وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
بعد أن أقام ـ سبحانه ـ الحجة على أهل الكتاب وبين أنهم يعلمون من كُتبهم أن محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبي ، وأن جحودهم لتحويل القبلة عنادٌ ومكابرةٌ ، بيّن الله ـ تعالى ـ هنا أنّ لكلّ أمّة قبلةٌ خاصة تتوجه إليها حسب شريعتها ، ليس في ذلك شيء من التفاضل ، وإنما التفاضل في عمل الخير ، فسارعوا أيها المؤمنون إلى الخيرات وتنافسوا فيها ، إنّ الله ـ سبحانه ـ سيجمعكم يوم القيامة ويأتي بكم من كلّ مكان تكونون فيه ، ثم يحاسبكم على ما قمتم به من أعمال ، فيوفّي المحسن جزاءه والمسيء عقابه ، أو يتفضل فيصفح . وهو على جمعكم من قبوركم وعلى غير ذلك مما يشاء قدير .
قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} جمهورُ القراء على تنوين "كل" ، وتنوينُه للعوض من المضافِ إليه ، والجارُّ خبرٌ مقدَّمٌ ، و"وِجْهَةٌ" مبتدأُ مؤخرٌ ، واختُلِفَ في المضافِ إليه "كل" المحذوفِ فقيل: تقديرُه: ولكلِّ طائفةٍ من أهل الأديان ، وقيل: ولكلِّ أهلِ موضعٍ من المسلمين وِجْهَتُه إلى جهة الكعبة يميناً وشمالاً . وفي "وِجْهَة" قولان ، أحدُهما: أنّها اسمُ المكانِ المتوجَّه إليه ، وعلى هذا يكونُ إثباتُ الواوِ قياساً إذ هي غيرُ مصدرٍ . والثاني: أنها مصدرٌ جاءَتْ على حَذْفِ الزوائدِ ؛ إذ الفعلُ المسموعُ من هذه المادةِ تَوَجَّه واتَّجَهَ ، ومصدرُهما التوجُّه والاتِّجاه ، ولم يُسْمَعْ في فِعْلِه: وَجَهَ يَجِهُ كَوَعَدَ يَعِدُ ، وكانَ الموجِبَ لحَذْفِ الواوِ من عِدَة وزِنَة الحملَ على المضارعِ لوقوعِ الواوِ بين ياءٍ وكسرةٍ ، وهنا فلم يُسْمَعْ فيه مضارعٌ يُحْمَلُ مصدرُه عليه .
قوله: {هُوَ مُوَلِّيهَا} جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ في محلِّ رفعٍ لأنَّها صفةٌ لوِجْهَة ، واختُلِف في "هو" على قولين ، أحدَهما: أنه يعودُ على لفظِ "كل" لا على معناها ولذلك أُفْرِدَ ، والمفعول الثاني محذوف لفهمِ المعنى تقديرُه هو مُوَلِّيها وَجْهَه أو نفسَه ، ويؤيد هذا قراءةُ ابن عامر: "مُوَلاَّها" على ما لم يُسَمَّ فاعلُه . والثاني: أنه يعودُ على اللهِ تعالى أي: الله مُوَلِّي القبلةِ إياه ، أي ذلك الفريقُ .
وقرأ الجمهورُ: "مُوَلِّيها" على اسمُ فاعل ، وقد تقدَّم أنه حُذِفَ أحدُ مفعولَيْه ، وقرأ ابن عامر ـ ويُعْزَى لابن عباس ـ مُوَلاَّها على اسمِ المفعول ، وفيه ضميرٌ مرفوعٌ قائمٌ مقامَ الفاعلِ ، والثاني هو الضميرُ المتصلُ به وهو "ها" العائدُ على الوجهة ، وقيل: على التوليةِ وعلى هذه القراءةِ يتعيَّن عَوْدُ "هو" إلى الفريق ، إذ يَسْتَحِيلُ في المعنى عَوْدُه على الله تعالى ، وقرأ بعضُهم: "ولكلِّ وِجْهَةٍ" بالإِضافة ، ويُعزى لابنِ عامر ،
فـ "لكلِّ وجهةٍ" متعلِّقٌ بقوله: "فاستبقوا الخيراتِ" أي: فاستبقوا الخيراتِ لكلِّ وجهةٍ ، وإنما قُدِّم على العاملِ للاهتمامِ به ، كما يُقَدَّمُ المفعولُ ، ولا يجوزُ أَنْ تُوَجَّه هذه القراءةُ على أنَّ "لكلِّ وجهةٍ" في موضعِ المفعولِ الثاني لمولِّيها ، والمفعولُ الأولُ هو المضافُ إليه اسمُ الفاعل الذي هو "مُوَلٍّ" وهو "ها" ، وتكون عائدةً على الطوائفِ ، ويكونُ التقديرُ: وكلَّ وجهةٍ اللهُ مُوَلِّي الطوائفِ أصحابِ القِبْلاتِ ، وزيدتْ اللامُ في المفعولِ لتقدُّمه ويكونُ العامِلُ فرعاً ؛ لأنَّ النَحْويين نَصُّوا على أنه لا يجوزُ زيادةُ اللامِ للتقويةِ إلا في المتعدي لواحد فقط ، و"مُوَلٍّ" مِمَّا يتعدَّى لاثنين ، فامتنع ذلك فيه . ويكون المفعولُ الأولُ محذوفاً ، والتقدير: اللهُ "مُولِّي التوليةِ كلَّ وجهةٍ أصحابَها ، فلما قُدِّمَ المفعولُ على العاملِ قَوِي باللامِ لولا أنهم نَصُّوا على المنعِ مِنْ زيادتِها في المتعدِّي لاثنينِ وثلاثة .
قوله: {فاستبقوا الخيرات} الخيرات: منصوبةٌ بنزع الخافض وهو حرفِ الجرِّ والتقديرُ: إلى الخيرات ، كقول الراعي:
ثنائي عليكم آلَ حربٍ ومَنْ يَمِلْ ... سِواكمْ فإني مُهْتَدٍ غيرُ مائِلِ
أي: إلى سواكم ، وذلك لأنّ "استبق" إمّا بمعنى سَبَق المجردِ أو بمعنى تسابق وغير جائز أن يكونَ بمعنى سَبَقَ لأنَّ المعنى ليس على اسبقوا الخيراتِ ، فبقي أن يكون بمعنى تسابقَ ولا يتعدَّى بنفسِه .
والخَيْرَات جمع: خَيْرة وفيهما احتمالان أحدُهما: أن تكونَ مخففةً من "خَيِّرَة" بالتشديدِ بوزنِ فَيْعِلَة نحو: مَيْت في مَيّت . والثاني: أن تكونَ غيرَ مخففةٍ ، بل تَثْبُتُ على فَعْلَة بوزن جَفْنَة ، يقال: رجلٌ خَيْرٌ وامرأةٌ خيرٌ ، وعلى كِلا التقديرين فليسا للتفضيل . والسَّبْقُ: الوصولُ إلى الشيءِ أولاً، وأصلُه التقدُّمُ في السير ، ثم تُجُوِّزَ به في كلِّ تقدُّم .
قوله: {أَيْنَ مَا تَكُونُواْ} أين: اسمُ شرطٍ تَجْزِمُ فعلين كـ "إنْ" و"ما" مزيدةٌ عليها على سبيلِ الجواز ، وهي ظرفُ مكانٍ ، وهي هنا في محلِّ نصبٍ خبراً لكانَ ، وتقديمُها واجبٌ لتضمُّنها معنى ماله صدرُ الكلامِ ، و"تكونوا" مجزومٌ بها على الشرطِ ، وهو الناصبُ لها ، و"يأتِ" جوابُها ، وتكونُ أيضاً استفهاماً فلا تعملُ شيئاً ، وهي مبنيةٌ على الفتحِ لتضمُّن معنى حرفِ الشرطِ أو الاستفهام .