مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(106)
نزلت لما قال المشركون أو اليهود: ألا ترون إلى محمد صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ، ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً ، ما هذا القرآن إلا كلام محمد عليه الصلاة والسلام يقوله من تلقاء نفسه ، وهو كلام يناقض بعضه بعضاً ، ونسخ الآية على ما ارتضاه بعض الأصوليين بيان انتهاء التعبد بقراءتها كآية: ((الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالاً من الله والله عزيز حكيم)) أو الحكم المستفاد منها كآية: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجاً وَصِيَّةً لاّزْوَاجِهِم متاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ } البقرة: 240 أو بهما جميعاً كآية ((عشر رضعات معلومات يحرمن)) وفيه رفع التأبيد المستفاد من إطلاقها ، ولذا عرّفه بعضهم برفع الحكم الشرعي ، فهو بيان بالنسبة إلى الشارع ، ورفع بالنسبة إلينا ، وخرج بقيد التعبد الغاية ، فإنها بيان لانتهاء مدة نفس الحكم لا للتعبد به واختص التعريف بالأحكام إذ لا تعبد في الأخبار أنفسها ، وإنساؤها إذهابها عن القلوب بأن لا تبقى في الحفظ وقد وقع هذا فإن بعض الصحابة أراد قراءة بعض ما حفظه فلم يجده في صدره ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((نسخ البارحة من الصدور)) وروى مسلم عن أبي موسى: ((إنا كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة ، فأنسيتها غير أني حفظت منها ((لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً وما يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)) وكنا نقرأ بسورة نشبهها بإحدى المبسحات فأنسيتها ، غير أني حفظت منها: ((يا أيها الذين آمنوا لم تقولوا ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة)) وهل يكون ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان لغيره أو لا؟ فيه خلاف ، والذاهبون إلى الأول استدلوا بقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى * إِلاَّ مَا شَاء الله} الأعلى: 6 ، 7 وهو مذهب الحسن ، واستدل الذاهبون إلى الثاني بقوله تعالى: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } الأسراء : 68 .
قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ} ما: مفعولٌ مقدّم لنَنْسَخْ ، وهي شرطيةٌ جازمةٌ له ، والتقدير: أيَّ شيءٍ نَنْسَخ ، مثلَ قوله: {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ} الإسراء: 110 . أو شرطيةٌ جازمة لنَنْسَخْ ، ولكنَّها واقعةٌ موقعَ المصدرِ ، و”مِنْ آيةٍ” هو المفعولُ به ، والتقديرُ: أَّي نَسْخٍ نَنْسَخ آيةً ، ومجيءُ “ما” مصدراً جائز قال الشاعر:
نَعَبَ الغرابُ فقلتُ: بَيْنٌ عاجِلُ …….. ما شِئْتَ إذ ظَعَنُوا لِبَيْنٍ فانْعَبِ
وقرأ ابنُ عامر: “نُنْسِخْ” بضمِّ النونِ وكسر السينِ من أَنْسَخَ ، وهذه ليست لغةً لأنه لا يُقال : نَسَخَ وأَنْسخ بمعنىً. وخُرِّجت هذه القراءةَ على كَوْنِ الهمزةِ للتعديةِ مِنْ وجهٍ آخرَ ، وهو مِنْ نَسْخ الكتابِ ، وهو نَقْلُه من غير إزالةٍ له ، ويكونُ المعنى: ما نَكْتُبْ ونُنَزِّلْ من اللوح المحفوظ أو ما نؤخِّرْ فيه ونَتْرُكْهُ فلا نُنُزِّلْه ، أيَّ ذلك فَعَلْنا فإنما نأتي بخيرٍ من المؤخَّر المتروك أو بمثله ، فيجيء الضميران في “منها” و”بمثلها” عائِدَيْنِ على الضمير في “نَنْسَأْها”
قوله: {مِنْ آيَةٍ} مِنْ: للتبعيضِ ، فهي متعلِّقةٌ بمحذوف لأنها صفةٌ لاسمِ الشرط ، ويَضْعُفُ جَعْلُها حالاً ، والمعنى: أيَّ شيءٍ نَنْسَخْ من الآيات فـ “آية” مفرد وقع موقِعَ الجمعِ ، وكذلك تخريجُ كلِّ ما جاءَ من هذا التركيب: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} فاطر: 2 {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} وهذا المجرورُ هو المخصِّصُ والمبِّينُ لاسم الشرطِ ؛ وذلك أَنَّ فيه إبهاماً من جهةِ عمومهِ ، ألا ترى أنَّك لو قلت: “مَنْ يُكْرمْ أُكْرِمْ” تناوَلَ النساءَ والرجالَ ، فإذا قلت: “مِن الرجالِ” بَيَّنْتَ وخصَّصْتَ ما تناوَله اسمُ الشرط . وفيها وَجْهَانِ آخران ، أحدهما: أنَّها في موضع نصبٍ على التمييز ، والممَّيز “ما” والتقدير: أَيَّ شيءٍ نَنْسَخْ ، ولا يَحْسُنُ أن تقدِّر: أيَّ آيةٍ نَنْسَخْ ، لأنَّك لا تَجْمَعْ بَيْنَ “آية” وبين المميَّز بآية ، لا تقول: أيَّ آيةٍ نَنْسَخْ من آيةٍ، يعني أنك لو قَدَّرْتَ ذلك لاستَغْنَيْتَ عن التمييز. والثاني: أنها زائدةٌ و”آية” حال، والمعنى: أيَّ شيءَ نَنْسَخْ قليلاً أو كثيراً، وقد جاءت “آية” حالاً في قوله: {هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً} الأعراف: 73 أي: “علامة” وهذا فاسدٌ لأن الحالَ لا تُجَرُّ بـ “مِنْ” ، وقد تقدَّم أنها مفعولٌ بها ، و”مِنْ” زائدةٌ عل القَوْل بجَعْل “ما” واقعةً موقع المصدر، فهذه أربعةُ أوجه .
قولِه: {أَوْ نُنسِهَا} أو: “هنا” للتقسيم ، و “نُنْسِها” مجزومٌ عطفاً على فعل الشرطِ قبلَه . وفيها ثلاثَ عشرة قراءةً: “نَنْسَأها” بفتحِ حرفِ المضارعةَ وسكونِ النون وفتحِ السين مع الهمز ، وبها قرأ أبو عمرو وابن كثير . الثانية: كذلك إلا أنه بغير همزٍ ، ذكرها أبو عبيد البكري عن سعدِ بن أبي وقاص رضي الله عنه . الثالثة: “تَنْسَها” بفتح التاء التي للخطاب ، بعدَها نونٌ ساكنةٌ وسينٌ مفتوحةٌ من غيرِ همزٍ ، وهي قراءةُ الحسن ، وتُرْوى عن سعيد بن المسيب ، فقيل لسعدِ بنِ أبي وقاص: “إن سعيدَ بن المسيَّبَ يَقْرؤها بنونٍ أولى مضمومةٍ وسينٍ مكسورةٍ فقال: إن القرآن لم يَنْزِلْ على المسيَّب ولا على ابن المسيَّبِ” وتلا: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} الأعلى: 6 {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} الكهف: 24 يعني سعدٌ بذلك أن نسبةَ النسيانِ إليه عليه الصلاة والسلامُ موجودةٌ في كتابِ الله فهذا مثلُه . الرابعةُ: كذلك إلا أنه بالهمز . الخامسةُ: كذلك إلا أنَّه بضمِّ التاء وهي قراءةُ أبي حَيْوَة . السادسةُ: كذلك إلا أنَّه بغيرِ همزٍ وهي أيضاً قراءةُ سعيدِ بن المسيَّبِ . السابعة: ” نُنْسِها ” بضمِّ حرفِ المضارعةِ وسكونِ النونِ وكَسْرِ السينِ من غيرِ همزٍ وهي قراءةُ باقي السبعةِ . الثامنةُ: كذلك إلا أنه بالهمز . التاسعةُ: نُنَسِّها بضمِّ حرفِ المضارعةِ وفتحِ النونِ وكسر السينِ مُشَدَّدَةً وهي قراءةُ الضحاك وأبي رجاء . العاشرةُ: “نُنْسِكَ” بضمِّ حرفِ المضارعةِ وسكونِ النونِ وكسرِ السينِ وكافٍ بعدها للخطاب . الحاديةَ عشرة: كذلك إلاّ أنّه بفتح النون الثانيةِ وتشديد السين مكسورةً ، وتروى عن الضحاك وأبي رجاء أيضاً . الثانيةَ عشرةَ: كذلك إلاّ أنّه بزيادةِ ضميرِ الآية بعد الكاف: “نُنَسِّكَها” وهي قراءة حذيفة ، وكذلك هي في مصحفِ سالم مولاه . الثالثةَ عشرةَ: “ما نُنْسِكَ من آيةٍ أو نَنْسَخْها نَجِىءْ بمثلِها” وهي قراءةُ الأعمش ، وهكذا ثَبَتَتْ في مصحفِ عبد الله .
فأمَّا قراءةُ الهَمْز على اختلافِ وجوهِها فمعناها التأخيرُ من قولِهم: نَسَأَ الله وأَنْسَأَ اللهُ في أَجَلِكَ أي:أَخَّرَه. وبِعْتُه نسيئةً أي متأخّراً، وتقولُ العرب: نَسَأْتُ الإِبلَ عن الحوضِ أَنْسَؤُها نَسْئَاً ، وأنْسَأَ الإِبلَ: إذا أَخَّرَها عَنْ ورودِها يومَيْنِ فأكثرَ ، فمعنى الآيةِ على هذا فيه ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها: نؤخِّرُ نَسْخَها ونزولَها . الثاني: نَمْحُها لفظاً وحكماً . الثالث: نُمْضِها فلا نَنْسَخْها ، وهو ضعيفٌ لقوله: نَأْتِ بخيرٍ منها ، لأنَّ ما أُمْضِي وأُقِرَّ لا يُقال فيه: نَأْتِ بخير منه.
وأمَّا قراءةُ غيرِ الهَمْزِ على اختلافِ وجوهِها أيضاً ففيها احتمالان أظهرُهما: أنها من النسيانِ ، وحينئذٍ يُحْتَمَلُ أن يكونَ المرادُ به في بعض القراءاتِ ضدَّ الذِّكْرِ ، وفي بعضِها التركَ . والثاني: أنَّ أصلَه الهمزُ من النَّسْء وهو التأخيرُ ، إلا أنَّه أُبْدِلَ من الهمزةِ ألفٌ فحينئذٍ تتَّحِد القراءتان . ثم مَنْ قرأ مِنَ القُرَّاء: ” نَنْسَاها ” من الثلاثي فواضحٌ .
وأمَّا مَنْ قرأ منهم مِنْ أَفْعَل ، وهم نافع وابن عامر والكوفيون فمعناه عندهم: نُنْسِكَها ، أي: نجعلُك ناسياً لها ، أو يكونُ المعنى: نَأْمُرُ بتركها، يقال: أَنْسَيْتُهُ الشيءَ أي أَمَرْتُه بتركِه ، ونَسِيْتُه تَرَكْتُه ، وأنشدوا:
إنَّ عليَّ عُقْبَةً أَقْضِيها ……………….. لستُ بِناسِيها ولا مُنْسِيها
أي:لا تاركها ولا آمراً بتركها،وهذه القراءةُ لا يَتَوَجَّهُ فيها معنى الترك، لا يُقال: أَنْسَى بمعنى ترك ، قال الفارسي وغيرُه: “ذلك مُتَّجِهٌ لأنه بمعنى نَجْعَلُكَ تَتْرُكها” وقد ضَعَّفَ الزجاج أَنْ تُحْمَلَ الآيةُ على معنى النسيانِ ضدَّ الذكرِ ، وقال: ” إنَّ هذا لم يكُنْ له عليه السلام ولا نَسي قرآناً “، واحتجَّ بقوله تعالى:{وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}الإسراء: 86 أي لم نَفْعَل شيئاً من ذلك . وأجابَ الفارسي عنه بأنَّ معناه لم نُذْهِبْ بالجميع .
قوله: “نَأْت” هو جوابُ الشرط ، وجاء فعلُ الشرطِ والجزاءِ مضارعَيْنِ ، وهذا التركيبُ أفصحُ التراكيبِ، أعني: مجيئهما مضارِعَيْن.
وقوله: “بخيرٍ منها” متعلِّقٌ بِنَأْتِ ، وفي “خير” هنا قولان ، الظاهرُ منهما: أنها على بابها من كونها للتفضيل ، وذلك أنَّ الآتيَ به إن كانَ أَخفَّ من المنسوخ أو المنسوء فخيريَّتُه بالنسبة إلى سقوطِ أعباء التكليف ، وإنْ كانَ أَثْقَلَ فخيريَّتُه بالنسبة إلى زيادةِ الثوابِ ، وقولُه: “أو مثلِها” أي في التكليف والثواب ، وهذا واضحٌ . والثاني: أنّ “خيراً” هنا مصدرٌ ، وليس من التفضيلِ في شيء ، وإنَّما هو خيرٌ من الخُيورِ ، كخير في قوله: {أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} البقرة: 105 و”مِنْ” لابتداء الغاية ، والجارُ والمجرور صفةٌ لقولِه “خير” أي: خيرٌ صادِرٌ من جهتِها ، والمعنى: مَا نَنْسَخْ من آيةٍ أو نؤخِّرْها نأتِ بخيرٍ من الخيور من جهةِ المنسوخِ أو المنسوء . وهذا بعيدٌ جداً لقوله بعدَ ذلك: “أو مثلِها” فإنه لا يَصِحُّ عَطْفُه على “بخير” على هذا المعنى ، اللهم إلاَّ أَنْ يُقْصَدَ بالخيرِ عَدَمَ التكليفِ ، فيكونَ المعنى: نَأْتِ بخيرِ من الخُيور ، وهو عَدَمُ التكليفِ أو نَأْتِ بمثلِ المنسوخِ أو المَنْسوء . وأمَّا عَطْفُ “مثلِها” على الضمير في “منها” ، فلا يجوزُ إلا عند الكوفيين ، لعدمِ إعادةِ الخافضِ .
وفي قوله: “ما نَنْسَخْ” التفاتٌ من غيبةٍ إلى تكلم ، ألا ترى أنَّ قبله {واللهُ يَخْتَصُّ} و{والله ذُو الفضل} .
والنَّسْخُ لغةً: الإِزالةُ بغيرِ بدلٍ يُعْقِبُه ، نَسَخَتِ الريحُ الأثرَ والشمسُ الظلَّ ، أو نَقْلُ الشيءِ من غير إزالة نحو: نَسَخْتُ الكتابَ ، وهو في اللغةِ على ضَرْبَيْن: ضرب فيه إزالةُ شيءٍ وإقامةُ غيره مُقامَه نحو: “نَسَخَتِ الشمسُ الظلَّ” فإنَّها أزالته وقامَتْ مَقامَه ، ومنه {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} والثاني: أن يُزيلَه ولا يَقُومَ شيءٌ مقامَه نحو: نَسَخَتِ الريحُ الأثر ، ومنه: فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقي الشيطانُ ، النسيئة: التأخيرُ والإمضاءُ قال الشاعر:
أَمُونٍ كأَلْواحِ الإرانِ نَسَأْتُها …………. على لاحِبٍ كأنَّه ظَهْرُ بُرْجُدٍ