ا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ
(168)
{يأَيُّهَا الناس كُلُواْ مِمَّا فِى الارض حلالاً} نزلت في المشركين الذين حرّموا على أنفسهم البَحيرةَ والسائبَةَ والوَصيلةَ والحامَ ، كما ذكره ابنُ جريرٍ وابنُ عباس رضي الله تعالى عنهما وقيل: في عبد الله بن سلام وأَضرابِه حيث حرّموا على أنفسهم لحمَ الإبل لما كان حراماً في دينِ اليهود . وقيل: في قومٍ من ثقيف وبني عامرٍ بنِ صَعْصَعَةَ وخُزاعةَ وبني مُدْلِجٍ حيث حرّموا التَمْر والأَقَطَّ على أنفسهم ، و{حلالاً} أي كلوه حلالاً أو أكلاً حلالاً ، والأمر للوجوب فيما إذا كان الأكل لقوام البُنْيَة ، وللندْب كما إذا كان لمؤانسةِ الضيفِ وللإباحة فيما عدا ذلك ، ومناسبة الآية لما قبلها: أنه سبحانه لما بيّن التوحيدَ ودلائلَه وما للتائبين والعاصين ، أتْبَعَ ذلك بذِكْرِ إنعامِه وشُمولِ رحمتِه ليَدُلَّ على أنّ الكفرَ لا يؤثّرُ في قَطْعِ الإنعام ؛ وقولُه تعالى: {طَيّباً} صفة {حلالاً} ومعناه كما قال الإمام مالك ما يجدُه فمُ الشرعِ لذيذاً لا يَعافُه ولا يَكرهُه ، أو تراه عينُه طاهراً عن دنسِ الشُبهة ، وفائدةُ وصفِ الحلالِ به تعميمُ الحُكمِ كما في قوله تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الأرض} الأنعام: 8 3 ليحصل الردُّ على مَنْ حرّمَ بعضَ الحلالات ، فإنّ النَكِرَةَ الموصوفَةَ بصفةٍ عامّةٍ تَعُمُّ ، بخلافِ غيرِ الموصوفةِ ، وقال الإمامُ الشافعيُّ رضي الله تعالى عنه: المرادُ به ما تَستطيبُه الشهوةُ المستقيمةُ الناشئةُ من المزاجِ الصحيح ، ورَدَّ بأن ّما لا تَستطيبُه إمّا حلالٌ لا شُبهةَ فيه ، فلا مَنْعَ ، وإلا خرج بقيدِ الحلال ، وأُجيبَ بأنَّ المرادَ بالحلال ما نصَّ الشارعُ على حِلِّه ، وبهذا ما لم يَرِدْ فيه نصٌّ ولكنّه مما يُسْتَلَذُّ ويَشتهيه الطبعُ المستقيمُ ، ولم يكن في الشرع ما يدلّ على حُرمتِه كإسكارٍ وضَررٍ ، والأَوْلى نَظراً للمَقام أنْ يُقال إنّ التقييدَ ليس للاحترازِ عمّا تستطيبُه الشهوةُ الفاسدةُ بلْ لكونِه معتَبَراً في مفهومه إذْ لا يُقال الطيّبَ واللّذيذَ إلاّ على ما تَستلِذُّه الشهوةُ المستقيمةُ وتكون فائدةُ التوصيف حينئذٍ التنصيصُ على إباحةِ ما حرّموه ، والقول بأنّ في الآيةِ ـ على هذا التفسيرِ ـ إشارةٌ إلى النهي عن الأكلِ على امتلاءِ المَعِدَةِ والشهوةِ الكاذبةِ لأنّ ذلك لا يستطيب لأنّ الطعامَ اللذيذَ المأكولَ كذلك مما تستطيبُه الشهوةُ إلاّ أنّه ليس مأكولاً بالشهوة المستقيمة ، وبين المعنيين بُعْدٌ بعيدٌ كما قاله بعض المحققين ، واستدلَّ بعضُهم بالآيةِ على أنّ مَنْ حرّمَ طعاماً مثلاً فهو لاغٍ ولا يُحرَّمُ عليه ، وفيه خفاء لا يخفى .
{وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان} أي آثارَه أو أعماله أو خطاياه وحاصلُ المعنى لا تعتقدوا به وتستنّوا بسنَّتِه فتُحرِّموا الحلالَ وتحلِّلوا الحرامَ ، ومن خطواتِ الشيطان الحَلِفُ بالطلاقِ والنذورُ في المعاصي وكلُّ يمينٍ بغيرِ الله تعالى .
{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} تعليلٌ للنهي ، و{مُّبِينٌ} أي ظاهر العداوة عند ذوي البصيرة ، وإنْ كان يُظهِر الوِلايةَ لمن يُغويه ، ولذلك سُمّيَ وليّاً في قولِه تعالى: {أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت} البقرة: 257
قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: النَّجَاةُ فِي ثَلاثَةٍ: أَكْلُ الْحَلالِ، وَأَدَاءُ الْفَرَائِضِ، وَالِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلا يَصِحُّ أَكْلُ الْحَلالِ إِلاّ بِالْعِلْمِ، وَلا يَكُونُ الْمَالُ حَلالاً حَتَّى يَصْفُوَ مِنْ سِتِّ خِصَالٍ: الرِّبَا وَالْحَرَامِ وَالسُّحْتِ ـ وَهُوَ اسْمٌ مُجْمَلٌ ـ وَالْغُلُولِ وَالْمَكْرُوهِ وَالشُّبْهَةِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ السَّاجِيُّ: خَمْسُ خِصَالٍ بِهَا تَمَامُ الْعِلْمِ، وَهِيَ: مَعْرِفَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ وَإِخْلاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَالْعَمَلِ عَلَى السُّنَّةِ، وَأَكْلُ الْحَلَالِ، فَإِنْ فُقِدَتْ وَاحِدَةً لَمْ يُرْفَعِ الْعَمَلُ.
قولُه تعالى: {مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً } حلالاً: فيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها: أَن يكونَ مفعولاً بـ “كُلوا“، و”مِنْ” على هذا فيها وجهان، أحدُهما: أَنْ تتعلَّق بكُلوا، ويكونُ معناها ابتداءَ الغايةِ. والثاني: أنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من “حلالاً” وكانت في الأصلِ صفةً له فلمّا قُدِّمت عليه انتصَبَت حالاً ، ويكونُ معنى “مِنْ” التبعيض. الثاني: أن يكونَ انتصابُ “حلالاً” على أنّه نعتٌ لمفعولٍ محذوفٍ، تقديرُه: شيئاً أو “رزقاً حلالاً” . الثالثُ: أَنْ ينتصِبَ “حلالاً” على أنّه حالٌ من “ما” بمعنى الذي ، أي: كُلوا من الذي في الأرض حالَ كَونِه حلالاً . الرابع: أن ينتصِبَ على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، أي: أكلاً حلالاً ، ويكون مفعولُ “كُلوا” محذوفاً ، و”ما في الأرض” صفةٌ لذلك المفعولِ المحذوفِ تقديرُه : كُلوا ما في الأرض أكلاً حلالاً . الخامس: أنْ يكونَ حالاً من الضمير العائِد على “ما” ونعني بالضمير الضميرَ المستكنَّ في الجارِّ والمجرورِ الواقعِ صلةً .
و”طيباً” فيه ثلاثةُ أوجُهٍ ، أحدُها: أن يكونَ صفةً لـ “حلالاً” أمَّا على القول بأنَّ “مِنْ” للابتداءِ متعلِّقة بـ “كُلوا” فهو واضحٌ ، وأمّا على القولِ بأنّ “مِما في الأرض” حالٌ من “حلالاً” ، فإنَّ موضعَها بعد الجارِّ والمجرور . الثاني: أن يكونَ صفةً لمصدرٍ محذوفٍ أو حالاً من المصدرِ المَعْرفة المحذوفِ أي: أكلاً طيباً.الثالث: أن يكونَ حالاً من الضميرِ في “كُلوا” تقديرُه: مستطيبين وهذا فاسدٌ في اللفظ والمعنى ، أمّا اللفظُ فلأنَّ “الطيِّب” اسمُ فاعل فكان ينبغي أن تُجْمَعَ لتطابق صاحبَها فيقال: طيبين ، وليس “طيب” مصدراً فيقال: إنما لم يُجْمَع لذلك . وأما المعنى فإنَّ “طيباً” مغايرٌ لمعنى “مستطيبين” لأنَّ الطِّيب من صفاتِ المَأْكولِ والمستطيبَ من صفاتِ الآكلينَ ، تقول: طاب لزيدٍ الطعامُ، ولا تقولُ:”طابَ زيدٌ الطعام” بمعنى استطابه.
والحَلالُ: المأذونُ فيه، ضدُّ الحرام الممنوع منه. يُقال: حَلَّ يَحِلُّ بكسرِ العين في المضارعِ ، وهو القياسُ لأنه مضاعَفٌ غيرُ متعدٍّ ، ويقال: حَلال وحِلُّ ، كحرام وحَرَم ، وهو في الأصل مصدرٌ، ويقالُ: “حلٌِ بِلٌّ” على سبيلِ الإِتباع كحَسَنٌ بَسَنٌ. وَحَلَّ بمكان كذا يحِلُّ بضمِّ العَيْنِ وكسرِها، وقرىء، {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} طه: 81 بالوجهين .
قوله: {خُطُواتِ} قرأ ابنُ عامر والكسائي وقنبل وحَفص: خُطُوات بضم الخاء والطاء، وباقي السبعة بسكون الطاءِ، وقرأ أبو السَّمَّال “خُطَوات” بفتحها، ونقل ابنُ عطية وغيرُه عنه أنّه قرأ “خَطَوات” بفتح الخاء والطاء، وقرأَ عليّ وقتادة والأعمش بضمِّها والهمز.
فأمّا قراءةُ الجمهورِ والأولى من قراءَتَيْ أبي السَّمَّال فلأنَّ “فَعْلَة” الساكنةَ العين السالمتها إذا كانت اسماً جاز في جَمْعِها بالألف والتاءِ ثلاثةُ أوجهٍ ـ وهي لغاتٌ مسموعةٌ عن العرب ـ : السكونُ وهو الأصلُ ، والإِتباع ، والفتحُ في العَيْنِ تخفيفاً .
وأمَّا قراءةُ أَبي السَّمَّال التي نَقَلَها ابنُ عطية فهي جَمْعُ خَطْوة بفتح الخاء ، والفرقُ بين الخطوة بالضم والفتح : أنَّ المفتوحَ مصدرٌ ، دالةٌ على المَرَّة من خَطَا يَخْطُوا إذا مَشَى ، والمضمُوم اسمٌ لِما بين القَدَمَيْن كأنه اسمٌ للمسافةِ، كالغُرْفَة اسمٌ للشيءِ المُغْتَرَف، وقيل: إنهما لغتان بمعنى واحدٍ .
وأمَّا قراءةُ عليّ ففيها تأويلان، أحدُهما: أنَّ الهمزةَ أصلُ وأنّه من الخطأ، و”خُطُؤات” جمع “خِطْأَة” إِنْ سُمِعَ ، وإلاَّ فتقديراً ، وتفسيرُ مجاهدٍ إياه بالخطايا يؤيِّد هذا، ولكنْ يُحْتَمَل أَنْ يكونَ مجاهِدٌ فَسَّره بالمرادفِ. والثاني: أنه قَلَبَ الهمزةَ عن الواوِ لأنَّها جاورت الضمةَ قبلَها فكأنَّها عليها، لأنَّ حركةَ الحرف بين يديه على الصحيح لا عليه .
قوله: {إِنَّهُ لَكُمْ} إنما كَسَرَ الهمزةَ لأنّّه أرادَ الإِعلامَ بحالِه ، وهو أبلغُ من الفتح، لأنه إذا فَتَح الهمزةَ صار التقديرُ: لا تتَّبِعوه لأنه عدوٌّ لكم، واتِّباعُهُ ممنوعٌ وإن لم يكن عدواً لنا، ومثلُه:
لبَّيْكَ إنَّ الحَمْدَ لك … . . . . . . . . . . . . . . . . . . كَسْرُ الهمزةِ أجودُ لدلالةِ الكسرِ على استحقاقه الحمدَ في كلِّ حالٍ وكذلك التلبيةُ. و”إنَّ” المسكروةَ تفيدُ العلةَ أيضاً، وقد ذكر ذلك في هذه الآية بعينها فينبغي أن يقالَ: قراءةُ الكسرِ أَوْلَى لأنها محتملةٌ للإِخبارِ المَحْضِ بحالِهِ وللعلِّيَّة، وأمّا المفتوحةُ فهي نصٌّ في العلِّيَّة، لأنَّ الكلامَ على تقديرِ لامِ العلةِ .