إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
{ إِنَّا أرسلناك بالحق } أي مؤيداً به ، والحق القرآن أو الاسلام وبقاؤه على عمومه أولى { بَشِيراً وَنَذِيراً } حالان من الكاف ، وقيل : من الحق والآية اعتراض لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه كان يهتم ويضيق صدرُه لإصرارهم على الكفر والمراد: إنا أرسلناك لأنّ تبشِّرَ مَنْ أَطاعَ وتُنذرَ مَنْ عصى لا لتُجبرَ أحداً على الإيمان فما عليك إنْ أَصرّوا أو كابروا؟ والتأكيدُ لإقامة غير المنكر مقام المنكر بما لاح عليه من أمارة الإنكار والقصر إفرادي .
{وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أصحاب الجحيم} تذييل معطوف على ما قبله،أو اعتراض أو حال أي أرسلناك غيرَ مسؤولٍ عن أصحاب الجحيم ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلّغتَ ما أُرسِلتَ به وألزمت الحجة عليهم ؟ وقرأ أبيّ "وما" بدلَ {ولا} وقرأ ابنُ مسعودٍ "ولن" بدل {ولا} وقرأ نافع ، ويعقوب لا تَسْأَلْ على صيغة النهي إيذاناً بكمال شدة عقوبة الكفار وتهويلاً لها كما تقول كيف حال فلان وقد وقع في مكروه فيقال لك لا تسأل عنه أي أنه لغاية فظاعة ما حل به لا يقدر المخبر على إجرائه على لسانه أو لا يستطيع السامع أن يسمعه ، والجملة على هذا اعتراض أو عطف على مقدر أي فبلغ ، والنهي مجازي ، ومنهم مَن جعله حقيقة ، والذي يُقطع به أن الآية في كفار أهل الكتاب كالآيات السابقة عليها والتالية لها لا في أبويه صلى الله عليه وسلم ، كما قيل ، ولِتَعارُضِ الأحاديث في هذا الباب وضعفها ، قال السخاوي: الذي ندين الله تعالى به الكف عنهما وعن الخوض في أحوالهما . والذي أَدين لله تعالى به أنا أنهما ماتا موحِّديْن في زمن الكفر ، وعليه يحمل كلام الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إن صح بل أكاد أقول : إنهما أفضل من عَلِيّ القاري وأضرابه .
قولُه تعالى: {بالحق} يجوزُ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها: أن يكونَ مفعولاً به أي: بسببِ إقامةِ الحقِّ . الثاني : أَنْ يكونَ حالاً من المفعولِ في ، "أَرْسلناك" أي: أَرْسلناك ملتبساً بالحقِّ . الثالث: أن يكونَ حالاً من الفاعل أي: ملتبسين في الحقِّ ، قوله: "بَشيراً ونذيراً" يجوزُ فيه وجهان ، أحدُهما: أن يكونَ حالاً من المفعول ، وهو الظاهرُ . الثاني: أن يكونَ حالاً مِن "الحقِّ" لأنه يُوصف أيضاً بالبِشارة والنِّذارة ، وبشير ونذيرِ على صيغة فَعيل ، أمَّا بشير فتقولُ هو من بَشَر مخففاً لأنه مسموعٌ فيه، وفَعِيلُ مُطَّردٌ من الثلاثي ، وأمَّا "نذير" فمن الرباعي ولا يَنْقاس عَدْلُ مُفْعِل إلى فعيل ، إلا أنَّ له هنا مُحَسِّناً .
قوله: {وَلاَ تُسْأَلُ} قرأ الجمهور: "تُسْأَلُ" مبنياً للمفعول مع رفعِ الفعلِ على النفي . وقُرئ شاذاً: "تَسْأَلُ" مبنيّاً للفاعل مرفوعاً أيضاً ، وفي هذه الجملةِ وجهان أحدُهما: أنه حالٌ فيكونُ معطوفاً على الحال قبلها ، كأنه قيل: بشيراً أو نذيراً وغيرَ مسؤول . والثاني: أن تكونَ مستأنفةً . وقرأ نافع "تُسْأَلْ" على النهي وهذا مستأنفٌ فقط ، ولا يجوزُ أن تكونَ حالاً لأنَّ الطَلَبَ لا يَقعُ حالاً . والجحيمُ: شدَّةُ تَوَقُّدِ النار ، ومنه قيل لعين الأسد: "جَحْمة" لشدَّة توقُّدِها ، يُقال: جَحِمَتِ النارُ تَجْحَمُ ، ويقال لشدة الحر: "جاحم" ، قال:
والحربُ لا يَبْقى لِجَا .......................... حمِها التخيُّلُ والمِراحُ
والرِّضا: ضدُّ الغضَبِ ، وهو من ذَواتِ الواوِ لقولِهم: الرُّضْوانِ، والمصدر: رِضا ورِضاءً بالقصرِ والمَدّ ورِضْواناً ورُضْواناً بكسرِ الفاء وضمِّها ، وقد يَتَضَمَّن معنى "عَطَفَ" فيتعدَّى بـ "على" ، قال:
إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْرٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والمِلَّةُ في الأصلِ: الطريقةُ ، يقال: طريقٌ مُمِلٌّ: أي: أثَّر فيه المَشْيُ ويُعَبَّر بها عن الشريعة تَشْبيهاً بالطريقةِ ، وقيل: بل اشْتُقَّت من "أَمْلَلْتُ" لأنَّ الشريعةَ فيها مَنْ يُملي ويُمْلَى عليه .