بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
{ بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنفُسَهُمْ } أي باعوا ، فالأنفسُ بمنزلة المُثَمَّن ، والكفرُ بمنزلة الثمن لأنّ أنفسَهم الخبيثة لا تُشتَرى بل تُباع وهو على الاستعارة أي إنهم اختاروا الكفر على الإيمان وبذلوا أنفسهم فيه .
{ بِئْسَمَا اشتروا } بئسَ : فعلٌ ماض غيرُ متصرفٍ ، معناه الذمُّ ، فلا يَعْمُل إلا في معرَّفٍ بألـ ، أو فيما أُضيف إلى ما هو معرّف بهما ، أو في مضمرٍ مفسَّرٍ بنكرةٍ ، أو في " ما " . وفيه لغاتٍ: بَئِسَ بكسر العينِ وتخفيفٍ ، هذا الأصلُ ، وبِئِسَ بكسرِ الفاء إتباعاً للعينِ وتخفيفٍ ، هذا الإِتباعُ ، وهو أشهرُ الاستعمالاتِ ، ومثلُها "نِعْمَ" في جميع ما تقدَّم من الأحكام واللغات .
أمَّا " ما " قيل هي مع "بِئْسَ" شيءٌ واحد رُكِّبَ تركيبَ " حَبَّذا" ويُجَوِّز أن تكونَ " ما " مع بئسَ بمنزلة كُلَّما ، أي لا محلَّ لها. وقيل إنها في محلِّ نصبٍ على التمييزِ والجملةُ بعدَها في محلِّ نصبٍ صفةً لها ، وفاعلُ بئس مضمرٌ تُفَسِّرُه " ما " والمخصوصُ بالذمِّ هو قولُه : { أَن يَكْفُرُواْ } لأنه في تأويلِ مصدرٍ، والتقدير : بِئْسَ هو شيئاً اشتَروا به كفرُهم ، ويجوزُ على هذا أن يكونَ المخصوصُ بالذمِّ محذوفاًَ ، و"اشتَرَوا " صفةً له في محلِّ رفعٍ تقديرُه : بئس شيئاً شيءٌ أو كفرٌ اشتروا به .
{ أَن يَكْفُرُواْ } قد تقدَّم فيه أنه يجوزُ أن يكونَ هو المخصوصَ بالذمِّ فهو إمَّا مبتدأ وخبرُه الجملةُ قبلَه ، وإمّا خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، وإمَّا مبتدأٌ وخبره محذوف .
{ بِمَآ أنَزَلَ الله } متعلِّق بيكفُروا ، وقد تقدَّم أنَّ " كفر " يتعدَّى بنفسِه تارةً وبحرفِ الجرِّ أخرى ، و "ما" موصولةٌ بمعنى الذي والعائدُ محذوفٌ تقديرُه : أَنْزله ، ويَضْعُفُ جَعْلُها نكرةً موصوفةً ، وكذلك
جَعْلُها مصدريةً والمصدرُ قائمٌ مقامَ المفعولِ أي بإنزالِه يعني بالمُنَزَّل .
{ بَغْيَاً } مفعولٌ مِنْ أَجْله وهو مستوفٍ لشروطِ النصبِ ، و الناصبِ له { يكفروا } أي علةُ كفرِهم البغيُ . أو{ اشتروا } فهو علةُ { اشتروا } . ويكمن أن يكون منصوباً على المصدرِ بفعلٍ يَدُلُّ عليه ما تَقَدَّم أي بَغَوْا بَغْيَاً . أو هو في موضعِ حالٍ ، وصاحِبها إمَّا فاعلُ {اشتروا } وإمَّا فاعلُ { يَكْفُرُواْ } ، تقديرُه: اشْتَرَوا باغِين ، أو يَكْفُروا باغِين .
والبَغْيُ: أصلُه الفَسادُ مِنْ قَوْلِهم: بَغَى الجُرْحُ أي فَسَدَ وقيل: هو شِدَّةُ الطلبِ ، ومنه قولُه تعالى: {مَا نَبْغِي} يوسف: 65 وقال الراجز:
أُنْشِدُ والباغي يُحِبُّ الوِجْدانْ ............... قلائِصاً مختلفاتِ الألْوانْ
ومنه " البَغِيُّ " لشدة طلبها له .
{ أَن يُنَزِّلُ الله } فيه قولان ، أحدُهما: أنَّه مفعولٌ من أجلِه والناصبُ له " بَغْياً " أي : عِلَّةُ البغيِ إنزالُ الله فَضْلَه على محمدٍ عليه الصلاة والسلامُ .
والثاني أنَّه على إسقاطِ الخافضِ والتقديرُ: بَغْياً على أَنْ يُنَزِّلَ، أي حَسَدَاً على أَنْ يُنَزِّلَ .
والثالثُ: أنَّه في محلِّ جرٍّ بدلاً من "ما" في قوله: { بِمَآ أنَزَلَ الله} بدلَ اشتمال أي:بإنزال الله فيكونُ مثلَ قولِ امرئ القيس :
أَمِنْ ذِكْر سلمى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ ... . . . . . . .
وقرأ أبو عمرو وابن كثير جميعَ المضارع من " أَنْزَل " مخففاً إلا ما
وقع الإِجماع على تشديدِه في الحجرِ {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ} الحجر: 21، وقد خالفا هذا الأصلَ: أمَّا أبو عمرو فإنه شدَّد { على أَن يُنَزِّلٍ آيَةً } الآية: 37 في الأنعام ، وأمَّا ابن كثير فإنه شَدَّد في الإِسراء { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن} الإسراء: 82 { حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً } الإسراء: 93 والباقون بالتشديد في جميع المضارع إلا حمزة والكسائيَّ فإنهما خالفا هذا الأصلَ فخَفَّفا: { وَيُنَزِّلُ الغيث } الآية: 34 آخر لقمان { وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث } الآية: 28 في الشورى . والهمزةُ والتضعيفُ للتعديَةِ . وقد ذَكَر القُرَّاءُ مناسباتٍ للإِجماعِ على التشديد في ذلك الموضعِ ومخالفةِ كلِّ واحدٍ أصلَه لماذا؟ بما يطول ذكره ، والأظهرُ من ذلك كلِّه أنه جَمْعٌ بين اللغات .
{مِن فَضْلِهِ} مِنْ:لابتداءِ الغايةِ ، وهو إما: صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ هو مفعولُ "يُنَزِّل" أي: أَنْ يُنَزِّل الله شيئاً كائناً من فضلِه فيكونُ في محلِّ نصب . أو: هي زائدةٌ ، وحينئذٍ فلا تَعَلُّقَ له ، والمجرورُ بها هو المفعولُ أي: أَنْ يُنَزِّلُ الله فضله .
{ على مَن يَشَاءُ } متعلقٌ بيُنَزِّلَ . و" مَنْ " يجوزُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً، والعائدُ على الموصولِ أو الموصوفِ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ المجوِّزةِ للحَذْفِ ، والتقديرُ: على الذي يشاؤُه أو على رجلٍ يشاؤه ، ومفعولُ " يشاء " محذوفٌ أي: يَشَاءُ نزولَه عليه ، ويجوزُ أَنْ يكونَ يشاءُ يختارُ ويصطفي .