تفسير
الدر النظيم من معاني الذكر الحكيم
إعراب وتليل لغوي
للشاعر عبد القادر الأسود
سورة البقرة الاية : 158
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ
(158)
كان المسلمون ـ في البداية ـ يَروْنَ أنَّ الطَوافَ بالصّفا والمَروةِ منْ أمْرِ الجاهليّة، فلمّا كان الإسلامُ أمسكوا عنهما ، فأنزلَ اللهُ عزّ وجلّ: {إنّ الصفا والمروةَ من شعائرِ اللهِ فمَن حجّ البيتَ أو اعتمر...} قالت أمُّ المؤمنين السيدة عائشة ـ رضي الله عنها: "وقد سنَّ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم الطوافَ بينهما ، فليسَ لأحدٍ أنْ يَترُكَ الطَوافَ بينهما" وروى الترمذيُّ عن عاصم بن سليمان الأحول قال: "سألتُ أنسَ بنَ مالكٍ عن الصفا والمروةِ فقال: كانا من شعائرِ الجاهليّة ، فلمّا كان الإسلامُ أمسكْنا عنهما ، فأنزلَ اللهُ عزّ وجلّ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ...} وهو تطوُّعٌ {فمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} . خرّجه البخاري أيضاً .
وعن ابنِ عبّاسٍ ـ رضي الله عنهما قال: كان في الجاهليّةِ شياطينُ تَعزِفُ الليلَ كلَّه بين الصفا والمروةِ ، وكان بينهما آلهةٌ ، فلمّا ظَهَرَ الإسلامُ قال المسلمون: يا رسول الله ، لا نَطوفُ بين الصفا والمروةِ فإنّهما شِرْكٌ ، فنَزَلت .
وقال الشَعبيُّ: كان على الصفا في الجاهليّةِ صنمٌ يُسمّى "إسافاً" وعلى
المروة صنمٌ يسمّى "نائلةَ" فكانوا يَمْسحونَهما إذا طافوا ، فامتنع المسلمون من الطواف بينهما من أجل ذلك ، فنَزَلت الآية .
وذُكِرَ أنَّ آدمَ عليه السلام وقف عليه فسُمِيَ بِهِ لأنَّه من المُصْطَفَيْن ، وَوَقفتْ حوّاءُ على المَرْوةِ فسُمِّي باسْمِ المرأةِ ، فأُنِّثَ لذلك ، فاطّرَدَ ذلك في التذكير والتأنيثِ وقُدِّمَ المذكَّرُ .
قولُه تعالى: {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} أي من معالِمِهِ ومواضِعِ عباداتِه ، وهي جمع شَعيرةٍ . والشعائرُ: المتعبَّداتُ التي أَشْعَرَها اللهُ تعالى ، أيْ جعلَها أَعلاماً للنّاسِ ، مِن المَوقِفِ والسَعْيِ والنَحْرِ.
والشِّعارُ: العلامةُ ، يُقال: أَشْعَرَ الهَدْيَ أَعْلَمَه بِغَرْزِ حديدةٍ في سَنامِهِ ، من قولِكَ: أَشعرتُ أيْ أَعلمتُ ، وقال الكُمَيْتُ:
نُقِلُّهم جيلاً فجيلاً تَراهم ... شعائرَ قُرْبانٍ بهمْ يُتَقَرَّبُ
قولُه: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ} أي قَصَدَ ، وأصلُ الحجِّ القصدُ ، قال الشاعر:
فأَشْهَدُ من عوفٍ حلولاً كثيرةً ... يَحِجّون سِبَّ الزِبْرِقانِ المُزَعْفرا
السِبُّ "بالكسر" الكثيرُ السِباب . وسِبُّكَ أيضاً الذي يُسابُّك ، قال الشاعر:
لا تَسْبُبنَني فلستَ بسِبّي ... إنّ سِبّي مِنَ الرجالِ الكريمُ
والسِبُّ أيضاً الخِمارُ ، والعِمامَةُ ، والحَبْلُ في لغةِ هُذَيْلٍ ، قال أبو ذؤيبٍ:
تَدَلّى عليها بين سِبٍّ وخَيْطَةٍ ... بجرداءَ مثلَ الوكْف يَكْبو غِرابُها
والسُبوبُ: الحِبالُ . والسِبُّ: شقّةٌ كِتّانٍ رقيقةٌ ، والسَبيبةُ مثلُه ، والجمعُ السُبوبُ والسبائبُ . وحَجَّ الطبيبُ الشَجَّةَ إذا سَبَرَها بالمِيلِ "المِسبار" ، قال الشاعر:
يَحُجُّ مأمومةً في قعرِها لجف
اللّجْفُ: الخَسْفُ . تَلَجَّفَت البئرُ: انخسف أسفلُها . ثمّ اختَصَّ هذا الاسمُ بالقَصْدِ إلى البيتِ الحرامِ لأفعالٍ مخصوصةٍ .
قولُه تعالى: {أَوِ اعْتَمَرَ} أي زار والعمرة: الزيارة ، قال الشاعر:
لقد سما ابن مَعْمَرٍ حين اعْتَمَرْ ... مَغْزًى بعيداً مِن بعيدٍ وضَبَرْ
قوله تعالى : {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ} أي لا إثم . وأصلُه من الجُنوح وهو الميل ، ومنه الجوانحُ للأعضاء لاعْوِجاجِها .
ولا جُناحَ عليك أنْ تَفعلَ ، إباحة الفعل. وقوله: لا جناح عليك ألاّ تفعل ، وفيه إباحةٌ لترك الفعل ، {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} دليلٌ على أنّ تركَ الطواف جائزٌ ، وإنّما جاء لإفادة إباحة الطواف لمن كان يتحرّج منه في الجاهلية ، أو لمن كان يطوفُ به في الجاهليّة قصداً للأصنام التي كانت فيه ، فأعلمهم اللهُ ـ سبحانه ـ أنّ الطوافَ ليس بمحظورٍ إذا لم يَقصِد الطائفُ قصداً باطلا" .
روى الترمذي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قَدِمَ مكَّةَ فطافَ بالبيتِ سبعاً فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} البقرة: 125 وصلى خلف المقام ، ثمّ أتى الحجر فاسْتَلَمَه ثمّ قال: "نبدأُ بما بَدَأَ اللهُ به" فبدأَ بالصفا وقال: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} حديث حسن صحيح . والعملُ على هذا عند أهل العلم أنّه يبدأ بالصفا قبل المروة ، فإن بدأ بالمروة قبل الصفا لم يُجْزِهِ .
واختلف العلماءُ في وُجوبِ السعيِ بين الصفا والمروةِ ، فقال الشافعي وابن حنبل: هو ركن ، وهو المشهور من مذهب مالك ، لقوله عليه السلام: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" . لأن السعي لا يكون إلا متصلا بالطواف .
وقرأ حمزةُ والكسائي "يطَّوَّع" مضارع ، وكذلك {فَمَنْ تَطَّوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} الباقون "تَطَوَّعَ" ماض ، وهو ما يأتيه المؤمنُ من قِبَلِ نفسِه ، فمن أتى بشيء من النوافل فإنّ اللهَ يَشكره . وشكرُ اللهِ للعبدِ إثابتُه على الطاعة .
وقولُه عليه الصلاة والسلام: "خذوا عنّي مناسكَكم" فصار بياناً لمُجْمَلِ
الحجّ ، فالواجبُ أنْ يكونَ فرضاً ، كبيانِه لعددِ الرَكعاتِ في الصلاة ، وما كان مثلَ ذلك إذا لم يُتفق على أنّه سُنّة أو تطوع .
رأى ابن عباسٍ قوماً يطوفون بين الصفا والمروة فقال: هذا ما أَورثتْكم
أُمُّكم أُمُّ إسماعيل ، وهذا ثابتٌ في صحيحِ البخاري .
ولا يجوز أنْ يطوفَ أحدٌ بالبيت ولا بين الصفا والمروة راكباً إلاّ من عُذرٍ ، فإنْ طاف معذوراً فعليه دَمٌ ، وإن طاف غيرَ معذورٍ أعاد ، إن كان بحضرةِ البيت ، وإن غاب عنه أهدى "ضحية" .
إنّما قلنا ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بنفسه وقال: "خذوا عني مناسككم" . وإنّما جوّزنا ذلك من العذر ، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعيرِه واستلمَ الرُكن بمَحْجَنِه ، وقال لعائشة وقد قالت له: إني اشتكي ، فقال: "طوفي من وراء الناس وأنت راكبة" .
ولو أنّه أُغْميَ عليه فطِيفَ به محمولاً ، أوْ وُقِفَ به بعرفات محمولاً كان مجزئاً عنه .
قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا}: "الصَّفا" اسمُها، و{مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ} خبرُها. وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ، تقديرُه: "طوافُ الصَفات ، أو سَعْيُ الصَفا . وألفُ الصَّفا منقلبة عن واوٍ بدليلِ قَلْبِها في التثنية واواً ، قالوا: صَفَوان، والاشتقاقُ يَدُلُّ عليه أيضاً لأنَّه من الصَّفْوِ ، وهو الخُلُوصُ ، والصَّفا الحَجَرُ الأمْلَسُ وقيل: الذي لا يُخالِطُه غيرُه من طينٍ أو ترابٍ ، ويُفَرَّقُ بين واحدِه وجَمْعِه تاءُ التأنيثِ نحو: صفاً كثيرٌ وصفاة واحدة ، وقد يجمع الصَّفا على فُعول وأَفْعال قالوا: صُفِيٌّ بكسر الصاد وضمِّها كعِصِيّ ، وأصْفاء ، والأصل: صُفُوو وَصْفاو، فَقُلِبَتِ الواوان في "صُفُوو" ياءَين ، والواوُ في أصفاء همزةً ككِساءٍ وبابه . والمَرْوَةُ: الحِجارة الصِّغارُ، فقيل اللَّيِّنَة وقيل: الصُلبة ، وقيل المُرْهَفَةُ الأطْراف ، وقيل البيض وقيل: السُّود ، وهما في الآية عَلَمان لجبلين معروفين . والألفُ واللامُ فيهما للغَلَبةِ كهما في البيت والنجم، وجمعها: مَرْوٌ، كقوله:
وترى المَرْوَ إذا ما هَجَّرَتْ * عن يَدَيْها كالفَراشِ المُشْفَتِرّْ
والشعائر: جمع شَعيرَة وهي العلامةُ ، وقيل: جمع شِعارة ، والمرادُ بها في الآية مناسِكُ الحُجِّ ، والأجود "شعائِر" بالهمزةِ لزيادةِ حرفِ المَدّ وهو عكسُ معائِش ومصائب.
قوله: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ} "مَنْ" شرطيَّةٌ في محلِّ رفع بالابتداءِ، و "حَجَّ" في محلِّ جَزْمٍ، و "البيتَ" نَصْبٌ على المفعولِ به لا على الظرفِ ، والجوابُ قولُه: "فلا جَناحَ" . والحَجُّ لغةً: القَصْدُ مرةً بعدَ أخرى ، قال:
لِراهِبٍ يَحُجُّ بيتَ المَقْدِسِ * في مِنْقَلٍ وبُرْجُدٍ وبُرْنُسِ
والاعتمارُ: الزيارةُ ، وقيل: مطلقُ القصدِ ، ثم صارا عَلَمين بالغَلَبة في المعاني كالبيت والنجم في الأعيان .
وقوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ} الظاهرُ أنَّ "عليه" خبرُ "لا"، و "أَنْ يَطَّوَّفَ" أصلُه: في أَنْ يَطَّوَّفَ ، فَحُذِف حرفُ الجر، فيجيء في محلِّها القولان ، النصبُ أو الجرُّ. والوقفُ في هذا الوجهِ على قولِه "بهما" . وجُوّزَ بعد ذلك أوجهٌ ضعيفةٌ منها: أن يكونَ الكلامُ قد تَمَّ عند قولِه "فلا جُناحَ" على أن يكونَ خبرُ "لا" محذوفاً ، وتقديره "فَلاَ جُنَاحَ في الحج" ويُبْتدَأ بقولِه: {عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ} فيكونُ "عليه" خبراً مقدماً و "أَنْ يطَّوَّفَ" في تأويلِ مصدرٍ مرفوعٍ بالابتداءِ ، فإنَّ الطوافَ واجبٌ ، والجيدُ أن يكونَ "عليه" في هذا الوجهِ خبراً، و"أَنْ يَطَّوَّفَ" مبتدأَ".
ومنها: أن يكونَ {عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ} من بابِ الإِغراءِ ، فيكونَ "أَنْ يَطَّوَّفَ" في محلِّ نصبٍ كقولك ، عليك زيداً ، أي: الزَمْه ، إلاّ أنَّ إغراءَ الغائبِ ضعيفٌ ، حكى سيبويه: "عليه رجلاً لَيْسَني"، قال: وهو شاذ.
وقراءةُ الجمهور "أَنْ يَطَّوَّفَ" بغير لا. وقرأ أنس وابن عباس وابن سيرين وشهر بن حوشب: "أَنْ لا يَطَّوَّفَ" قالوا: وكذلك في مُصْحَفي أُبَيّ وعبدِ الله . وفي هذه القراءةِ احتمالان ، أحدُهما: أنَّها زائدة كهي في قولِه:
{أَلاَّ تَسْجُدَ} وقوله:
وما أَلومُ البيضَ ألاَّ تَسْخَرا * لَمَّا رَأَيْنَ الشَّمَطَ القَفَنْدَرا
وحينئذٍ يتَّحِدُ معنى القراءتين . والثاني: أنها غيرُ زائدةٍ بمعنى أَنَّ رَفْعَ الجُناحِ في فِعْلِ الشيء هو رفعٌ في تَرْكِه، إذ هو تخييرٌ بين الفعلِ والتركِ نحو: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ} ، فتكونُ قراءةُ الجمهورِ فيها رفعُ الجناحِ في فعلِ الطوافِ نَصَّاً وفي هذه رفعُ الجناحِ في الترك نَصَّاً.
وقرأ الجنهورُ: "يَطَّوَّفَ" بتشديد الطاءِ والواوِ ، والأصلُ: يَتَطَوَّف ، وماضيه كان أصله: "تَطَوَّفَ"، فلمّا أُريد الإِدغامُ تخفيفاً قُلِبَتِ التاءُ طاءٌ وأُدْغِمت في الطاءِ فاحتيج إلى همزة وَصْلٍ لسكونِ أولِه لأجل الإِدغام فأُتي بها فجاء مضارعُه عليه: يَطَّوَّف فانحَذَفَت همزتُ الوصلِ لتحصُّنِ الحرفِ المدغمِ بحرفِ المضارعة ، ومصدرُه على التطَّوفِ رجوعاً إلى أصلِ تَطَوَّفَ.
وقرأ أبو السَّمَّال: "يَطُوف" مخفّفاً ، من طاف يَطُوف وهي سهلة .
وقرأ ابن عباس: "يَطَّاف" بتشديد الطاء مع الألف وأصله: يَطْتَوِف على وزن يَفْتَعِل وماضيه: أطْتَوَف افْتَعَل تحرَّكت الواوُ وانفتحَ ما قبلها فقُلِبَتْ ألفاً ، ووَقَعَتْ تاءٌ الافتعالِ بعدَ الطاءِ فَوَجَبَ قَلْبُها طاءً وإدغامُ الطاءِ فيها كما قالوا: أطَّلَب يَطَّلِبُ، والأصل: اطْتَلَب يَطْتَلِبُ، فصار: اطَّاف وجاء مضارعُه عليه: يَطَّاف .
هذا هو تصريفُ هذه اللفظةِ من كونِ تاءِ الافتعال تُقْلَبُ طاءً وتُدَغَمُ
فيها الطاءُ الأولى .
ومصدر اطَّاف على الاطِّياف بوزن الافْتعال، والأصلُ: اطَّواف فكُسِر ما قبل الواو فقُلِبَتْ ياءً ، وإنّما عَادَتِ الواوُ إلى أصلِها لزوالِ موجب قَلْبها ألفاً ويُوضِّح ذلك قولُهم: اعتاد اعتياداً ، والأصل: اعتِواد فَفُعِل به ما ذَكرْتُ لك .
قوله: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً} قرأ حمزةُ والكسائي "تَطَوعَّ" هنا وفي الآية الآتية بعدها: يَطَّوَّعْ بالياء فعلاً مضارعاً ، وقرأه الباقون: "تَطَوَّع" فعلاً ماضياً. فأمَّا على قراءتهما فتكونُ "مَنْ" شرطيةً ليس إلاَّ ، لعملِها الجزمَ . وأصل يَطَّوَّع . يَتَطَوَّع فأُدْغِم على نحو ما تقدّم في "يطّوّف" وهي في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، والخبرُ فعلُ الشرطِ على ما هو الصحيحُ كما تقدَّم تحقيقُه .
وقولُه: "فإنَّ الله" جملةٌ في محلِّ جزمٍ لأنَّها جوابُ الشرطِ ، ولا بُدَّ مِنْ عائدٍ مقدَّرٍ أي: فإنَّ الله شاكرٌ له .
وأمَّا على قراءة الجمهورِ فتحتمل وَجْهَيْنِ ، أحدُهما: أن تكونَ شرطيةً ، والكلامُ فيها كما تقدَّم . والثاني: أن تكونَ موصولةً و "تَطَوَّعَ" صلتَها فلا محلَّ له مِنْ الإِعراب حينئذٍ ، وتكونُ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ أيضاً و"فإنَّ الله" خبرُه ، ودَخَلَت الفاءُ لِما تضمَّن مِنْ معنى الشرط ، والعائدُ محذوفُ كما تقدَّم أي: شاكرٌ له ، وانتصابُ "خيراً" على أحدِ أوجهِ: إمَّا على إسقاطِ حرفِ الجرِّ أي: تَطَوَّع بخيرٍ ، فلمَّا حُذِفَ الحرفُ انتصَبَ نحو قولِه:
تَمُرُّونَ الدِّيار ولم تَعُوجُوا .....................
وهو غيرُ مقيسٍ.
الثاني: أن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ أي: تطُّوعاً خيراً.
والثالثُ: أن يكونَ حالاً من ذلك المصدر المقدَّر معرفةً ، وهذا مذهبُ سيبويه وقد تقدَّم غيرَ مرةٍ ، أو على تضمينِ "تَطَوَّعَ" ، فعلاً يتعدَّى ، أي: مَنْ فَعَلَ خيراً متطوِّعاً به .
وقد تلخَّص مِمَّا تقدَّم أنَّ في قولِه: {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} وجهين ، أحدُهما: الجزمُ على القولِ بكونِ "مَنْ" شرطيةً والثاني: الرفعُ على القولِ بكونِها موصولةً.