وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)
فاتتهم الحياة في الدنيا ولكن وصلوا إلى الحياة الأبدية في العُقْبَى ، فهم في الحقيقة أحياء ، يجدون من الله فنون الكرامات .
ويقال هم أحياء لأن الخَلَفَ عنهم اللهُ ومَنْ كان الخلفُ عنه الله لا يكون ميتاً .
ويقال هم أحياء بذكرِ الله لهم ، والذي هو مذكور الحق بالجميل بذكره السرمدي ليس بميت .
ويقال إنَّ أشباحهم وإنْ كانت متفرقة ، فإنَّ أرواحهم ـ بالحق سبحانه ـ متحققة . ولئن فَنِيَتْ بالله أشباحُهم فلقد بَقِيَتْ بالله أرواحهم لأنَّ من كان فناؤه بالله كان بقاؤه بالله .
ويقال هم أحياء بشواهد التعظيم ، عليهم رداء الهيبة وهُمْ في ظلال الأُنْس ، يبسطهم جَمَالُه مرةً ، ويستغرقهم جلاله أخرى .
{ولا تقولوا ..} نَزَلت في شهداء بدر وكانوا أربعةَ عشرَ رجلاً ، ستةٌ من المهاجرين وثمانيةٌ من الأنصار ، وكان الناس يقولون {لمن يقتل} فى سبيل الله مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذَّتُها فأنزل اللهُ تعالى: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله ..} وهو الجهاد لأنّه طريقٌ إلى ثواب الله ورحمته {أموات} أي هم أمواتٌ {بل أحياء} أي كالأحياء في الحُكم لا ينقطع ثوابُ أعمالهم لأنهم قُتلوا نُصرةً لدين الله ، فما دام الدين ظاهراً في الدنيا وأحدٌ يُقاتلُ فى سبيل الله فلهم مثلُ ثوابِ ذلك لأنهم سَنّوا هذه السُنّةَ الحَسَنةَ {ولكن لا تشعرون} كيف حالُهم فى حياتهم ، وفيه رمزٌ إلى أنّها ليست مما يُشعَرُ به بالمشاعرِ الظاهرةِ من الحياة الجسمانيّة ، وإنما هي أمرٌ روحانيٌّ لا يُدرَك بالعقل بلْ بالوحي .
وفى الآيةِ دِلالةٌ على أنّ الأرواحَ جواهرَ قائمةٌ بأنفُسِها مُغايرةٌ لما يُحسُّ به من البدن تبقى بعد الموت مدركة وعليه الجمهور .
فإن قلتَ: الحياةُ الروحانيّةُ المستتبعةُ لإدراكِ اللّذَةِ والألم مشترِكةٌ في الجميع فما وجهُ تخصيص الشهداء بها؟ قلتُ: لاختصاصهم بالقرب من الله تعالى ومزيدِ البهجة والكرامةِ ومَن لم يبلغْ منزلَتَهم لا تكون حياته معتدّاً بها فكأنّه ليس بحيٍّ . قال تعالى في حقِّ أهلِ النار: {لا يموت فيها ولا يحيى} .
إنّ نفسَ الإنسانِ وذاتَه الذي هو مخاطب مكلَّفٌ مأمورٌ مَنهيٌّ بأوامر الله ونواهيه ، جسمانيٌّ لطيفٌ سار فى هذا البدن المحسوس سَرَيان النارِ في الفحم وماءِ الورد فى الورد ، وهو الذي يشير إليه كلُّ واحدٍ بقولِه: إنا ، وهو الإنسانُ حقيقةً وهو الوليُّ والنبيُّ والمُثابُ والمُعاقبُ على أعماله وهو الذي كان فى صُلبِ آدمَ حين سجدت له الملائكة ، وهو الذي سأله اللهُ بقوله: {ألستُ بربِّكم؟ قالوا: بلى..} وهو الذي يُتوفّى في المنام ويخرج ويسرح ويَرى الرؤيا فيُسَرُّ بما يَرى ، أو يحزن ، فإن أمسكه الله ولم يَرجِعْ إلى جسدِه تبعه الروح والجسد الكثيفُ المعبَّرُ عنه بالبدنِ والروح السُلطانيِّ ، ومحَلُّ تعيينِه هو القلب الصَنوبريُّ . والروحُ الحيوانيُّ محَلُّ تعيينِه هو الدماغُ ، ويُقالُ له القلبُ والعقلُ . والنفسُ ـ أيضاً ـ سرى في جميعِ أعضاء البدن ، إلاّ أنّ سلطانَه قويٌّ في الدِماغِ ، فهو أقوى مظاهرِه ، وهو ـ أي الروحُ الحيوانيُّ ـ إنما حدَثَ بعدَ تعلُّقِ الروح السلطانيِّ بهذا الهيكل ، فهو من انعكاسُ أنوارِ الروحِ السُلطانيِّ ليكون مبدأَ الأفعالِ ، لأنّ الحياةَ أمرٌ مُغيَّبٌ مستورٌ في الحيِّ لا تُدركُ إلاّ بآثارها كالحِسِّ والحركةِ والعِلْمِ والإرادةِ وغيرها . وهذا يدور على الروح الحيوانيِّ ، فما دام هذا البُخارُ باقياً على الوجه الذي يَصلُح أن يكونَ علاقةُ بينهما فالحياةُ قائمةٌ ، وعند انتفائه وخروجِه عن الصلاحية له تزول الحياةُ ويخرج الروح من البدن خروجاً اضطرارياً ، وهو الموتُ الحقيقيُّ . وكما يخرج الروح من البدن خروجاً اضطرارياً كذلك قد يخرج منه خروجاً اختيارياً ويعود إليه متى شاء، وهو الذى سماه الصوفيّةُ بالانسلاخِ. وهو مذهبُ أهل السُنّةِ والجماعةِ ، فالروح جسمٌ لطيفٌ مُغايِرٌ لهذا الهيكل المحسوسِ . وهذه أسرارُ البرزخ وأحوالُ القبرِ وما فيه من الألم واللّذَّةِ الجسمانيين ، وكونُه روضةٌ من رياض الجنّةِ أو حُفرةٌ من حُفرِ النار .
فالشهداء أحياءٌ في الحياة البرزخيّة ، متنعِّمون لأنهم أجسامٌ لطيفةٌ كالملائكة فإنهم موجودون أحياءً . فكلُّ نعيمٍ يتنعّمُ به الصِدّيقون والشهداءُ والصالحونَ في البرزخ خياليٌّ ، وكذا كلُّ عذابٍ يتألّمُ به الجهنميّون ومصداقُ ذلك أنّه إذا نُفخ فى الصور ، وبُعِثَ الخلقُ ينسى كلُّ واحدٍ منهم حالَه في البرزخ ويتخيّلُ أنّ ذلك الذي كان فيه منامٌ ، كما تخيّله المستيقظُ ، وقد كان حين مات وانتقل إلى البرزخ كالمستيقظ هناك وأنّ الحياة الدنيا كانت له كالمنام ، وفي الآخرة يعتقد فى أمرِ الدنيا والبرزخ أنّه منام في منامٍ ، وأنّ اليَقَظةَ الصيححةَ هي التي هو عليها في الدار الآخرة حيث لا نومَ فيها ولا نومَ بعدها .
قوله تعالى: {أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي: لا تقولوا: هم أمواتٌ ، وكذلك "أحياءٌ" خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي: بل هم أحياءٌ ، وقد راعى لفظَ "مَنْ" مرةً فأَفْرَدَ في قولِه: "يُقْتَلُ" ، ومعناها أخرى فَجَمَع في قولِه: {أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} واللامُ هنا للعِلَّة ، ولا تكونُ للتبليغ ، لأنهم لم يُبَلِّغوا الشهداء قولَهم هذا .
والجملةُ من قولِه: "هم أمواتٌ" في محلِّ نصبٍ بالقول لأنها محكيَّةٌ به ، وأما{بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ} فيتحمل وجهين ، أحدهما ألاَّ يكونَ له محلٌّ مِنَ الإِعرابِ ، بل هو إخبارٌ مِنَ الله تعالَى بأنَّهم أحياءٌ ، ويُرَجِّحُه قولُه: {وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} إذ المعنى لا شعورَ لكم بحياتِهم .
والثاني: أن يكون محلُّه النصبُ بقولٍ محذوفٍ تقديرُه ، بل قولوا هم أحياء ، ولا يجوزُ أن ينتصِبَ بالقولِ الأولِ لفسادِ المعنى ، وحُذِفَ مفعولُ "يشعرون" لِفَهْمِ المعنى أي: بحياتِهم .