذلك إلى زوال الإكراه، أو يجوع في مخمصة، فإنّ كانت دائمة فلا خلاف في جوازِ الشِبَعِ منها، وإن كانت مؤقتةً فقال الشافعي: يأكل ما يَسُدُّ بِهِ الرمق، وبه قال أبو حنيفة، أو يأكل قدْرَ الشِبَعِ، وبه قال مالك ـ فأكل {غيرَ باغ} بالاستئثار على مضطر آخر أو على الوالي وأصل البغيِ الفسادُ {ولا عاد} والمراد بالباغي من يأكل فوق حاجته، والعادي من يأكل هذه المحرمات وهو يجدُ عنها مندوحةً وبُلْغَةً، وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: باغ في الميتة وعاد في الأكل، وقيل غير باغ على المسلمين ولا معتد عليهم، فيدخل في الباغي والعادي قاطع السبيل والخارج على السلطان والمفارق للجماعة والأئمة، والمفسد في الأرض وقاطع الرحم، {فلا إثم عليه} في تناوله ولا حرج، ومن أكله وهو غيرُ مضطرٍ فقد بغى واعتدى {إن الله غفور} لمن أكل من الحرام {رحيم} به إذ أحلَّ له الحرامَ في الاضطرار .
روى أبو داود عن جابر بن سَمُرة أنّ رجلاً نزل الحَرّةَ ومعه أهله وولده، فقال رجل: إن ناقةً لي ضَلّت فإنْ وجدتَها فأمسِكْها؛ فوجدَها فلم يجد صاحبها فمرِضتْ، فقالت امرأته: انحرْها، فأبى فَنَفَقَت . فقالت: اسلخْها حتى نُقَدّدْ لحمَها وشحمَها ونأكله، فقال: حتى أسال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فسأله، فقال: "هل عندك غنىَّ يغنيك" قال لا، قال: "فكلوها" قال: فجاء صاحبُها فأخبره الخبر؛ فقال: أفلا كنت نحرتَها! فقال: أستحييت منك .
قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة} الجمهُور قرؤوا "حَرَّم" مشدَّد مبنياً للفاعِلِ، "الميتةَ" نصباً ، على أنَّ "ما" كافةٌ مهيِّئَةٌ لـ "إِنَّ" في الدخولِ على هذه الجملَةِ الفعليةِ، وفاعلُ "حَرَّم" ضَمِيرُ اللَّهِ تعالى . و"الميتةَ" مفعولٌ به . وقرأ ابنُ أبي عبلة برفع "الميتة" وما بعدَها . وتخريجُ هذه القراءةِ سهلٌ ، وهو أن تكونَ "ما" موصولةً، و"حَرَّمَ" صلتُها، والفاعلُ ضميرٌ اللَّهِ تعالى، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ، تقديرُهُ: حَرَّمه، والموصولُ وصلتُه في محلِّ نصبٍ اسمُ "إنَّ" و"الميتةُ" خبرُها .
وقرأ أبو جعفر: "حُرَّم" مبنياً للمفعولِ، فتحتملُ "ما" في هذه
القراءةِ وجهين، أحدُهما: أن تكونَ "ما" مهيِّئَةً، و"الميتةُ" مفعولُ ما لم يُسَمَّ فاعلُه والثاني: أن تكون موصولةً، فمفعولُ "حَرَّمَ" القائم مقامَ الفاعلِ ضميرٌ مستكنٌ يعود على "ما" الموصولةِ، و"الميتةُ" خبرُ "إنَّ" .
وقرأ أبو عبدِ الرحمن السُّلَّمي: "حَرُمَ" بضمِّ الراء مخففةً، و"الميتةُ" رفعاً و"ما" تحتملُ الوجهين أيضاً، فتكونُ مهيئةً، و"الميتةُ" فاعلٌ بحَرُم، أو موصولةً، والفاعلُ ضميرٌ يعودُ على "ما"، وهي اسمُ "إنَّ"، و"الميتةُ" خبرُها .
والجمهورُ على تخفيفِ "المَيْتَة" في جميع القرآنِ، وأبو جَعْفَرٍ بالتشديدِ وهو الأصل، وهذا كما تقدَّم في أنَّ "المَيْت" مخفَّفٌ من "الميِّت" وأن أصلَه: مَيْوِت، وهما لغتان، وسيأتي تحقيقُ ذلك عند قولِهِ: {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} الآية: 27 في آلِ عمران . ويُحْكَى عن قدماءِ النحاة أن "المَيْت" بالتخفيف مَنْ فارقَتْ روحُهُ جسدَه، وبالتشديد مَنْ عايَنَ أسبابَ الموتِ ولم يَمُتْ . وقيل أنّ ما قد ماتَ يجوز أن يُقالا فيه (بالتشديد والتخفيف)، وما لم يَمُتْ بعدُ لا يُقال فيه بالتخفيفِ، ولم يَقْرَأ أحدٌ بتخفيفِ ما لم يَمُتْ إلاّ ما رَوَى البزّيّ عن ابنِ كثير: {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} إبراهيم: 17 . وأمَّا قولُ الشاعر:
إذا ما ماتَ مَيْتٌ من تميمٍ ........................... فَسَرَّكَ أن يعيشَ فَجِىءْ بِزادِ
فقد حُمِل على مَنْ شارَفَ الموتَ، وحَمْلُه على الميتِ حقيقةً أبلغُ في الهجاء .
وأصل "مَيِّتة": مَيْوِتَة، فَأُعِلَّتْ بقَلْبِ الواوِ ياءً وإدغامِ الياءِ فيها، وقال الكوفيّون: أصلُه: مَوِيت، ووزنُه فَعيل .
واللحمُ معروفٌ، وجمعُه لُحوم ولُحْمان، يُقال: لَحُمَ الرجلُ بالضم لحامةً فهو لَحِيم، أي: غَلُظَ، ولَحِمَ بالكسر يَلْحَم بالفتح فهو لَحِم: اشتاق إلى اللَّحْم وألحمَ الناسُ فهو لاحِمٌ، أي: أَطعَمَهم اللحمَ، وأَلْحَمَ كثُر عنده اللحمُ .
والخنزير حيوانٌ معروفٌ، وفي نونِه قولانِ؛ أصحُّهما أنَّها أصليةٌ ووزنُه فِعْليل كغِرْبيب . والثاني: أنها زائدةٌ اشتقُّوه من خَزَر العَيْنِ أي: ضيقها لأنه كذلك يَنْظُر . وقيل: الخَزَرُ النظرُ بمؤخَّرِ العَيْنِ، يقال: هو أَخْزَرُ بيِّنُ الخَزَرِ .
قوله: {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ} ما: موصولةٌ بمعنى الذي، ومَحَلُّهما: إمَّا النصبُ وإمَّا لرفعُ عطفاً على "الميِّتة"، والرفعُ: إمَّا على خبر إنَّ، وإمَّا على الفاعلية على حَسَبِ ما تقدَّم من القراءاتِ . و"أُهِلَّ" مبنيٌّ للمفعول، والقائمُ مقامَ الفاعلِ هو الجارُّ والمجرورُ في "به"، والضميرُ يعودُ على "ما"، والباءُ بمعنى "في" . ولا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي: في ذَبْحِه، لأنَّ المعنى وما صَحَّ في ذَبْحِه لغَيْرِ اللهِ . والإِهلالُ: مصدرُ أَهَلَّ أي: صَرَخَ ورفَع صوتَه ومنه: الهِلال لأنه يُصرَخُ عند رؤيتِه، واستهَلَّ الصبيُّ . قال ابن أحمر:
يُهِلُّ بالغَرْقَدِ رُكْبَانُها ..................................... كما يُهِلُّ الراكبُ المُعْتَمِرُ
وقال النابغة :
أو دُرَّةٌ صَدَفِيَّةٌ غَوَّاصُها ............................. بَهِجٌ متى يَرَها يَهِلُّ ويَسْجُدُ
وله أيضاً:
تَضْحَكُ الضَّبْعُ لقتلى هُذَيْلٍ .............................. وترى الذئبَ لها يَسْتَهِلُّ
قوله: {فَمَنِ اضطر} في "مَنْ" وجهان ، أحدُهما: أن تكونَ شرطيةً . والثاني: أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي، فعلى الأولِ يكونُ "اضطُرَّ" في محلِّ جَزْم بها .
وقوله: {فلا إِثْمَ} جوابُ الشرطِ، والفاءُ فيه لازمةٌ . وعلى الثاني لا محلَّ لقولِه: "اضطُّرَّ" من الإِعرابِ لوقوعهِ صلةً، ودخَلَتِ الفاءُ في الخبرِ تشبيهاً للموصولِ بالشرطِ . ومحلُّ "فلا إِثْمَ عَلَيْهِ" الجزمُ على الأولِ والرفعُ على الثاني .
والجمهورُ على "اضْطُرَّ" بضمِّ الطاءِ وهي أصلُها، وقرأ أبو جعفر بكسرها لأنَّ الأصل: "اضْطُرِرَ" بكسرِ الراءِ الأولى، فلمّا أُدْغِمَتِ الراءُ في الراءِ نُقِلَت حركتُها إلى الطاءِ بعد سَلْبِها حَرَكَتَها .
وقرأ ابن محيصن: "اطُّرَّ" بإدغام الضادِ في الطاء . وقد تقدَّم الكلامُ في هذه المسألةِ بأشبعَ مِنْ هذا عند قولِه: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار} البقرة: 126 ] .
وقرأ أبو عمرو وعاصمٌ وحمزةٌ بكسرِ نون "مَنْ" على أصلِ التقاءِ الساكنين، وضَمَّها الباقون إتباعاً لضمِّ الثالث . وليس هذا الخلافُ مقصوراً على هذه الكلمةِ، بل إذا التقى ساكنان من كلمتين، وضُمَّ الثالثُ ضَمَّاً لازماً نحو: {وَلَقَدِ استهزىء} الأنعام: 10 و{قُلِ ادعوا} الإسراء: 110 قالتِ اخْرُجْ جرى الخلافُ المذكورُ . إلاَّ أنَّ أبا عمروٍ خرجَ عن أصلِه في {أو} المزمل: 3 و{قل} 110: الإسراء فضمَّهما، وابنَ ذكوان خرجَ عن أصلِه فكسر التنوين خاصة نحو: {مَحْظُوراً انظر} 20-21: الإسراء، واختُلف عنه في: {بِرَحْمَةٍ ادخلوا} الأعراف: 49، واختُلف عنه في: {خَبِيثَةٍ اجتثت} إبراهيم: 26، وسيأتي بيان الحكمةِ في ذلك عند ذكره إنْ شاء الله تعالى .
قوله: {غَيْرَ بَاغٍ} نصبٌ على الحالِ، واختُلِفَ في صاحبها، فالظاهر أنه هو الضميرُ المستتر في "اضطُرَّ"، وجَعَلَه القاضي وأبو بكر الرازي من فاعل فعلٍ محذوفٍ بعد قولِه: "اضطُرَّ"، قالا: تقديرُه: فمَنْ اضطُرَّ فأكلَ غيرَ باغ، كأنّهما قصدا بذلك أنْ يَجْعلاه قيداً في الأكلِ لا في الاضطرارِ .
وقوله: "عادٍ" اسمُ فاعلٍ من عدا يَعْدُو إذا تجاوزَ حَدَّه، والأصلُ:
عادِوٌ، فَقُلبت الواوُ ياءً لانكسارِ ما قبلها كغازٍ من الغَزْو . ولو جاء في
غيرِ القرآن منصوباً عطفاً على موضعِ "غير"جاز" كان يقال: ولا عادياً.
وقد اختلف القُرَّاء في حركةِ التقاء الساكنين مِنْ نحو: "فَمَنِ اضْطُرَّ"، فأبو عمرو وحمزة وعاصم على كسرِ الأولِ منهما، والباقون على الضم إلاّ ما يُسْتثنى لبعضهم . وضابطُ محلِّ اختلافهم: كلُّ ساكنين التقيا من كلمتين ثالثُ ثانيهما مضمومٌ ضمةً لازمةً، نحو: "فَمَنِ اضطُرَّ" و"أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً" المزمل: 3 و"وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ" يوسف: 31 و"قُلِ ادعوا الله" الإسراء: 110 و"أَنِ اعبدوا" المائدة: 117 و"وَلَقَدِ استهزىء" الأنعام: 10 و"محظوراً انظر": وأقول "كلمتين" للاحترازُ من أن يُفْصَلَ بينهما بكلمةٍ أخرى نحو: "إِنِ الحكم" الأنعام: 57 فإنَّ هذا وإنْ صَدَقَ عليه أنَّ الثالثَ مضمومٌ ضماً لازماً؛ إلاّ أنّه قد فُصِلَ بينهما بكلمةٍ أخرى وهي ألـ التعريف . وقلت: "ضمةً لازمةً" للاحترازُ من نحو: "أَنِ امشوا" ص: 26 فإنَّ الشين أصلُها الكسرُ، فَمَنْ كَسَرَ فعلى أصلِ التقاءِ الساكنين، ومَنْ ضَمَّ فللإِتباع .
واسْتُثْنِي لأبي عمروٍ موضعان فضمَّهما: وهما: "قُل ادْعُوا" و"أو انْقُصْ منه"، واسْتُثْنِي لابن ذكوان عن ابن عامر التنوينُ فكسره نحو: "محظوراً انظر"، واختلف عنه في لفظتين: "خَبِيثَةٍ اجتثت" إبراهيم: 26 "بِرَحْمَةٍ ادخلوا الجنة"الأعراف: 49 والمقصودُ بذلك الجمعُ بين اللغتين .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)
قَوْلُهُ تَعَالَى: "إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ" يَعْنِي عُلَمَاءَ الْيَهُودِ كانوا يصيبون من سفلتهم هدايا، فكَتَمُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِحَّةِ رِسَالَتِهِ . وَمَعْنَى "أَنْزَلَ": أَظْهَرَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: "وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ" الانعام: 93 أَيْ سَأُظْهِرُ . وَقِيلَ: هُوَ عَلَى بَابِهِ مِنَ النُّزُولِ، أَيْ مَا أَنْزَلَ بِهِ مَلَائِكَتَهُ عَلَى رُسُلِهِ .
قوله: "وَيَشْتَرُونَ بِهِ" أَيْ بِالْمَكْتُومِ"ثَمَناً قَلِيلًا" يَعْنِي أَخْذَ الرِّشَاءِ. وَسَمَّاهُ قَلِيلًا لِانْقِطَاعِ مُدَّتِهِ وَسُوءِ عَاقِبَتِهِ . وَقِيلَ: لِأَنَّ مَا كَانُوا يَأْخُذُونَهُ مِنَ الرِّشَاءِ كَانَ قَلِيلًا. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ نَزَلتْ فِي أَحبَارِ اليهود فَإِنَّهَا تَتَنَاوَلُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ كَتَمَ الْحَقَّ مُخْتَارًا لِذَلِكَ بِسَبَبِ دُنْيَا يُصِيبُهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى: "فِي بُطُونِهِمْ" إمّا في الحالِ كما هو أصلُ المُضارعِ لأنّهم أكلوا ما يَتَلَبّسُ بالنار، وهو الرِّشا لكونِها عقوبةً لها فيكون في الآية استعارة تمثيلية بأن شبه الهيئة الحاصلة من أكلهم ما يتلبس بالنار بالهيئة المنتزعة من أكلهم النار من حيث إنه يترتب على أكل كل منهما من تقطع الأمعاء والألم ما يترتب على الآخر، فاستعمل لفظ المشبه به في المشبه، وإمّا في المآلِ . وذَكَرَ الْبُطُونَ دَلَالَةً وَتَأْكِيدًا عَلَى حَقِيقَةِ الْأَكْلِ، إِذْ قَدْ يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي مِثْلِ أَكَلَ فُلَانٌ أَرْضِي وَنَحْوِهِ . وَفِي ذكر البطون أيضا تنبيه على جشعهم وَأَنَّهُمْ بَاعُوا آخِرَتَهُمْ بِحَظِّهِمْ مِنَ الْمَطْعَمِ الَّذِي لَا خَطَرَ لَهُ . وَمَعْنَى "إِلَّا النَّارَ" أَيْ إِنَّهُ حَرَامٌ يُعَذِّبُهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، فَسُمِّيَ مَا أَكَلُوهُ مِنَ الرِّشَاءِ نَارًا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي بهِمْ إِلَى النَّارِ .
وَقِيلَ: أَيْ إِنَّهُ يُعَاقِبُهُمْ عَلَى كِتْمَانِهِمْ بِأَكْلِ النَّارِ فِي جَهَنَّمَ حَقِيقَةً . فَأَخْبَرَ عَنِ الْمَآلِ بِالْحَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: "إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا" النساء: 10 أي أن عاقبته تؤول إِلَى ذَلِكَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ" عِبَارَةٌ عَنِ الْغَضَبِ عَلَيْهِمْ وعدمِ الرِّضَا عَنْهُمْ، يُقَالُ: فُلَانٌ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا إِذَا غَضِبَ عَلَيْهِ . وَالمراد أنه سبحانه لا يُكَلِّمُهُمُ بِمَا يحبونه . أما ما هو تقريع لهم وتبكيت فقد جاء في التنزيل: "اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ" المؤمنون: 108 . وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلَا يُرْسِلُ إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ بِالتَّحِيَّةِ . "وَلا يُزَكِّيهِمْ" أَيْ لَا يُصْلِحُ أَعْمَالَهُمُ الْخَبِيثَةَ فَيُطَهِّرُهُمْ . وَقَيلَ: لَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ خَيْرًا ولا يسميهم أزكياء . و"أَلِيمٌ" بِمَعْنَى مُؤْلِمٍ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ شَيْخٌ زَانٍ وَمَلِكٌ كَذَّابٌ وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ) . وَإِنَّمَا خَصَّ هَؤُلَاءِ بِأَلِيمِ الْعَذَابِ وَشِدَّةِ الْعُقُوبَةِ لِمَحْضِ الْمُعَانَدَةِ وَالِاسْتِخْفَافِ الْحَامِلِ لَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْمَعَاصِي، إِذْ لَمْ يَحْمِلْهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَاجَةٌ، وَلَا دَعَتْهُمْ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ كَمَا تَدْعُو مَنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَهُمْ . وَمَعْنَى "لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ" لَا يَرْحَمُهُمْ وَلَا يَعْطِفُ عَلَيْهِمْ .
وإنّ من أعظمِ نعيمِ أهلِ الجَنَّةِ التلذُّذَ بسماع كلامِ الله والنظرَ إلى جمال وجهه تباركت أسماؤه . كما سنبط فيه في مكانه إن شاء الله عند كلامنا على الحسنى وزيادة .
قوله تعالى: {مِنَ الكتاب} في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وفي صاحبِها وجهان، أحدُهما: أنّه العائدُ على الموصولِ، تقديرُه: أنزله اللهُ حالَ كونِه من الكتابِ، فالعاملُ فيه "أَنْزَلَ"، والثاني: أنه الموصولُ نفسه، فالعاملُ في الحالِ "يكتمون" .
قوله: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ} الضميرُ في "به" يُحْتَمَلُ أن يعودَ على "ما" الموصولةِ، وأَنْ يعودَ على الكَتْمِ المفهومِ من قولِه: "يكتمون" وأَنْ يعودَ على الكتابِ، أظهرها أوَّلُها، ويكونُ ذلك على حَذْفِ مضافٍ، أي: يشترون بكَتْمِ ما أَنْزل .
قوله: {إِلاَّ النار} استثناءٌ مفرغٌ؛ لأن قبلَه عاملاً يَطلُبه، وهذا من مجاز الكلام، جَعَل ما هو سببٌ للنار كقولِهم: "أكل فلانٌ الدمَ" يريدون الدِّية التي بسببها الدمُ، قال:
فلو أَنَّ حَيَّاً يقبلُ المالَ فِدْيةً ..................... لَسُقْنا إليه المالَ كالسيلِ مُفْعَما
ولكنْ أبى قومٌ أُصيب أخوهمُ ........ رِضا العارِ واختاروا على اللبنِ الدِّما
وقوله: {فِي بُطُونِهِمْ} يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجه، أظهرُها: أَنْ يتعلَّقَ بقولِه: "يأكلون" فهو ظرفٌ له . والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من النارِ . والثالثُ : أن يكونَ صفةً أو حالاً من مفعول "كُلوا" محذوفاً كما تقدَّم تقريرُه .
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
لَمَّا كَانَ الْعَذَابُ تَابِعًا لِلضَّلَالَةِ وَكَانَتِ الْمَغْفِرَةُ تَابِعَةً لِلْهُدَى الَّذِي اطَّرَحُوهُ دَخَلَا فِي تَجَوُّزِ الشِّرَاءِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: "فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ" مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ- أَنَّ "مَا"
مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ، وَهُوَ مَرْدُودٌ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ، كَأَنَّهُ قَالَ: اعْجَبُوا مِنْ صَبْرِهِمْ عَلَى النَّارِ وَمُكْثِهِمْ فِيهَا .
والمرادُ بالتعجّبِ هنا وفي سائرِ القرآنِ الإِعلامُ بحالهم أنها ينبغي أن يُتَعجَّب منها، وإلا فالتعجُّبُ مستحيلٌ في حَقِّه تعالى . ومعنى "على النار" أي على عَمَل أهلِ النارِ، وهذا من مجازِ الكلام .
وَفِي التَّنْزِيلِ: "قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ" عبس: 17 و"أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ" مريم: 38 . وَبِهَذَا الْمَعْنَى صَدَّرَ أَبُو عَلِيٍّ . قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالرَّبِيعُ: مَا لَهُمْ وَاللَّهِ عَلَيْهَا مِنْ صَبْرٍ، وَلَكِنْ مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى النَّارِ! وَهِيَ لُغَةٌ يَمَنِيَّةٌ مَعْرُوفَةٌ . قَالَ الْفَرَّاءُ: أَخْبَرَنِي الْكِسَائِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي قَاضِي الْيَمَنِ أَنَّ خَصْمَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَيْهِ فَوَجَبَتِ الْيَمِينُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَحَلَفَ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: مَا أَصْبَرَكَ عَلَى اللَّهِ؟ أَيْ مَا أَجْرَأَكَ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: مَا أَشْجَعَهُمْ عَلَى النَّارِ إِذْ يَعْمَلُونَ عَمَلًا يُؤَدِّي إِلَيْهَا. وَحَكَى الزَّجَّاجُ أَنَّ الْمَعْنَى مَا أَبْقَاهُمْ عَلَى النَّارِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا أَصْبَرَ فُلَانًا عَلَى الْحَبْسِ! أَيْ مَا أَبْقَاهُ فِيهِ . وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَمَا أَقَلَّ جَزَعِهِمْ مِنَ النَّارِ، فَجَعَلَ قِلَّةَ الْجَزَعِ صَبْرًا . وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَقُطْرُبٌ: أَيْ مَا أَدْوَمَهُمْ عَلَى عَمَلِ أَهْلِ النَّارِ . وَقِيلَ: "مَا" اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَعَطَاءٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى، ومعناه: أي شيءٍ صَبَّرَهُمْ عَلَى عَمَلِ أَهْلِ النَّارِ؟! وَقِيلَ: هَذَا على وجه الاستهانة بهم والاستخفاف بأمرهم .
قوله تعالى: {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ} في "ما" أقوالٍ، أحدها: أنّها نكرةٌ تامّةٌ غيرُ موصو