فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
لما خص الله هذه الأمة بفضل قوة زائدة على ما لبني إسرائيل، قال لبني إسرائيل: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}، فأمرهم بتذكر نعمته المنبهة عن الغفلة لينظروا منها إليه وقال لهذه الأمة: "فاذكروني" ، فأمرهم في أن يذكروه بلا واسطة ، والفرق بينهما كالفرق بين شكرت لزيد ، وشكرت زيداً ، فشكرتُ له اعتبرت إحسانه الصادر عنه فأثنيت عليه بذلك ، وشكرتُه: إذا لم ألتفت إلى فعله ، بل تجاوزت ذلك إلى ذكر ذاته دون اعتبار أفعاله ، فهو أبلغ من شكرت له ، إذ قد يكون للإنسان فعل في الظاهر محمود ، ثم لا يكون ذلك الإنسان على الإطلاق محموداً ، وإنما قال: "واشكروا لي" ، ولم يقل واشكروني علماً بقصورهم عن شكره حق شكره كما قال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} فأمرهم أن يعدوا بعض أفعاله في الشكر له ، وشُكرُ اللهِ عزَّ وجلَّ أصعبُ عبادةٍ وأشرفها ، ولهذا قيل: غاية شكر الله الاعترافُ بالعجز عن شكره ، فكل نعمة يمكن شكرها إلا نعمة الله ، فإنّ شكرَها نعمة منه وتحتاج إلى شكر ، وهذا يؤدي إلى ما لا يتناهى ، فلهذا قيل: لا يقدر عليه ، ولصعوبة الشكر قال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}، ولم يُثْنِ ـ سبحانه ـ بالشكر إلاّ على أثنين من أنبيائه ، هما نوح وغبراهيم ـ عليهما السلام ـ حيث قال في نوح: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}، وفي إبراهيم قال: {شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ}، وذلك للتنبيه على شرف هذه المنزلة وصعوبتها .
وعطف قوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} على قوله: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ}، لأنه لما أمرنا باستقبال القبلة، وبين العلة وأنه يريد أن يتم نعمته علينا كما أنعم ببعثته رسولَه ، أمرنا بالذكر الواجب بعضه في الصلاة ، وبعضه في غيرها ، وقال: و{وَلا تَكْفُرُونِ} لأن الإنسان قد يكون شاكراً في شي ما ، وكافراً في غيره ، {فاذكروني} بالطاعة قلباً وقالباً فيعم الذكر باللسان والقلب والجوارح ، فذكر اللسان: الحمد والتسبيح والتحميد وقراءة كتاب الله تعالى ، وذكر القلب: يكون بالتفكر في الدلائل الدالة على التكاليف والوعد والوعيد وفي الصفات الإلهية والأسرار الربانية . وذكر الجوارح: استغراقها في الأعمال المأمور بها خالية عن الأعمال المنهي عنها ولكون الصلاة مشتملة على هذه الثلاثة سماها الله تعالى ذكراً في قوله: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله } الجمعة: 9 وقال أهل الحقيقة: حقيقة ذكر الله تعالى أن يُنسى كلُّ شيء سواه .
{أَذْكُرْكُمْ} أي أجازكم بالثواب، وعبر عن ذلك بالذكر للمشاكلة ولأنه نتيجته ومنشؤه ، وفي الصحيحين: "من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه" .
{واشكروا لِي} ما أنعمت به عليكم ، وإنما قدم الذكر على الشكر لأن في الذكر اشتغالاً بذاته تعالى وفي الشكر اشتغالاً بنعمته والاشتغال بذاته تعالى أولى من الاشتغال بنعمته .
{وَلاَ تَكْفُرُونِ} بجحد نعمتي وعصيان أمري وأردف الأمر بهذا النهي ليفيد عموم الأزمان وحذف ياء المتكلم تخفيفاً لتناسب الفواصل وحذفت نون الرفع للجازم .