وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ
(45)
ومعنى الاستعانة بالصبر أن هناك أحداثا شاقة ستقع . وأن المسألة لن تكون سهلة . بل تحتاج إلى جهد . فالصبر معناه حمل النفس على أمر صعب .
وكما أسلفنا فإن فالمسألة ليست بخصوصية الموضوع ولكن بعموم السبب . فإنها موجهة للجميع . فكل مؤمن يدخل منهج الإيمان محتاج إلى الاستعانة بالصبر ليحمل نفسه على مشقة المنهج وتكاليفه . وليمنع نفسه عن الشهوات التي حرمها الله سبحانه وتعالى .
و{ واستعينوا بالصبر والصلاة } وكان سياق الآية يقتضي أن يقال بعد ذلك: " وأنهما " لكن القرآن قال: { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } لأنه عندما يأتي أمران منضمان إلى بعضهما لا تستقيم الأمور إلا بهما معاً . . يكونان علاجاً واحدا . . واقرأ قوله تعالى : { يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} التوبة:62 فقال يرضوه ولم يقل يرضوهما . وكذلك قوله تعالى:{وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} الجمعة:11 وكان المفروض أن يقال إليهما.ولكن التجارة واللهو لهما عمل واحد ، هو شغل المؤمنين عن العبادة والذكر: {واستعينوا بالصبر والصلاة} لأن العلاج في الصبر مع الصلاة . والصبر كبير أن تتحمله النفس ، وكذلك الصلاة . لأنهما يأخذان من حركة حياة الإنسان . والصبر هنا مطلوب ليصبروا على ما يمتنعون عنه من نعيم الدنيا وزخرفها . والصلاة تحارب الاستكبار في النفس . فكأن الوصفة الإيمانية لا تتجزأ . فلا يتم الصبر بلا صلاة ، ولا تتقن الصلاة إلا بالصبر .
وقوله تعالى : { إِلاَّ عَلَى الخاشعين } الخشوعُ: الخُضوع ، وأصلُه اللِّيْنُ والسُّهولة ، ومنه " الخُشْعَةُ " للرَّمْلَةِ المتطامنةِ ، وفي الحديث : " كانَتْ خُشْعَةً على الماءِ ثم دُحِيَتْ بعدُ " أي : كانت الأرضُ لينةً ، وقال النابغة :
رَمادٌ ككُحْلِ العَيْنِ لأْيَا أُبِينُه .............. ونُؤْيٌ كجِذْمِ الحَوْضِ أَثْلَمُ خاشِعُ
أي: عليه أثرُ الذلَّ ، وفَرَّق بعضُهم بين الخضوع والخُشوع ، فقال: الخُضُوع في البدنِ خاصةً، والخُشُوع في البدنِ والصوت والبصر فهو أعمُّ منه، ولذلك قلت :
قلبي لعزك يخشــعُ ............................... ولك الجوارح تخضعُ
يا مَن وَعَتْه مسامعي .............................. في كل صوت يُسمعُ
يا مَن رأته بصـيرتي ................................ قي كل نور يسطـعُ
وقيل: الخشوع هو الخضوع لمن ترى أنه فوقك بلا منازع . فالخشوع يجعل الإنسان يستحضر عظمة الحق ـ سبحانه ـ ويعرف ضآلة قيمته أمام الحق ـ سبحانه وتعالى ـ ومدى عجزه أمام خالق هذا الكون ، فإنه خشوع لمن خلق ووهب وأوجد .
قوله: { واستعينوا بالصبر } هذه الجملةُ الأمريةُ عَطْفٌ على ما قبلَها من الأوامر ، ولكن اعتُرِضَ بينها بهذه الجمل . وأصلُ " استعينوا " اسْتَعْوِنُوا فَفُعِل به ما فُعِل في { نَسْتَعِينُ } الفاتحة:5 وقد تقدَّم تحقيقُه ومعناه .
و" بالصبر " متعلقٌ به والباءُ للاستعانةِ أو للسببيةِ ، والمستعانُ عليه محذوفٌ ليَعُمَّ جميعَ الأحوال المستعانِ عليها ، و" استعان " يتعدَّى بنفسِه نحو : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } الفاتحة : 5 . ويجوز أن تكونَ الباءُ للحال أي : ملتبسينَ بالصبر ، والظاهر أنه يتعدَّى بنفسه وبالباء تقولُ : استَعَنْتُ الله واستعنْتُ بالله وقد تقدَّم أن السينَ للطلب . والصبرُ: الحَبْسُ على المكروه ، ومنه : " فلانٌ قُتِل صبراً " ، قال قطري بن الفجاءة :
فَصَبْراً في مجالِ الموتِ صَبْراً ..................... فما نَيْلُ الخلودِ بمُسْتَطَاعِ
قوله: { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } إنَّ واسمها وخبرُها ، والضميرُ في " إنها " قيل : يعودُ على الصلاة وإنْ تقدَّم شيئان ، لأنها أغلبُ منه وأهمُّ ، وقد تقد م لنا في ذلك رأي آخر .
قوله: { إِلاَّ عَلَى الخاشعين } استثناءٌ مفرَّعٌ ، وجازَ ذلك وإن كانَ الكلامُ مُثْبَتاً لأنه في قوةِ المنفيِّ ، أي : لا تَسْهُل ولا تَخِفُّ إلاَّ على هؤلاء ، فـ " على الخاشعين " متعلَّقٌ بـ " كبيرة " نحو : " كَبُر عليَّ هذا " أي : عَظُم وشَقَّ .