يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
{يَا أَيُّهَا الذين} يا:أداة نداء ، أيُّ: منادى مبني على الضم على أنه
نكرة مقصودة ، كما لو قلت: "يا رجلُ ، و"ها" لازمة لأي عوضاً عما حذف منها للإضافة ، وزيادةً في التنبيه.
ولا تكون في غير النداء ، ويحذف معها الذكر العائد عليها ، تقول أكرم أيُّهم أفضل ، وأيُّهم هو أفضل ، تريد الذي هو أفضل. و"الذين" في موضع رفع صفة لـ "أَيُّهَا".
{يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ استعينوا بالصبر} على الذكر والشكر وسائر الطاعات من الصوم والجهاد وعدم المبالاة بطعن المعاندين في أمرِ القِبلةِ {والصلاة} التي هي الأصلُ والمُوجِبُ لِكمالِ التقرُّب إليه تعالى . {إِنَّ الله مَعَ الصابرين} معيّة خاصّة بالعون والنصر ولم يقل مع المصلين لأنه إذا كان مع الصابرين كان مع المصلين من باب أولى لاشتمال الصلاة على الصبر .
وإنما خَصَّ الصبرَ والصلاةَ بالذكر لأن الصبرَ أشدُّ الأعمال الباطنة على البدن ، والصلاةُ أشدُّ الأعمال الظاهرةِ عليه لأنها مجمع أنواع الطاعات من الاركان والسنن والآداب والحضور والخضوع والتوجه والسكون وغير ذلك مما لا يتيسر حفظُه إلا بتوفيق الله تعالى .
ودخول "مع" على الصابرين لأنهم المباشِرون للصبر ، وإنّ اللهَ مع الصابرين لأنّ الصابرين لا يَذهلونَ عن ذِكرِه وقال: {إنّ اللهَ مع الصابرين} ولم يقل مع المصلين ، وقال في آية أخرى {واستعينوا بالصبر والصلوة وإنها لكبيرة} فاعتبر الصلاة دون الصبر لأنّ الصلاة أشرف وأعلى من الصبر إذ قد يكون صبر بلا صلاة ولا تكون صلاة بلا صبر وذكر ههنا أنه سبحانه "مع الصابرين" فمعلوم أنه تعالى إذا كان مع الصابرين فهو لا مَحالة مع المصلين .
والصبر هو تحمل المشاقّ من غير جَزعٍ واضطراب وهو سبيلُ كل خير ومبدأ كلّ فضل ، فإنّ أوّلَ التوبة صبر عن المعاصى ، وأوّلَ الزهد الصبرُ عن المباحاتِ ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد)) وقال: ((الصبرُ خيرٌ كلُّه)) فمن تحلى بحُلية الصبر سهُلت عليه الطاعات واجتنابُ المنكرات ، وكذا الصلاة ، قال تعالى: {إنّ الصلوةَ تنهى عن الفحشاء والمنكر} .
وفى الحديث: "إذا جمعَ اللهُ الخلائق نادى منادٍ أين أهلُ الفضل؟ . قال: فيقوم ناس وهم يسيرون سراعاً إلى الجنّة فتَلَقّاهم الملائكةُ فيقولون إنّا نراكم سراعاً إلى الجنّة فمن أنتم؟ قالوا: نحن أهل الفضل فيقولون ما كان فضلكم؟ قالوا كنا إذا ظُلِمْنا صَبرنا ، وإذا أسيئ إلينا عفونا . فيقال: لهم ادخلوا الجنة فنعم أجرُ العاملين . ثم يُنادي منادٍ أين أهلُ الصبرِ فيقوم ناسٌ يسيرون سراعاً إلى الجنّةِ فتَلَقّاهُم الملائكةُ فيقولون: إنّا نراكم سِراعاً إلى الجنّةِ فمن أنتم؟ فيقولون نحن أهلُ الصبر فيقولون ما كان صبرُكم؟ قالوا: كنّا نصبر على طاعة الله ونصبر عن معاصي الله ، فيُقال لهم ادخلوا الجنّة . ثم يُنادي منادٍ أين المتحابّون في الله فيقوم ناس يسيرون سراعاً إلى الجنّة فتَلَقاهمُ الملائكةُ فيقولون من أنتم؟ فيقولون نحن المتحابون في الله ، فيقولون وما كان تحابُّكم في الله؟ قالوا: كنّا نتحابُّ في الله ....))
فالصر ثلاثة أقسام: صبر على طاعة الله حتى تؤديها، وعن معصية الله حتى تتركها ، وعلى أقدار الله المؤلمة فلا تتسخطها ، والصبر هو المعونة العظيمة على كلِّ أمر ، فلا سبيل لغير الصابر ، أن يدرك مطلوبه ، خصوصاً الطاعاتِ الشاقّةَ المستمرّةَ ، فإنها مفتقرةٌ أشدَّ الافتقار ، إلى التحمل والصبر ، وتجرع المرارة الشاقة ، فإذا لازم صاحبها الصبر، فاز بالنجاح ، وإن رده المكروه والمشقة عن الصبر عليها والملازمة لها ، لم يدرك شيئاً من الخير ، وحصل على الحرمان ، وكذلك المعصية التي تشتد دواعي النفس ونوازعُها إليها ، وهي في محل قدرة العبد ، فهذه لا يمكن تركها إلا بصبر عظيم ، وكف لدواعي قلبه ونوازعها لله تعالى ، واستعانة بالله على العصمة منها ، فإنها من الفتن الكبار . وكذلك البلاء الشاق ، خصوصاً إن استمرَّ، فهذا تضعف معه القُوى النفسانيّة والجسديّة ، ويوجد مقتضاها ، وهو التسخُّطُ ، إن لم يقاومْها صاحبُها بالصبر لله ، والتوكل عليه ، واللجوء إليه ، والافتقار على الدوام .
فالصبر محتاج إليه العبد ، بل مضطر إليه في كلّ حالةٍ من أحواله ، فلهذا أمرَ اللهُ تعالى به ، وأخبر أنه {مَعَ الصَّابِرِينَ} أي: مع من كان الصبر لهم خلقاً ، وصفةً ، ومَلَكةً بمعونته وتوفيقه ، وتسديده ، فهانت عليهم بذلك ، المشاقّ والمكاره ، وسهُلَ عليهم كلُّ عظيم ، وزالت عنهم كلُّ صعوبة ، وهذه معيّةٌ خاصّة ، تقتضي محبّتَه ومعونتَه ، ونصرَه وقربَه ، وهذه منقبة عظيمة للصابرين ، فلو لم يكن للصابرين فضيلة إلا أنهم فازوا بهذه المعيّة مِن الله ، لكفى بها فضلاً وشرفاً ، وأمّا المعيّةُ العامّةر، فهي معيّةُ العلمِ والقدرةِ ، كما في قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} وهذه عامة للخلق.
وأمر تعالى بالاستعانة بالصلاة لأن الصلاة هي عماد الدين، ونور المؤمنين ، وهي الصلة بين العبد وبين ربه ، فإذا كانت صلاةُ العبد صلاة كاملة ، مجتمعاً فيها ما يَلزَمُ وما يُسَنُّ ، وحصل فيها حضورُ القلب ، الذي هو لُبُّها فصار العبدُ إذا دخل فيها ، استشعر دخولَه على ربّه ، ووقوفَه بين يديه ، موقف العبدِ الخادمِ المتأدِّب ، مستحضراً لكلِّ ما يقولُه وما يفعله ، مستغرقاً بمناجاةِ ربّه ودعائِه لا جرم أن هذه الصلاة ، من أكبر المعونة على جميع الأمور فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولأن هذا الحضور الذي يكون في الصلاة ، يوجب للعبد في قلبه ، وصفاً ، وداعياً يدعوه إلى امتثال أوامر ربّه ، واجتنابِ نواهيه ، هذه هي الصلاة التي أمر الله أن نستعين بها على كل شيء .