أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
{أَفَتَطْمَعُونَ} الاستفهام للاستبعاد أو للإنكار التوبيخي ، والجملة معطوفة على قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قلوبكم} البقرة: 47 .
{ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ } ناصبٌ ومنصوبٌ ، وعلامةُ النصبِ حَذْفُ النونِ ، والأصلُ : في أَنْ ، فموضعُها نصبٌ أو جَرٌّ ، وعَدَّى " يؤمنوا " باللام لتضمُّنِه معنى أَنْ يُحْدِثوا الإِيمان لأجلِ دعوتِكم .
{وَقَدْ كَانَ} الواو للحالِ . وعلامتُها أَنْ يَصْلُحَ موضعَها " إذ " والتقدير: أفتطمَعُون في إيمانِهم والحالُ أنهم كاذبون مُحَرِّفون لكلام الله تعالى . و"قد" مقربةٌ للماضي مِن الحال سَوَّغَتْ وقوعَه حالاً . و"يَسْمَعُون" خبراً كان ، و"منهم" في محلِّ رفع صفةً لفريقٍِ ، أي : فريقٌ كائنٌ منهم . والفريق اسمُ جمعٍ لا واحدَ له مِن لفظِه كرهط وقوم ، وكان وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ على ما تقدَّم .
وقُرئ {كَلِمَ الله} وهو اسمُ جنسٍ واحدهُ كلمة ، وفَرَّق النحاة بين الكلام والكَلِم ، بأنَّ الكلامَ شرطُه الإِفَادَةُ ، والكَلِمُ شَرْطُه التركيبُ من ثلاثٍ فصاعداً ، لأنه جَمْعٌ في المعنى ، وأقلُّ الجمعِ ثلاثةٌ ، فيكونَ بينهما عمومٌ وخُصوصٌ من وجهٍ .
وهل الكلامُ مصدرٌ أو اسمُ مصدر؟ خلافٌ . والمادةُ تَدُلُّ على التأثير ، ومنه الكَلْمُ وهو الجرحُ ، والكلامُ يؤثِّر في المخاطب ، ويُطْلَقُ الكلامُ لغةً على الخطِّ والإِشارةِ كقول الشاعر :
إذا كَلَّمَتْنِي بالعيونِ الفواتِرِ ............ رَدَدْتُ عليها بالدموعِ البوادِرِ
وعلى النفساني ، قال الأخطل :
إنَّ الكلامَ لفي الفؤادِ وإنما ............ جُعِلَ اللسانُ على الفؤادِ دَلِيلا
قيل: ولم يُوْجَدْ هذا البيتُ في ديوان الأخطل .
وأمَّا عند النحويين "فالكلام" هو اللفظِ المركَّب المفيدِ بالوَضْع .
{مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} متعلِّقٌ بـ {يُحَرِّفُونَهُ} . والتحريفُ : الإِمالة والتحويلُ ، و" ثم " للتراخي إمَّا في الزمانِ أو الرتبةِ ، و" ما " يجوز أن تكونَ موصولةً اسميةً أي: ثم يُحَرِّفون الكلامَ من بعدِ المعنى الذي فَهِموه وعَرفوه . ويجوزُ أن تكونَ مصدريةً والضميرُ في " عَقَلوه " يعودُ حينئذٍ
على الكلامِ ، أي مِنْ بعدِ تَعَقُّلِهِم إياه .
{وَهُمْ يَعْلَمُونَ} جملةٌ حاليةٌ ، وفي العاملِ فيها قولان ، أحدهما : {عَقَلُوهُ} ولكنْ يلزَمُ منه أن تكونَ حالاً مؤكدةً ، لأنَّ معناها قد فُهِمَ مِنْ قولِه "عَقلوه" ، والثاني : وهو الظاهرُ ، أنه يُحَرِّفونه ، أي يُحَرِّفونه حَالَ عِلْمِهِم بذلك .
يعطينا الحق تبارك وتعالى هنا الحكمة فيما رواه لنا عن بني إسرائيل وعن قصصهم . وكيف أتعبوا نبيّهم وكيف عصوا ربهم، وكيف قابلوا النعمة بالمعصية والرحمة بالجحود . وإذا كان هذا موقفهم مع الله ومع نبيهم ، فلا تطمع يا محمد أن يؤمنوا لك .
وهذه الآيات تحمل أعظم تعزية للرسول الكريم . لألاّ يحزن على عدم إيمان اليهود به لأنه عليه البلاغ فقط ؛ ولكن حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يؤمن كل أهل الأرض ، ليس معناه أنه لم يفهم مهمته، ولكن معناه أنه أدرك حلاوة التكليف من ربه، بحيث يريد أن يهدي كل خلق الله في الأرض .